الشــــياطين الثـــلاثـــة!

 


 

 

لا يختلف اثنان أن أوضاع السودان قد تأزمت فوق كل احتمال، بعدما انسدت آفاق الحوار بين شركاء الحكم انسداداً لا مزيد عليه.
جاءت هذه الأزمة على خلفية لوحة رائعة تعج بألوان بهية وفسيفساء جميلة: فهنالك استقرار في سعر صرف الجنيه السوداني، وتراجع بطيء، لكنه مطرد، في ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وبشريات بإنتاج زراعي وفير هذا العام. هنالك أيضاً رفع العقوبات الأمريكية وانفتاح السودان على العالم، وتدفق تحويلات المغتربين والمستثمرين عبر قنوات رسمية. أما الحدث الأهم فهو، بلا منازع، اتفاقية سلام جوبا، الموقعة في أكتوبر من العام الفائت، والتي تمثل نقلة نوعية في مسار الحكم المستقبلي في السودان، مع أنها لم تبت بشأن نظام الحكم الفيدرالي الذي سينص عليه الدستور المقترح إعداده بنهاية الفترة الانتقالية؛ ورغم أنها تمخضت فوراً عن استقطاب جهوي ودعاوى كثيرة بالحق في تقرير المصير، سراً وإعلاناً.
شغلتنا هذه اللوحة الزاهية لنجد أنفسنا أمام بذور نبتة جهنمية ما أن شربت مياه عذبة وتغذت من تربة خصبة حتى تبرعمت وتكشفت عن رؤوس الشياطين: جبريل، مناوي وهجو.
تناسوا بنود اتفاق جوبا، وتجاهلوا نصوص الوثيقة الدستورية، ليشرعوا فوراً بقدح زناد الفتنة وتأجيج النزعات العنصرية والقبلية في إطار من التهديد والعنف والصخب. وصل بهم التهديد حد التوعد بإشهار السلاح داخل المدن، وكأنهم لم يقرؤوا تاريخ السودان ولا عرفوا بسالة رجاله ونسائه وغزارة دماء شهدائه على امتداد ماضيه البعيد وطوال أيام ثورته الراهنة.
بهذا الموقف العبثي، كشف الثالوث عن أبشع الأجندة التي تستهدف تحقيق منفعة ذاتية على حساب شعب غلبان ظل يكابد المسغبة منذ أكثر من ثلاثين سنة. لم يستح الثالوث من إبداء ما تكنه دواخلهم؛ فبعدما اشتد عودهم عقب اتفاق جوبا وتسنموا مناصب قيادية رفيعة، راودتهم أحلام يقظة وطمعوا في سلطة أوسع، تتجاوز الأقاليم برقعتها المحدودة لتفرد جناحها على بلد حدادي مدادي. طمعوا ولم يعلموا أنهم بذلك قد وقعوا!
ولأن الثالوث يدرك أن هذه الأجندة يستحيل تحقيقها في ظل نظام مدني ديمقراطي، ذي سلطات منفصلة وصحافة حرة تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، فقد وجد ملاذاً له في بعض قادة العسكر، مستنجداً بهم لإعادة تدوير الإنقاذ بعد استبعاد العناصر المشاكسة منها. بذلك الطريق وحدها يستطيعون مواصلة شفط الأموال من بلدان إقليمية.. وهي أموال طالما سال لعابهم لها وأيقنوا سخاء أصحابها وتساهلهم عند إنفاقها.
لحسن حظ الثالوث، ولسوء حظ الشعب الغلبان، فإن بعض قادة العسكر كانوا على أتم استعداد لمد يد العون. فهؤلاء القادة يحملون بين جنباتهم جميلاً لا يجحد نحو الإخوان المسلمين، ثم إن نفوسهم لا تطاوعهم على تسليم السلطة للمدنيين لينهوا بذلك حكم عسكري استمر، على تقطع، نحواً من 52 سنة (6+16+30) من بين 65 سنة هي عمر السودان منذ الاستقلال. تلك في نظرهم مسؤولية تاريخية لا يستطيعون تحمل تبعاتها. ذلك أن قاماتهم أقصر كثيراً من زعامات عملاقة عرفها تاريخنا وظلت قدوة في الوجدان السوداني.
أمام كل هذه الفوضى التي يعج بها المشهد السياسي في السودان، يبقى الحل الوحيد هو شحذ سلطة الشارع واستنفار حراكه الشعبي الدؤوب الصبور حتى يضع حداً لهذه المهازل الصبيانية والعبث الشيطاني بالعهود والمواثيق. وفي المقابل، على الحكومة المدنية، بزعامة د. حمدوك، المجمع عليها، أن تستجيب فوراً لمطالب الحراك الشعبي دونما تلكؤ أو جمجمة.. ولتقم بفرض هيبة الدولة بلا تردد.

yassin@consultant.com

 

آراء