السودان ومآلات الحرب المفتوحة

 


 

 

ناصر السيد النور
يبدو أن الحرب في السودان لم تستكمل دورتها بعد وصولاً إلى نصر يحققه أحد الطرفين عسكرياً أو وصولاً إلى سلام بالحوار بعد عام من حرب ضروس مما يرشحها إلى حرب كما بدأت مفتوحة على كل الاحتمالات بما يتوقع منها بالمعني العسكري والإنساني. فالمسار الذي يجري على الأرض يتأرجح بين حالة إنسانية مزرية وتصميم على مواصلة القتال ورفضاً لأي هدنة في شهر رمضان استجابة لدعوات شعبية وأممية. ومن أبرزها الهدنة التي كان قد أعتمدها مجلس الأمن الدولي في شهر رمضان الجاري بتصويت أغلبية أربعة عشر دولة وامتناع روسيا عن التصويت للقرار رقم 2724 بدعوة أطراف الصراع إلى وقف القتال وحل الصراع عن طريق الحوار. ولم يكن للهدنة كعادة سلسلة الهدن في الصراع أي أثر في إيقاف الحرب أو دخول القرار حيز التنفيذ بالتعبير القانوني، وإن لم يكن قرار الهدنة غير ملزمٍ للطرفين فإن وحشية الحرب وقبل كل شيء ذهبت بالحالة الذهنية والنفسية والعقدية لقادة الحرب من أن تستجيب لاي دعوة وتحت أي ذريعة كانت دينية (شهر رمضان)، أو سياسية (هدنة مجلس الأمن).
ومن المستغرب أن رفض الدعوة للهدنة أن يأتي من تصريحات يدلي بها علي كرتي الأمين العام لما يسمى بالحركة الإسلامية في السودان، وهو من العناصر المتشددة ومن أبرز قيادات النظام السابق. وبهذا التصريح الذي استبق به أجهزة الدولة أو جيشها المعني بالتخاطب في هذا الشأن العسكري، فالرجل من خلفية مدنية عمل وزيراً للخارجية ومناصب أخرى في النظام السابق ويتمتع بنفوذ كبير. ولكن بهذا التصريح تكون الاتهامات التي تزعم بأن الحرب الدائرة يتستر خلفها فلول النظام السابق باتت محل تأكيد وحقائق متجسدة فيما يعرف بكتائب المساندة المدنية ذات الطابع المليشي التي تتبع للحركة الإسلامية. وما يخشى أن تكون لتداعيات هذا الموقف المعلن من الحركة الإسلامية وامساكها بزمام المبادرة في الحرب من وراء الجيش انتكاسة في السبيل نحو الحل. فما خسره قادة النظام السابق بسقوط دولتهم عقب ثورة ديسمبر 2019م سوف لن يوقفوا الحرب إلا بالمعنى الذي يفسره المنحى الذي اتخذته الحرب مؤخراً من تمدد واستقطاب بين المكونات الجهوية ولذلك بما يضمن استمرارهم أو عودتهم إلى السلطة بطريقة أخرى أيا تكن الكلفة السياسية أو العسكرية والإنسانية.
وقد فاقم مؤخراً من تعقيدات الحرب وفي رمضان أيضاً الكارثة الإنسانية والمجاعة التي ضربت البلاد، وما تداخل فيها وعرضها لمناورات سياسية فيما يتعلق بمرور المساعدات الإنسانية بين الحكومة السودانية ومنظمات الغوث الدولية. فالفراغ الذي احدثته الحرب على مستوى البلاد لا يعنى فراغاً دستورياً قابلاً للملء من قبل أطراف سياسية لا تحكمها آلية تداول للسلطة في ظل انهيار شبه كامل للدولة. فالحرب وما أحدثته من شرخ لم يقتصر على الأضرار الهامشية في بنية الدولة، بل أحدثت شرخاً وتحولاً على مستوى البنية الاجتماعية والاقتصادية محولة الصراع من صراع على السلطة إلى صراع من أجل البقاء.
وبعد التطور الذي شهده الأسبوع المنصرم من نصر رمزي حققه الجيش السوداني بوصوله إلى مباني الإذاعة والتلفزيون بعد عام من سيطرة الدعم السريع عليها، وهو تحرك يحمل من قيمة رمزية في الذاكرة السياسية السوداني وما تعنيه الإذاعة أكثر من أي قيمة عسكرية في الوقت الذي لم تزل بقية المواقع من مؤسسات وقواعد وولايات بقبضة قوات الدعم السريع. وقد يعطي هذا الانتصار المحدود وما رافقه من زخم وسط قيادات الجيش وحلفاؤهم محفوفاً بالحذر المشوب لما يمكن أن يشكل ردة فعل انتقامية من قبل الطرفين تزيد مما خلفته الحرب من جراحات اجتماعية وتشوهات طبقت فيها كل وحشية بربرية الحروب. ولم يعد من الممكن في الحالة السودانية العودة إلى طبيعة الأمور في وقت قريب، إذ إن حالة الحرب الشاملة ورثاثتها تفوق كل تصورات يمكن أن تؤدي سياسياً إلى إنهائها كما ينبغي أن يكون.
ولعل في زيارة رئيس الوزراء السابق الذي أطاح به انقلاب الفريق البرهان وحلفائه من الإسلاميين أكتوبر 2021م الدكتور عبد الله حمدوك إلى مصر مؤشراً آخراً على مساعي الحل السلمي المحكوم بالطقس السياسي الإقليمي السائد، ويأتي حمدوك إلى القاهرة مترأسا لجناح سياسي يضم القوى المدنية السياسية مجموعة الحربة والتغيير التي تحولت بعد الحرب إلى تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) تنشط إقليميا في دول شرق أفريقيا، ولعلها المرة الأولى عربياً أن يحدث اختراق على صعيد الأزمة السودانية لطرف من خارج الدائرة العسكرية للصراع. والزيارة مهما تكن دعاويها وأثرها في الراهن السياسي السوداني إلا أنها تعد تحركاً كان مطلوباً من مصر تجاه القوى المدنية وهي التي لم تقارب الأزمة السودانية إلا من خلال منظور عسكري واستراتيجي. فظل حمدوك يوجه الدعوات لأطراف الصراع دون أن يجد أي استجابة خاصة من جانب الجيش وتواصلت مساعيه للسلام على مستوى المبادرات الإقليمية والدولية وإن تكن دون نتائج واضحة.
خرج صراع الجنرالين بعد عام من معادلات السياسية والعسكرية كحرب قابلة لتقييم الحساب والجرد سوى من استطالة تعصف بكل الجهود والمبادرات للحل أو التوصل إلى أدنى ما يمكن أن يقرب من نهاية مرغوبة بحكم ضرورة الواقع الإنساني. ولكن بما أن أطراف الأزمة السودانية على مستوى المبادرات والوساطات المتكاثرة تؤكد على وحدة أراضي السودان وسيادته وفق ما تثبته تشريعات نصوص القانون الدولي أو القرارات الأممية على مستوى المؤسسات الدولية الأمم المتحدة وجلس أمنها، إلا أن أزمة حرب الصراع السوداني قد حولت عسكرياً هذا المفهوم وفق تفسير كل طرف ما تعنيه السيادة من جغرافيا جهوية وهوية اجتماعية جديدتين. وبهذا تكون الحرب بعد عامٍ من الاقتتال المستمر قد شكلت سوداناً فاق في تكويناته الفعلية كل ما راكمته التجارب السياسية والعسكرية في تاريخ البلاد.
ويقف المجتمع الإقليمي والدولي أمام أزمة مركبة بين معضلة حكم داخلية وتكتلات إقليمية محتشدة تعمل على زيادة رفع وتيرة المستوى العسكري بغير نهايات قابلة للتنبؤ بها. فإذا كانت هذه الحرب قد مثلت ذروة الصراع على السلطة بين أطراف عسكرية ومن ثم اتخذت منحى اجتماعياً كحرب أهلية وما خلقته من حالات إنسانية من نزوح وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فإن المسئولية السياسية والعسكرية التي يمثلها الجيش الوطني برئاسة الفريق البرهان أو طرف الصراع الآخر قوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو ستكون محل اختبار كبير أمام التحديات الإنسانية والقانونية والسياسية لوضع نهاية للحرب. فالحرب المفتوحة التي اتخذت ملامحها منذ انطلاقها في الخامس عشر من ابريل الماضي كان من الممكن ألا تستمر بذات الوتيرة التي تتصاعد يوما بعد آخر لتكون حرباً مفتوحة لا تحدها معايير أو ضوابط أخلاقية وليس هذا ما يخشي منه وقد تجاوزت المعايير الإنسانية والقانونية بما لا تماثلها حرب أخرى في تاريخ الحروب داخل الدولة؛ ولكن يخشي بعد أن بلغ التقاطع والتداخل الدولي ما بين التقارب الإيراني والأوكراني والروسي في الأزمة أن تكون حرب السودان فضاء جديداً ومختبراً فاعلاً للأسلحة الفتاكة التي ربما لم تجرب إلا في هذه الحرب كما تكشف تقارير صحافية.
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية _٢٠ مارس ٢٠٢٤م

nassyid@gmail.com

 

آراء