الصراع حول الأرض في السودان (3)

 


 

 


ثالثا:

 الأرض في مملكة الفونج

1

                أشرنا سابقا الي أنه في ممالك النوبة المسيحية كانت الأرض والرعايا من أملاك الحاكم ، ولم تكن هناك حقوق تنظم ملكية الأرض ، وكان الفلاحون يعتبرون عبيداً لملك النوبة أو من ينوب عنه في المناطق البعيدة عن السيطرة المباشرة للملك وبالتالي لم يكن للمزارع الحق في التصرف في الأراضي بالبيع والشراء.

  وكان ملك النوبة أو من ينوب عنه يستحوذ على كل الإنتاج الزراعي الفائض بعد أن يحسم الجزء الضروري من المحصول الذي يكفي لمعيشة المزارع وأسرته ، وكان مجموع النتاج الزراعي الفائض يوزع على الطبقات المالكة (ملوك، موظفين، قادة الجيش، كهنة ،الخ) أي الطبقات التي تحكم ولكن لا تشارك في عملية الإنتاج .

  وبالتالي فإن المزارع كان يعيش في فقر دائم ومستمر، والواقع أن تعبير المزارع هنا ليس دقيقاً فنحن هنا لسنا أمام نظام أقطاعي كما هو الحال في أوربا القرون الوسطي حيث كان الفلاح يمتلك قطعة أرض يقسم العمل فيها على أساس عمل ثلاثة أيام في أرضه وثلاثة أيام في أرض الأقطاعي أو أرض الكنيسة أو الدير وكان عائد عمله يعود له ،وهو يشكل العمل الضروري لمعيشته ومعيشة أولاده ، أما نتاج عمله في أراضي الاقطاعي أو الكنيسة وهو ما يسمى بالنتاج الفائض الذي يستحوذ عليه الاقطاعي أو الكنيسة وهذا هو أساس حكم الطبقات الأقطاعية التي كانت تحكم في أوربا القرون الوسطي .

   أما في ممالك النوبة المسيحية فقد كان الوضع يختلف ، فالفلاح نفسه كان عبداً لملك النوبة وكانت علاقة الإنتاج هي نفسها علاقة الإنتاج في المجتمع العبودي ، أي أن ملك النوبة أو الكنسية أو الدير كان يستحوذ على كل النتاج الفائض مقابل معيشة العبيد وأولادهم . وتلك كانت مرحلة متخلفة من النظام الاقطاعي الذي كان سائداً في سودان وادي النيل في بداية العصور الوسطي وحتى قيام دولة الفونج ، فماذا حدث بعد قيام دولة الفونج ؟.

2

              بعد قيام دولة الفونج حدثت تطورات جديدة فيما يختص بملكية الأرض وفيما يختص بالطبقات ، فقد ظهرت طبقة المزارعين بالشكل المعروف وبالمعني الدقيق ، أي المزارع الذي كان يعمل في أرضه أو أرض زعيم القبيلة أو الشيخ ، ويتم توزيع نتاج عمل المزارع (محصوله) بنسب معينة أو مقابل ضرائب أو خراج للسلطان ،أي أن عمل المزارع أنقسم إلى عمل ضروري يكفي لمعيشة أولاده ، وعمل فائض يوزع بنسب معينة على مالك الأرض أو شيخ الطريقة أو السلطان (زكاة ، فطرة) وبالتالي ظهر نوع جديد من الاستغلال أصبح يعاني منه المزارع كما ظهرت أيضاً طبقة التجار التي كانت نواتها من التجار العرب والمسلمين  الأجانب الذين بدأوا يتكاثرون في أرض النوبة منذ إتفاقية البقط ، وظهور هذه الطبقة كان تعبيراً جديداً عن تطور الإنتاج الزراعي والصناعة الحرفية ، أي تقسيم جديد أرقى للعمل، والتجار أرتبطوا مع المزارع بعلاقة جديدة .

 هذه هي أبرز التطورات التي شكلت طوراً أرقي من أطوار التقدم الاجتماعي الذي حدث مع ظهور دولة الفونج .


ملكية الأرض :

  بعد قيام دولة الفونج وعلى نسق الأقطاع الشرقي أصبح السلطان هو المالك الأساسي لكل الأراضي ، وكان من وظائف السلطان أنه كان يقطع الأرض ويحدد كيفية استغلالها وكانت هذه الاقطاعات تهب لأعيان الدولة أو السلطان نفسه أو شيوخ الطرق الصوفية وفي كل حالة يحدد الخراج أو الإعفاء منه.

 (للمزيد من التفاصيل راجع د.محمد إبراهيم ابو سليم ، الفونج والأرض ، وثائق تمليك ، 1967، ود. ابوسليم ، الفور والأرض ، وثائق تمليك 1975، راجع ايضا أ.س. بولتون ، أضواء علي الملكية الزراعية في السودان، ، ترجمة هنري رياض ، الخرطوم مكتبة خليفة عطية، بدون تاريخ).

   هذا فيما يختص بالأراضي التي تزرع بأساليب مختلفة سواء كانت بالرى  الانسيابي أو الري المطري أو الرى بالسواقي ، أما أرض المرعى فهي لتربية الحيوان لا الفلاحة ( الفلاحة هنا معيشية فقط ليست حرفة أساسية ) فعلاقة الملكية هنا جماعية بحكم ظروف المرعي فالأرض مفتوحة للقبيلة كلها .

  أي أن العلاقة القانونية هي أن الأرض ملك للجماعة أو القبيلة كلها مسئولة عن حمايتها من تغول القبائل الأخرى سواء كان بالنزوح الدائم إليها أو النزوح من أجل المرعي وعن تنظيم الرعي ودورته ويمثل سلطة القبيلة شيخها ويدفع شيوخ القبائل نسبة معلومة من الضرائب أو الخراج لشيوخ العبدلاب أو لسلطان الفونج .

ثم هناك الغابات وهي منطقة عامة للجماعة أو القبيلة كما أن استغلالها على الشيوع في حدود الجماعة أو القبيلة فإن ملكيتها على الشيوع أيضاً بنفس المقدار وتنظم كل قبيلة حسب أعرافها وتقاليدها حق كل بطن وكل أسرة وكل فرد من هذا ،الملك وشيخ القبيلة بمعاونه حفظة العرف وهو المنوط بتطبيق ما هو معقود بعرف القبيلة أو تقاليدها .

  ويدفع شيخ القبيلة خراجاً معلوماً من نتاج عمل الغابة (خشب ، صمغ.) لسلطان الفونج أو الفور.

 وجاء في الطبقات مثال لذلك عن زراعة أراضي حمد ودام مريوم ما يلي : " ومنها أن دار زراعته مسك للسلطنة عليها نصف الخراج بلقط الورق (ورق اللوبيا) والقرون (الباميا) والقنقر (الذرة الشامية) يقسم نصف للسلطنة يديهم أياه .

وهذا مثال لتوزيع خراج حمد ود أم مريوم الذي كان يأخذ نصفه ويذهب النصف الأخر للسلطان الذي أقطعه الأرض .


    نخلص من ذلك إلى أن دولة الفونج عرفت الملكية الخاصة للأراضي الزراعية بحجج معينة من السلطان والملكية على الشيوع أو ملكية القبيلة فيما يختص بأراضي المراعي والغابات وفي كل الأحوال كان خراج هذه الأراضي يصل للسلطان أي أن النتاج الزراعي والرعوي الفائض كان يصل جزء منه للسلطان في شكل محاصيل أو ماشية (جمال – بقر - ضأن) ، هذا هو الأساس الاقتصادي والمادي لسيطرة حكام الفونج السياسية .


 3

 وثائق تمليك الأرض في مملكة الفونج:

بين أيدينا وثائق توضح كيفية تمليك الأرض في مملكة الفونج الوثائق عددها 44 وثيقة نشرها وحققها د. محمد إبراهيم أبوسليم ود.ح.ل. أسبولدنق. وصدرت عن دار النشر بجامعة الخرطوم 1992م بعنوان (وثائق من سلطنة سنار في القرن الثامن عشر).

ومن تلك الوثائق يمكن أن نستخلص الأتي حول ملكية الأرض في السلطنة الزرقاء :-

أ‌.          هناك أراضي التي كان يمنحها سلاطين الفونج للشيوخ والفقهاء وهي معفية من الضرائب بأنواعها المختلفة الشرعية والعرفية .

ب‌.       التمليك له صفة مستديمة تستمر طيلة حياة الشخص صاحب الملكية وتمتد إلى ورثته أو إلى ذرية المالك ، كما يرد في الوثائق "إلى أن يرث الله الأرض وما عليها" ( انظر الوثائق ، ص 66)..

ج‌.        يجوز لصاحب الملكية أن يتصرف في الأرض بالبيع ومثال على ذلك ما جاء في الوثيقة

 أن الفقيه الأمين بن الفقيه حمد بن محمد المجذوب أشتري من أمنة بنت محمود زوجة حمد ولد عون الله عود ونصف من السعدنابية بسبعة ثياب وفردة مما يشير إلى أن قيمة العود ونصف كان سبعة ثياب وفردة.

د‌.         هناك ضرائب شرعية وعرفية كان يدفعها أصحاب الأراضي للسلاطين مثل : السبل ، علوق ،شرور ، تورات ، كليقة ، خدمة ، نزول ، جسارة ، خسارة ، ضيافة ، عادة ، عانة ، قل ، جل ، مخلا ، سنسنة ، كسرة .

(للمزيد من التفاصيل، راجع تاج السر عثمان الحاج، لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004م). .

هـ. التمليك يتم في حجة تسمى سلطانية أو ملوكية عليها ختم السلطان والشهود وكاتب الوثيقة .

و‌.         كان سلاطين الفونج أيضاً يمنحون أراضي لشيوخ القبائل لينتفع بها أفراد قبيلة الشيخ وآخرين ويكون خراجها لشيخ القبيلة ، مثال الأرض التي منحها السلطان بادي بن دكين للشيخ عوض الكريم أبو سن كما ورد في الوثيقة ( انظر الوثائق، ص52).

     وفي هذه الحالة أيضاً يحق للشيخ أن يؤجرها وينتفع بخراجها .

ز‌.         الوثائق أيضاً تفيدنا في معرفة أسماء بعض المناصب القيادية من الشهود الذين كانوا يشهدون على الوثائق التمليك مثل مقدم الخيل ، مقدم القواويد ، مقدم السلطية ، مقدم السواكرة ، سيد القوم ، العمال ، الجراي. الخ

ح‌.        من الوثائق نفهم أن الشيوخ والمقاديم والجراي هم الذين كانوا يقومون بجمع الضرائب .

ط‌.        كما تفيدنا الوثائق ببعض الألقاب التي كانت سائدة لأبناء الطبقات العليا في المجامع مثل الأرباب .

                        وتفيدنا أيضاً بأسماء كانت سائدة في تلك الفترة مثل شاور ، مسمار ، جيت ، دكام ، شمام ، الأسيد ، زقبير ، الشوش ، دقيس ، مكاوي ، مرناتي ، هينو ، هاكبت ، برقاوي. الخ .

*    مع تطور الإنتاج الزراعي والإنتاج الصناعي الحرفي ( للمزيد من التفاصيل عن تطور آساليب الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي، راجع ، تاج السر عثمان الحاج لمحات من تاريخ سلطنة الفونج) ، ظهرت التجارة كحرفة مستقلة ، وبالتالي ظهرت رأسمالية تجارية كدست الفائض الزراعي في شكل عينى أو نقدي ، ومع ظهور تلك الطبقة حدث تطور إجتماعي واقتصادي وظهر التملك الخاص للأراضي بما في ذلك حق الشراء والبيع والإيجار والوراثة ، ففي السابق ، كما ذكرنا كانت الأراضي تعتبر ملكية جماعية في الفترة التي سبقت قيام مملكة نبته ومروى والنوبة وبظهور هذه الممالك أصبحت ملكية الأرض الزراعية كلها من نصيب الملوك أو الكهنة والعاملون فيها عبيداً لهم . وبعد ظهور دولة الفونج وحسب ما ورد في وثائق تمليك الأرض كان السلطان يصدر الوثائق بتمليك وتخصيص بعض الأراضي الزراعية لبعض الأشخاص ومنهم مشايخ وقادة الطرق الصوفية ، وأصبح من الممكن أن يرث أبناء هؤلاء هذه الأراضي ، وأن يعاد توزيعها إلى مساحات زراعية متعددة ولكن دون التصرف فيها بالبيع في تلك الفترة .

وعندما بدأ التفكك وتحلل سلطنة الفونج أصبح من الممكن التصرف في تلك الأراضي بالبيع والشراء وغيره ، وفي بعض الممالك النيلية قام الأثرياء وأصحاب النفوذ الاجتماعي بالإستحواذ على مساحات واسعة من الأراضي ليقوموا بزراعتها بواسطة العبيد ، وفي المناطق الأخيرة قام ملاك الأراضي بتقسيمها إلى مساحات صغيرة وعرضها للأيجار عن طريق المشاركة في الإنتاج ، وهكذا تحولت حقوق استغلال الأراضي إلى ملكية خاصة حقيقية .

(O. Fahey and Spaulding; Kingdom of Sudan, London 1974, P. 81- 82)

وهكذا يمكن أن نستنتج أن الملكية الخاصة للأرض بدأت تظهر وتتطور بقيام دولة الفونج.

 وفي كتاب الطبقات يرد مثال طريف للكيفية التي سيطر بها سلاطين الفونج على أراضي النوبة والذي ورد فيه ما يلي " رفض الشيخ إدريس نصف دار العسل والبصل التي منحها له الملك بادي بن رباط ملك سنار ، امتنع الشيخ وقال لهم : هذه الدار دار النوبة وأنتم غصبتوها منهم ، أنا ما بقبلها الرسول (ص) قال " من سرق شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين " وقال لهم : أعطوني الحجز في كل شيء وأعطاه الملك الحجز في كل شيء كما طلبه .

 (طبقات ود ضيف الله، تحقيق د. يوسف فضل ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، الطبعة الثالثة 1985، ص 60)

ويوضح د . يوسف فضل دار العسل والبصل بقوله :

ربما قصد بها المناطق التي تنتج تلك المحصولات فالعسل ينتج في منطقة كركوج وسنجة وهو الجزء الجنوبي من سلطنة الفونج ، بينما يزرع البصل في دار الشايقية (دنقلا) وهي الجزء الشمالي والحجز بمعني الوساطة وفض المنازعات والصلح بين المتشاجرين ومثال ذلك الشيخ إدريس.

وذلك تعبير مكثف لعلاقات الملكية الجديدة والتي بدأت باغتصاب ملوك الفونج عن طريق العنف والسلب والنهب لأراضي النوبة تمهيداً للسيطرة عليها ولقيام علاقات الملكية الجديدة ، التي تبدأ بتقسيم سلطان الفونج الأراضي بحجج معينة وبنسبة معينة من الخراج .



alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء