الطيب صالح والتغيير

 


 

 




لا يختلف اثنان على مكانة اديبنا السامقة الطيب صالح فى اداب العربية وفى فن كتابة الرواية مما اهله ليقف كتفا الى كتف مع عمالقة الكتاب العالميين وعن جدارة مستحقة. 
ولقد حظيت بقراءة مختارات المدن وحديث الشرق فى طبعته الاولى(مارس 2005) من تحرير د.حسن ابشر الطيب والاستاذ مجمود صالح عثمان صالح ولقد اعارنى الكتاب الاخ القارئ الذواقة نورالدائم عبدالوهاب نورالدائم.
وقد وجدت فى الكتاب متعة وفائدة اضافت الى معلوماتى المتواضعة افادات عن بعض عواصم اقطار الدنيا الكبرى ومدنها كانجلترا والولايات المتحدة الامريكية واستراليا وتونس وجدة وبانكوك وسيدنى وحلوان وبغداد.
ولقد وجدت بعض المأخذ على موقفه من ((ثورة الانقاذ)) كما اسموها الذين قاموا بانقلابهم من الاخوان المسلمين، فقد قال فيهم الطيب قولة اصبحت مثلا على كل لسان وكل قلم لكاتب يستشهد بها وهى ((من اين اتى هؤلاء؟)) وهى جملة حوت كل معانى الاستنكار والاستخفاف والسخرية، فالدين الذى يستندون اليه ليس كديننا الاسلامى، وتقاليدهم ليست كتقاليد اهل السودان ، وطباعهم ليست كطباع الانسانية .
اقرأ كلماته وهو يتكلم عن جواز سفره السودانى : وما كان أهون أن اطرح عنى هذا العبء ، واقطع الحبل السرى الذى يربطنى الى هذا الوطن المستحيل . ما كان اسهل ان ابدل تابعية بتابعية وجوازا بجواز ، لكن حاشا والله لا افعل . سوف اظل اتشبث بهذا الجواز كالذى يقبض على الجمر ، امشى به فى مناكب الارض باصرار فيه معنى التحدى والغيظ والحسرة .
عفا الله عنهم ، ما اشد ما عبثوا بالوطن ، كأن طفلا يبنى قلاعا من الرمال على شاطئ البحر ، ما يلبث ان يهدمها ثم يعيد بناءها من جديد . اصبح الناس قلوبهم شتى ، وكان الهم واحدا ، فاصبح هما وثانيا وثالثا .
وقال عن الجواز السودانى والذى لا يسمح لحامله الدخول لمعظم الدول العربية نتيجة لمقاطعتها للسودان منذ ان حل هؤلاء الانقلابيون فى الحكم وتسوئ علاقاتهم بجيرانهم والدول العربية الاخرى عدا مصر وعمان . قال : تخيل اخر الزمن ، السودانى الكريم العفيف الذى يربأ بنفسه عن التدخل فى شؤون الناس ، اصبح يثير المخاوف اينما ما حل . هذا ما جنيناه من هذا العهد الميمون . هل لاحظت السخرية ؟ ويوغل الطيب فى السخرية فيقول : اننى اعلم ما سوف يحدث . تحسست الجواز السودانى فى جيبى . كان ازرق اللون فعملوه اخضر وصغروا حجمه . كل عهد يجئ ، لا بد ان يغير شيئا ، خاصة ان كان عهدا ثوريا ، نحن هذه الايام نتقلب فلى بحبوحة (ثورة الانقاذ)  . لله درهم . حلوا معضلة الجنوب ، ونصبوا ميزان العدل ، واهابو بالسماء ان تمطر وبالأرض ان تخضر ، فاصبحنا نأكل مما نزرع ، ونلبس مما نصنع ، وارخوا سدول الامن والطمانينة والأمن ، فامسى الرجل يسرى من (محمد قول) الى (توريت) لا يخشى الا الله والذئب على غنمه .
وكتب يقول رحم الله المجذوب . غنى لسودان ابعد عن السودان الذى يصيغه اصحابنا هؤلاء ،كأنهم يريدون وطنا لا يتسع الا لنوع واحد من الناس ولم يقرروا بعد ، اى نوع من الناس يريدون ، لذلك فهم لا يزالون يغيرون ويبدلون ، ويقومون ويقعدون ، ويربطون ويحلون .
واقول لصاحبنا الطيب انه استقر رأيهم على ان الوطن لهم وحدهم ولاشياعهم وكل دعى بأنه عربى ويتغاضون عن ان العرب الخلص لا يعتبرونهم منهم بل ينعتوهم بفاحش القول ، ولكن المدعين ما زالول يتشبثون بهم .
وهم وياللأسف لا يحبون الشعر ، وليس بينهم شعراء . اذا لوجدوا ان محمد سعيد العباسى ، ذلك الشاعر الاخر الفحل ، قد وصف قبل خمسين عاما ما نحن فيه الان (ص-95-96) .
تحية الله بايام ذى سلم            ايام لم نخشى بأس القاهر العادى
ايام كنا وكان الشمل مجتمعا               وحينا حى طلاب وقصاد
فان جرى ذكر ارباب السماحة     او نادى الكرام فانا بهجة النادى
واليوم ابدت لنا الدنيا عجائبها           بما نقاسيه من حرب واحقاد
وما رمى الدهر وادينا بداهية              مثل الاليمين تفريق وابعاد
وكما اجاب الطيب بقوله : يجئ زمان (لم الشمل) ، قريبا ان شاء الله ، فهذا العهد مزق اكثر ، وبعثر اكثر مما يجوز حتى لمثله وقال الطيب عن اشخاص عرفهم كانوا ثوريين واصبحوا مهادنين او موالين لمن كانوا يعتبرونهم اعداء الأمس ، هؤلاء وصفهم ((بالبرقماتية))
فهل رضى لنفسه ان يقع فى مستنقع البرقماتيه الفاسدة الانتهازية ؟!
كان الانقلابيون الانقاذيون مشتطين فى عداوتهم لاديبنا الكبير بعد قولته فيهم، فرموه بكل شائن ، وحظروا كتبه ، ودارت الايام ورضى الانقلابيون الذين يدعون (الكيزان) عن الطيب فدعوه لزيارة وطنه واغدقوا عليه من التكريم والاحتفاء وقلده كبيرهم رئيس الجمهورية وساما رفيعا .
وفجأة وعلى غير توقع أوتخيل غير الطيب رأيه في (الكيزان) بعد كل الذى قاله فيهم ! فقد شاهدته واستمعت اليه من شريط (فيديو) يثنى فيه على الوضع فى السودان ومدح كبيرهم (البشير) وقال انه خير من يحكم السودان ، وقد ذكر قبل ذلك وعقب دعوتهم له ان الامور صارت الى احسن فى السودان ، هذا فى الوقت الذى كانوا يقتلون الابرياء بلا تمييز ويحرقون القرى فى دارفور والجنوب ، ويعذبون المعارضين فى بيوت الأشباح ، ويكممون الافواه ، ويقيدون النشر والتعبير ، واصبح فيه التعليم والصحة فى حالة مزرية ، والعطالة فاشية ، وضيق خانق فى معيشة الناس اليومية ، وانحدار مريع فى الاخلاق .
فاعجب من قوله ان الحال اصبح الى احسن . فياللعجب ! اما انه الحال صار كقول الشاعر :
وعين الرضى عن كل عيب كليلة      كما ان عين السخط تبدى المساوئا 
ام نقول ان لكل جواد كبوة . وعلى كل فان ما قاله لا يعيب ادبه ولا ينال من كتاباته ، وربما يتعلق الامر بالناحية الخلقية .
فقد وجدنا شاعر العربية العظيم المتنبى لم ينل هجاؤه لكافور بعدا ن بالغ فى مدحه واوضع من ذات نفسه الى حد التسول لينال منه ولاية ، ولكن ذلك لم ينل من شعره العظيم الذى ظل ساميا ومعجزا ولم يبل لمئات السنين .
وليغفر الله وىرحم الاديب الكبير الطيب صالح . 
4/4/2012



Hilal Elsadati [helalzaher@hotmail.com]

 

آراء