السّفيْر الأديب هَاشِم عبدُالرازِق: رحيْلُ القَمَر

 


 

 

 


أقرب إلى القلب:

Jamalim1@hotmail.com

(1)
في روايتي الأولى "نقطة التلاشي" (2008)، والتي تدور وقائعها في ردهات الجامعة العربية في تونس ، بعد انتقالها إليها من القاهرة عام 1979، قال الراوي في آخر صفحات تلك الرواية :
(..إن أجسادنا تحيا في عصر التقنيات والتنوير، وعقولنا ترتع في ظلمات وجاهلية وغيبوبة. لكن لست أنا المسئول عن تغيير هذا الكون، كما لا يجديني الانسحاب المهين، أو الانكفاء إلى العزلة والجنون. لا . لن أقاتل وأنا في أمانة الجامعة العربية، مكبّلاً بالقيود ، بلا إرادة، بلا همّة. لن أقاتل، وأنا وسيفي في غمدٍ واحد، وقد تكشّف لي زمن الخواء العربي، فإما الهلاك، وإما أن انتبذ منه مكاناً وزماناً قصيا بعيداً عن الخيانات، بعيداً عن الظلمات، بعيداً عن الجاهلية الحالكة السواد. .).


(2)
جئتُ أنا إلى تونس، في ذات تلك الأجواء التي حكى عنها الراوي في روايتي. كانت تلك سنوات السبعينات الأخيرة من القرن العشرين وقد حفرتْ إتفاقيات "كامب دافيد" ما حفرتْ، من أخاديد بين أولئك المنضوين تحت راية الجامعة العربية المهترئة. قررتْ وزارتي نقلي من "كمبالا" إلى "تونــس"، دعماً لمندوبية السودان الدائمة الجديدة بعد انتقال الجامعة العربية إلى تونس العاصمة. هناك التقيت صديقي وزميلي الدبلوماسي، الغائب عنّي لسنوات : هاشم عبدالرازق.
من جلساتنا معاً في داره الرحبة في "المنزه الخامس" ، رأيت تونس بعينيه. عرفتُ منه خبايا السياسة، وأنبأني عن اختلاف القيادات والصراعات الخجولة، حول من يخلف رئيس الدولة "بورقيبة"، وقتذاك. عرفتُ منه منتديات الثقافة والأدب والفنون، وفعاليات مهرجانات الصيف في تونس. "مهرجان قرطاج". السينما. المسرح . حفلات فناني وفنانات العرب في مسارح تونس. بعيني هاشم، تخيّرت قراءاتي التونسية بينها كتابين فريدين في الأدب العربي، الأول عنوانه "حدّث أبو هريرة قال.." ، والثاني هو رواية "السّـد"، وكلا الكتابين من تأليف الأديب التونسي الكبير "محمود المسعدي". ولقد حسب العميد طه حسين، أن كاتب "السّــد" قد تأثر بالكاتب الوجوديّ "ألبير كامي"، فكان ردّ "المسعدي" بعد ذلك، أن بينه وبين "البير كامي" "حجاب المعاصرة"، فقد عاشا معاً في زمان واحد، إذ كتب المسعدي روايته "الســد" عام 1938، قبل أن يعرف الناس "وجودية" كامي. .
في تونس عرفتُ هاشم عبدالرازق الأديب ، فوق معرفتي به دبلوماسياً حاذقاً متمكنا.


(3)
قليلون من يعرفون مكابدات هاشم في منعطفات مهنته الدبلوماسية. إن روح الصوفيّ متجذرة في طبعه ، بل هي خلق قد استمسك به ، ومن إرثٍ راسخٍ تحدّر إليه من عترة "أبي قرون" ، ومن نيران قرآنها وذاكري مجد العقيدة، ومن حب الخالق ومحبة رسوله الكريم. قليلون من يعرفون عنفوان كبريائه النبيل، حين صارعه رئيس البعثة الدبلوماسية في تونس، وهو عضو فيها، فأنصفته رئاسة وزارة الخارجية. امتعض سفيره في تونس، حين قررتْ رئاسة الوزارة نقل هاشم من "تونس" إلى "كمبالا" ، بعيداً عن السفارة التي أحبها وحقق فيها منجزات، لا ينكرها حتى سفيره الذي صارعه. حُرمتُ من صحبته تلكم الأيام، ولكن عزائي أنه رحل ليشغل الكرسي الذي شغلته لسنواتٍ، قبله في "كمبالا". .


(4)
من محاسن الأقدار في "تونس"، أني كنت في أيام وصولي الأولى إليها، مشغولاً بإعداد مخطوطة روايتي عن "كمبالا". لكأنه - ومن محبته لما ظللت أروي له عن أيامي في "كمبالا" - وهو الأديب الأرب- يشجعني لمواصلة السرد في روايتي "دفاتر كمبالا"، أحسّ أن القدر سيختاره ليشاركني دفء"كمبالا" ومحبتها الاستوائية، وليستظلل هناك بحفاوة غمامها وغاباتها وأناسها الطيبين.
في "كمبالا"، ارتاحت نفسه من رهق أيامه ومكابداته ، ولكنه حفظ خيط التواصل بيني وبينه، فظلّ يسألني بين كلّ سانحة في تلك السنوات، عن مآل مخطوطة رواية "دفاتر كمبالا". حين صدرت روايتي من بيروت في عام 2009 ، وأعددت لتدشينها ومناقشة أحداثها لقراء الخرطوم ، أشرف الأديب السفير الشاعر محمد المكي ابراهيم على التدشين . أما هاشم فتولى في جلسة ثانية بعد ذلك، مناقشة رواية هو صاحب الفضل الأول في إخراجها للناس، إذ هو من شهد كتابتي لفصولها الأولى في العاصمة التونسية، أوائل الثمانينات من القرن العشرين، كما أوضحت. .


(5)
غير أن مسلسل المكابدات، لا يفتأ يلازم هاشم، كما ظلّ ملازماً لي في تجربتي في وزارة الدبلوماسية. عقد التسعينات لم يكن عقداً سعيداً لى ولا له، فكنا توائم في المكابدات. تلك سنوات اضطربت فيها أكثر أحوال الدبلوماسية استقراراً، وكلل- أو لك أن تقرأها كال- الرماد أكثر ألوانها إشراقا. لحقَ العنتُ بكثيرٍ من الدبلوماسيين الذين ولجوا إلى المهنة بمعايير "المهنية الراسخة"، وبقوا على ولائهم للوطن لا للتحزّب، إنحيازاً للمباديء الناصعة، لا ميلاً للأجندات الخفية .
هاشم وشخصي، كنا من بين هؤلاء في كبد المعاناة. لم يُكتب لأوقاتنا هناءاً في الوزارة، بل عنتاً كاد أن يكون تهميشاً، تحملناه بشقّ الأنفس . كنا من بين قلة نفدت من مقاصل التمكين، وإن لم نكن بمنجاة من معايير التصنيف الظالمة. أطلق علينا البعض ممّن هم في الضفة الأخرى، صفة "أقباط الدبلوماسية" في وزارة الخارجية. هاشم صديقي - وإن كان نسبه راسخاً في "أم ضواً بان" – لكن لا يتخطاه اللقب العجيب، مع عظيم تقديرنا لأهلنا الأقباط. .


(6)
لا أعرف أحداً احتفى بما أكتب من قصصٍ أو من مقالٍ، أكثر من صديقي الأديب السفير هاشم عبد الرازق صالح. ومن معزّته لشخصي الضعيف، ومن تقديره لكتاباتي، فقد أسرّ لي، قبل أكثر من عام، أنه يعدّ مفاجأة لي ، وأفصح لي شيئاً عنها. حدّثني عن مقاربة سيعمل عليها، بيني وبين أحد مؤسّسي الدبلوماسية السودانية ، سمييّ المُعلّم الراحل جمال محمد أحمد. سعدتُ أيّما سعادة بما كان يعدّ لي، وذكرته بمقالٍ كتبه ونشره في صحيفة "اللواء" اللبنانية، صديقنا الصحفي اللبناني الأستاذ الكبير فؤاد مطر، مرحّباً بمقدمي سفيراً إلى بيروت ، عنوانه "من جمال إلى جمال". ربط الأستاذ مطر مَقدمي إلى بيروت، في منتصف عقد الألفية الثالثة، بمَقدم جمال محمد أحمد أول سفير للسودان في لبنان في النصف الثاني من أعوام الخمسينات، بعد استقلال البلاد.
إرتأى صديقي هاشم أن ينطلق من تلك الرابطة ، ثم يدلف إلى مشروعي في الكتابة الروائية ، وهو الحصيف الذي لازم بداياتي ورافق سردياتي جميعها. . ترك بعض أوراق ، ورحل بغتة وقد كان شجرة وارفة الظلال، فهل قدر الأشجار أن تموت واقفة . . ؟


(6)
حدثتني الإبنة "قبس هاشم"، كريمة الراحل العزيز ، أنها كان تتابع ما بيني وبين والده، صديقي السفير هاشم من تفاكر ، وأنها كانت الأقرب غليه، تساعد في طباعة وترتيب أوراقه وكتاباته. ولأني أعرف روح الصوفيّ التي تسكن صديقي الراحل ، فقد كنتُ أعذر إهماله لوسائل التواصل والتراسل المحدثة. إلى ذلك فقد إختار "منتدى كتاب الشهر" الذي ينعقد في "قاعة الشارقة"، كتابه عن هجرة "المك نمر" وبعض الجعليين إلى بلاد الحبشة، بعد مقتل إسماعيل باشا، وهو كتاب ألفه الراحل، فريد في محتواه. غير أن منظّمي الندوة، فشلوا في الوصول إلى صديقنا هاشم، ليحضر ندوة كتابه. لكن الندوة قامت في موعدها وبحضورٍ كثيف، برغم غياب المؤلف. شاركت في تلك الفعالية، وقدمت ورقتي حول الكتاب، وأشرتُ إلى قيمته التاريخية المهمة ، والتناول الأكاديمي الرصين الذي عالج به الراحل ذلك الموضوع، واقترحتُ إعادة طباعة الكتاب بما يليق بموضوعه الهام. .

(7)
تلفتنا نبحث عنه لنعزّي في رحيل إبنه أحمد، لنفاجأ برحيل من قصدنا أن نعزّي. رحم الله حبيبنا هاشم، فأنا لم أبكه هنا، بل بكيتُ نفسي معه. . إن الذي فقد فلذة من كبده قبل نحو شهر، في حادث مفاجيء ومفجع، قد رضي بقضاء الله وأسلم القدر إليه، غير أن القلب انكسر لعظم ذلك الرحيل ، وأن من الحزن ما قد ينزع عن الحياة حسن مذاقها، وعن السماء قمرها الفضيّ المضيء، ومن النخل ثمره فيموت واقفا. .
غفر الله له وغفر لنا ، وغفر لكم قراء مقالي . . فقد ودعنا سفيرٌ عزيزٌ وأديبٌ صوفيّ همام ، قبل ايام. .

لندن- 2 أغسطس 2018

 

آراء