ما حدث عشية التاسع والعشرين من رمضان من تجدد لقتل المتظاهرين على أيدي القوات النظامية أمر يثير الغضب حقا. فبعد عامين من نجاح الثورة أفطر الساسة الشباب الذي أوقد نارها على بصلة الخزي، والعار، وسفك الدماء. فالحكومة فشلت تماما في أن تكون على قدر المسؤولية، وركز الذين وقفوا على إعادة أمر تشكيلها على الاستهبال لا غير. فقوى الحرية والتغيير تآمرت على قتل فكرة تكوين المجلس التشريعي - قبل أن تتشظى - لتنفرد بالقرار السياسي، والقانوني. وشهدنا كيف أن كل الأطراف المعنية بتشكيل هذا الجهاز التشريعي المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية اختصرت المشوار بأن تقرر هي فقط في التأطير السياسي لحاضر، ومستقبل البلاد. وهكذا صارت حكومة حمدوك تضع سياسات داخلية، وخارجية بلا مشورة، وتكذب علينا بأن ذلك المجلس التشريعي الغائب دوره هو وحده المسؤول عن إجازتها. الحقيقة أن المراوغة السياسية المخلفة بالوداعة هي ما تميز حمدوك، وشركاءه، فيختفون وراء عدم الشفافية، ويحتالون علينا بتمرير هذه السياسات العرجاء. قالوا لنا إن مجلس الشركاء لا سلطة له للتقرير بشأن أمهات القضايا، ولكنهم يجتمعون بليل بديلا عن المجلس التشريعي ليمرروا السياسات الكبيرة ثم يختفون من أجهزة الإعلام حتى لا يوضحوا للشعب السوداني الحقائق. إن حمدوك هو نقطة ضعف الانتقال، وهو المسؤول الأول عن هذا التماطل بمكره في الانفراد بالقرارات التي تخص قضايانا الداخلية والخارجية حتى لا يقف أمام جهة تحاسبه. فهو صاحب المصلحة الأولى في تغييب دور المجلس التشريعي الذي يضبط صلاحية القرارات الصادرة من الجهاز التنفيذي، وهو الذي يحدد وجهة بلادنا الداخلية، ويراجع خياراتنا في المواقف الإقليمية، والدولية. ولو كان حمدوك صادقا، وحريصا، على احترام أهداف الثورة التي أتت به لضغط لأجل قيام المجلس الرقابي، أو هدد بتقديم استقالته ما دام هو المؤتمن الأول الذي وثق فيه الثوار على إكمال هياكل السلطة الانتقالية. إن قحت قبل احتراب قواها بعضها بعضا، وبعده، تتحمل المسؤولية كاملة أيضا. فهي قبل أن ينفرط عقدها تماطلت في تحديد أولوياتها. فبدلا عن أن تقوم بعد شهرين بالإسراع في تشكيل المجلس التشريعي قررت الانفراد بالسلطة الانتقالية وحدها حتى إذا تشاكست قواها، واستعر حربها الظاهر والمستتر، استفاد حمدوك من هذا المناخ ليحكم قبضته على القرار الحكومي. فهو الذي يحدد الوجهة السياسية، والقانونية، والاقتصادية، والخارجية للحكومة حيث لا يهتدي إلا بحزبين أو ثلاثة قطرهم وراءه ليعفي نفسه من أي مرجعية ثورية تلزمه بالطموحات التي استشهد من أجلها هذا الشباب. ولعل المسخرة الكبيرة من حمدوك أن ينفخ أوداجه ليخرج للناس ببيان مخادع بعد اغتيال الشباب حتى يعطي الانطباع على حرصه على دمهم المهدر الذي أهدره شركاؤه. فحمدوك احتال مع مكون مجلس الشركاء المكون من أحزاب، وعسكر، وحركات، ليقتلوا فكرة المجلس التشريعي التي استشهد الشباب لقيامها. ولكنه هو الاحتيال بعينه حين يتنمرون غاضبين من مقتل شباب ما وجدوا عندهم إلا الهروب من دائرة الضوء ليخاطبوا مشاكلهم الحقيقية والتي حملوها نيابة عن أهاليهم. فمجلس حمدوك الوزاري غائب تماما عن تحقيق الشفافية فهو يهرب من أجهزة الإعلام ووزيره للثقافة والإعلام ظهر للناس قبل شهرين بأداء ضعيف، ومنذها فضل الاختفاء عن الأنظار، أما غالب الوزراء والمسؤولين فلا أرضا قطعوا، ولا ظهرا أبقوا. وإذا تحدثوا للإعلام فلا يأتي كلامهم بفائدة سوى التعتيم على الحقائق. صحيح أن العسكر السياديين هم جزء جوهري من الأزمة، ولكن ما الذي لا يحملهم على التدخل في السياسة الداخلية والخارجية إذا كان عقد المدنيين منفرطا، وبعض منهم أمثال قادة المؤتمر السوداني، والتجمع الاتحادي، وحزب الامة مستعدون بجانب حركات مسلحة، وأقلية تابعة للمجتمع المدني يفضلون مجلس الشركاء، عوضاً عن التشريعي، حتى يكبتون أحلامنا في وحدة القوى الثورية. إذ بدونها يهدر القادة العسكريون، ومن خلفهم الإمارات والسعودية آمالنا في حكومة قوية، وفاعلة، لتنجز مهامها المرسومة في الوثيقة الدستورية، على علاتها. السوال هو: ما الذي يمكن أن يفعله بيان حمدوك البارد، واستقالات أعضاء من مجلس الشركاء في ظل المشكلة العضوية التي تواجهنا وهو التآمر من قبل حمدوك والمكون العسكري ومن خلفهما الإقليمي في قتل فكرة المجلس التشريعي طوال العامين الماضيين، والذي لو كان موجودا لتعرض حمدوك، ووزراؤه، للمحاسبة على كل الأخطاء التي ارتكبوها؟ لا نعتقد أن هناك إمكانية للانتقال السياسي السلس والمؤسس في ظل غياب أداة رقابية على من يسمون أنفسهم شركاء الحكم. ولن يتوقف اقتتال الناس في المدن، والأرياف، بسبب التظاهر، وغيره، إذا لم يتم التعامل بحزم مع جيوب المنتمين للمؤتمر الوطني الذين يفضل حمدوك والقادة العسكريون الإبقاء عليهم في الخدمة المدنية، والجيش، والأمن. ولكل هذا لا يمكن الاعتماد على العويل عند كل اغتيال لمواطن بنفخ الأوداج بينما وسط شركاء الحكم محترفون في القتل. والاعتقاد لو كان هناك مجلس تشريعي حقيقي لتمت مساءلة كل أعضاء مجلس شركاء الحكم عن هذه الدماء الغزيرة التي أُهدرت بعد عامين من الثورة.