العبادي (11) .. ما كهربا حسين ولّعا..!!
د. مرتضى الغالي
28 February, 2022
28 February, 2022
العبادي بديع في استخدامه للمحسّنات البديعية والجناس حتى في مداعباته..وقرية (ود الحداد) قرية ظريفة من قرى السودان الجميلة..ولكن العبادي كان يحن لليالي أم درمان ونهاراتها..وهو كعادته رحيب النفس عامر الروح محب للمرح وله ولع دائم بالمشاغبة البريئة.. فقال عندما اضطرته ظروف العمل وكسب العيش البقاء في ود الحداد:
من سالف الزمن البين نوايبو حُداد
يقطع موصلات وسلاسل الحدَاد
عاكسني الزمن سكّني في "الحداد"
عليك يا "أم در" لباسي اليوم سواد وحداد
ورغم انه يخلق أجواء البهجة والاستمتاع بالحياة في أي مكان يوجد فيه.. إلا انه يحن لأم درمان.. والسيدة "فاطمة مدني" معلمة تربوية وأستاذة لتدريس الفنون، وهي طبعاً زوجة الشاعر والضابط المهيب "الصاغ محمود أبوبكر" صاحب ديوان (أكواب البلابل من ألسنة البلابل) وصاحب النشيد العبقري "صه يا كنار وضع يمينك في يدي"..وصاحب الأغنيات الرقيقة (زاهي في خدرو ) و(إيه يا مولاي إيه).. والمحارب في جبهة "كفرة" في الحرب العالمية الثانية..!
قالو ليهو القطر تقدّم
كفره نيرانا زي جهنم
حنّ قلبو ودمعو سال..
هفّ بي الشوق قال وقال..
كلموهو....ألموهو...علّموهو الانفعال
أرخى سمعو ..واجرى دمعو
البرق سمعو.. كال وهال
كم تألم ..ما تكلم... إلا تمتم بالمقال...!!
وقد أورد الصاغ في حق هذه السيدة الفاضلة الجميلة تشبيه لطيف وهو يصف نعومة القدم بلسان الرضيع..(مباااااالغة)..!! فقال (زي لسان الرضيع قديمو/ وكلامو جوهر وسط بسيمو)..والقدم الصغيرة الناعمة من النعوت المرغوبة، وقد حذّر الفنان الرائع "بابكر ود السافل" في أغنية "من فريع البان" من القدم الكبيرة المفلطحة التي تتلطش عند المشي وتثير الغبار:
في المشي ما بنيش.. يملأ قدمو تراب
الصدير عالي.. حاجبك هلالاً غاب
مسكك أب تسعة.. الساكن الجبجاب
أعلموا أهلي اليكتبولي حجاب..!!
والمسك كما يُقال يؤخذ من إبط التمساح..!!
وكان لفاطمة مدني صالون أدبي فني لم يحظ بالتنويه الذي يستحق..! كان صالونها يضم معظم شعراء الحقيبة وعلى رأسهم العبادي وعمر البنا وسيد وعبيد وعتيق والعمرابي وأضرابهم، وكانت لهم فيه طرائف ومسامرات..وقد سردت الأستاذة فاطمة يوميات من هذا الصالون في كتابها الظريف "لمحات من الأدب الغنائي الشعبي" وهو أيضاً لم يجد ما ينبغي أن يجده لما يحويه من نفائس التوثيق ..كانت الأستاذة صاحبة الصالون قد أرسلت للعبادي وهو خارج العاصمة أبياتاً من الاخوانيات.. وهي ذات بصر بالشعر الشعبي قالت فيها:
استأذنا الأديب جلساتنا فات ميعادا / يسألوا عنك الشُعرا وجميع روّادا
شوقاً للقوافي وروعتا وإسعادا / وكرايم الدرر.. وقريحتك الوقّاده
***
فات اسبوع تمام ورينا إيه أحوالك / اسواق الشعر هل طوّفت في بالك..؟!
بالقلم الرشيق ورينا كيفن حالك / ولو أمكن حضورك نحن في استقبالك
وكان رد العبادي:
"ضابطة الفنون" أدبك زها واتعدد / احييتي القديم والفي التراث اتجدد
من فعل اللصوص أصبح كياني مهدد / راح الداخرو كلو وما في شي اتجدد
***
..تسألي عن خيالي الكان بجود بي بشاشه / وكرايم الدرر الما تلوّث (شاشا)
وين سوق الأدب لي الساكن الكشاشه / وكان بقى للقلم.. بدلتو بي حشّاشه..!
***
بين بحرين بقيت والله أمري عجيب / مقطوع الطريق.. لا يودي لاهو بجيب
إن شرقت شمس أو شارفت لمغيب / ما بيدري العبد..إيش المخبي الغيب
وتجد مثل هذه التعبيرات الطريفة حتى في قصائد العبادي المُغناة مثل (ليك سلامي يا أم ر أمان/ اقبليهو وهاتي الضمان) وفيها:
قولو ليهو طرفو انسقد / جمرو علّب في الجوف وقد
هاج غرامو وصبروا انفقد داير يشوفكم..(والحظ رقد)..!!
و(طرفو انسقد) أي عينه لا تنام ..وهذا نحت وتخريج لفظي للعبادي من المخيال الشعبي عن طائر السُقُد الذي لا ينام الليل..!
وفيها أيضاً:
لاجّه عيني وغايره الجروح / هاهو حالي يغني الشروح
يا طبيبي أفضل تروح / خِلقه ميت وما فيّا روح..!
وفي أغنية (شيخ ريا) مثال ذلك:
يا صاحي بذكُر جلستِن.. / وأوصاف مناظر خلستِن
مولاي حواك من حبستِن / يجن يبسطني.. وابسطِن..
ومن ذلك في أغنية (الضاوي جبينا..قفار وتلال بقو بيني وبينا):
مما هوينا.../ بعيده الهوّه الفيها هوينا
البينا أهي: ما تقولو هويّنه / اسألو بس مولاي تهوينا..!
***
حليلو جبينا / حليلو دلالا وقوس حاجبينا
عيونا الفاتره وحق نبينا / شاقه فؤادي وكايلا غبينه..!
ثم فيها:
اسمع ياخينا../ شدّ الشوق ما تقولو رخينا
عيونّا تفيض بالعبرة سخينه / بالمال والروح في هواها سخينا..!
ومثل ذلك في (حفلة بشير):
بدر الكمال كان مطلعا ما كهربا "حسين" ولّعا
تهبع تجيك متقلّعه وفي التوب كفيلا يقالعا..!
والكفيل تصغير كفل "من باب التحبب" ولا يعني أنه "صغير" بل على النقيض من ذلك..! ولو كان صغيراً لما نازعها "وقالعها على التوب".. أما حسين فقد كان المسؤول الأول عن إحضار "الرتاين" للحفلات وإيقادها..أضاء الله مرقده بالمغفرة..!!
**
الساحة ازهار نوّعت / اغصانا حين اتضوّعت..
..طيب والقلوب اتلوّعت / مما رأته وما وعَت
كم فيها بانه اترنّعت / عن روح طبع ما اتصنعت
ماذا عسى يحكي النعَت / في دي الغصون الأينعت..؟!
ليلة قدر ياما حوت / خيرات وفسراع انزوّت
عاقلنا من حينو إتخوَت وقلوبنا في الروع استوت..!
وفيها:
ياخي العجب توب الزَراق الـ كالوضيب في صباغو راق
فوق صيده لكن (بت فراق) حويتا لي سيد البُراق..!
ثم:
تبر البراتي صفاها راق عالية صدُر وضميرا راق
غير حِفله بي توب الزراق حرقت قلوب الناس حراق..!
فقط "توب الزراق" وبغير حِفلة أي غير زينة وحُلي..!!
وحتى في شعره المسرحي نجد مثل هذا:
توقد نارو ديمه الما بكوس الجمره
وفي الضيفان يهوش سكينو دائماً حمره
وفي ذات مسرحية "المك نمر":
لا يموت لا يفوت الساحتو يوم مغشيه
تقابة الفريق توقد صباح وعشيّه
زايد في الرجال طالق قفاي ووشيا
ضيوف الليل بكفيهم (مراره وشيّه)..!
..هذا عندما تتماهى التعبيرات الطريفة داخل تضاعيف الأغاني وأبيات الدوبيت.. أما أشعار الاخوانيات فقد كانت مادة غزيرة تجري مجري النَفَس عند شعراء تلك الفترة.. إلا أن معظمها ضاع وتبدد رغم إن الاخوانيات بابٌ له اعتبار كبير بين أبواب الأدب الشعبي وله أهميته في رصد التاريخ الاجتماعي... وإلى الله تصير الأمور..!
murtadamore@yahoo.com
///////////////////////////
////////////////////////////
/////////////////////////////
من سالف الزمن البين نوايبو حُداد
يقطع موصلات وسلاسل الحدَاد
عاكسني الزمن سكّني في "الحداد"
عليك يا "أم در" لباسي اليوم سواد وحداد
ورغم انه يخلق أجواء البهجة والاستمتاع بالحياة في أي مكان يوجد فيه.. إلا انه يحن لأم درمان.. والسيدة "فاطمة مدني" معلمة تربوية وأستاذة لتدريس الفنون، وهي طبعاً زوجة الشاعر والضابط المهيب "الصاغ محمود أبوبكر" صاحب ديوان (أكواب البلابل من ألسنة البلابل) وصاحب النشيد العبقري "صه يا كنار وضع يمينك في يدي"..وصاحب الأغنيات الرقيقة (زاهي في خدرو ) و(إيه يا مولاي إيه).. والمحارب في جبهة "كفرة" في الحرب العالمية الثانية..!
قالو ليهو القطر تقدّم
كفره نيرانا زي جهنم
حنّ قلبو ودمعو سال..
هفّ بي الشوق قال وقال..
كلموهو....ألموهو...علّموهو الانفعال
أرخى سمعو ..واجرى دمعو
البرق سمعو.. كال وهال
كم تألم ..ما تكلم... إلا تمتم بالمقال...!!
وقد أورد الصاغ في حق هذه السيدة الفاضلة الجميلة تشبيه لطيف وهو يصف نعومة القدم بلسان الرضيع..(مباااااالغة)..!! فقال (زي لسان الرضيع قديمو/ وكلامو جوهر وسط بسيمو)..والقدم الصغيرة الناعمة من النعوت المرغوبة، وقد حذّر الفنان الرائع "بابكر ود السافل" في أغنية "من فريع البان" من القدم الكبيرة المفلطحة التي تتلطش عند المشي وتثير الغبار:
في المشي ما بنيش.. يملأ قدمو تراب
الصدير عالي.. حاجبك هلالاً غاب
مسكك أب تسعة.. الساكن الجبجاب
أعلموا أهلي اليكتبولي حجاب..!!
والمسك كما يُقال يؤخذ من إبط التمساح..!!
وكان لفاطمة مدني صالون أدبي فني لم يحظ بالتنويه الذي يستحق..! كان صالونها يضم معظم شعراء الحقيبة وعلى رأسهم العبادي وعمر البنا وسيد وعبيد وعتيق والعمرابي وأضرابهم، وكانت لهم فيه طرائف ومسامرات..وقد سردت الأستاذة فاطمة يوميات من هذا الصالون في كتابها الظريف "لمحات من الأدب الغنائي الشعبي" وهو أيضاً لم يجد ما ينبغي أن يجده لما يحويه من نفائس التوثيق ..كانت الأستاذة صاحبة الصالون قد أرسلت للعبادي وهو خارج العاصمة أبياتاً من الاخوانيات.. وهي ذات بصر بالشعر الشعبي قالت فيها:
استأذنا الأديب جلساتنا فات ميعادا / يسألوا عنك الشُعرا وجميع روّادا
شوقاً للقوافي وروعتا وإسعادا / وكرايم الدرر.. وقريحتك الوقّاده
***
فات اسبوع تمام ورينا إيه أحوالك / اسواق الشعر هل طوّفت في بالك..؟!
بالقلم الرشيق ورينا كيفن حالك / ولو أمكن حضورك نحن في استقبالك
وكان رد العبادي:
"ضابطة الفنون" أدبك زها واتعدد / احييتي القديم والفي التراث اتجدد
من فعل اللصوص أصبح كياني مهدد / راح الداخرو كلو وما في شي اتجدد
***
..تسألي عن خيالي الكان بجود بي بشاشه / وكرايم الدرر الما تلوّث (شاشا)
وين سوق الأدب لي الساكن الكشاشه / وكان بقى للقلم.. بدلتو بي حشّاشه..!
***
بين بحرين بقيت والله أمري عجيب / مقطوع الطريق.. لا يودي لاهو بجيب
إن شرقت شمس أو شارفت لمغيب / ما بيدري العبد..إيش المخبي الغيب
وتجد مثل هذه التعبيرات الطريفة حتى في قصائد العبادي المُغناة مثل (ليك سلامي يا أم ر أمان/ اقبليهو وهاتي الضمان) وفيها:
قولو ليهو طرفو انسقد / جمرو علّب في الجوف وقد
هاج غرامو وصبروا انفقد داير يشوفكم..(والحظ رقد)..!!
و(طرفو انسقد) أي عينه لا تنام ..وهذا نحت وتخريج لفظي للعبادي من المخيال الشعبي عن طائر السُقُد الذي لا ينام الليل..!
وفيها أيضاً:
لاجّه عيني وغايره الجروح / هاهو حالي يغني الشروح
يا طبيبي أفضل تروح / خِلقه ميت وما فيّا روح..!
وفي أغنية (شيخ ريا) مثال ذلك:
يا صاحي بذكُر جلستِن.. / وأوصاف مناظر خلستِن
مولاي حواك من حبستِن / يجن يبسطني.. وابسطِن..
ومن ذلك في أغنية (الضاوي جبينا..قفار وتلال بقو بيني وبينا):
مما هوينا.../ بعيده الهوّه الفيها هوينا
البينا أهي: ما تقولو هويّنه / اسألو بس مولاي تهوينا..!
***
حليلو جبينا / حليلو دلالا وقوس حاجبينا
عيونا الفاتره وحق نبينا / شاقه فؤادي وكايلا غبينه..!
ثم فيها:
اسمع ياخينا../ شدّ الشوق ما تقولو رخينا
عيونّا تفيض بالعبرة سخينه / بالمال والروح في هواها سخينا..!
ومثل ذلك في (حفلة بشير):
بدر الكمال كان مطلعا ما كهربا "حسين" ولّعا
تهبع تجيك متقلّعه وفي التوب كفيلا يقالعا..!
والكفيل تصغير كفل "من باب التحبب" ولا يعني أنه "صغير" بل على النقيض من ذلك..! ولو كان صغيراً لما نازعها "وقالعها على التوب".. أما حسين فقد كان المسؤول الأول عن إحضار "الرتاين" للحفلات وإيقادها..أضاء الله مرقده بالمغفرة..!!
**
الساحة ازهار نوّعت / اغصانا حين اتضوّعت..
..طيب والقلوب اتلوّعت / مما رأته وما وعَت
كم فيها بانه اترنّعت / عن روح طبع ما اتصنعت
ماذا عسى يحكي النعَت / في دي الغصون الأينعت..؟!
ليلة قدر ياما حوت / خيرات وفسراع انزوّت
عاقلنا من حينو إتخوَت وقلوبنا في الروع استوت..!
وفيها:
ياخي العجب توب الزَراق الـ كالوضيب في صباغو راق
فوق صيده لكن (بت فراق) حويتا لي سيد البُراق..!
ثم:
تبر البراتي صفاها راق عالية صدُر وضميرا راق
غير حِفله بي توب الزراق حرقت قلوب الناس حراق..!
فقط "توب الزراق" وبغير حِفلة أي غير زينة وحُلي..!!
وحتى في شعره المسرحي نجد مثل هذا:
توقد نارو ديمه الما بكوس الجمره
وفي الضيفان يهوش سكينو دائماً حمره
وفي ذات مسرحية "المك نمر":
لا يموت لا يفوت الساحتو يوم مغشيه
تقابة الفريق توقد صباح وعشيّه
زايد في الرجال طالق قفاي ووشيا
ضيوف الليل بكفيهم (مراره وشيّه)..!
..هذا عندما تتماهى التعبيرات الطريفة داخل تضاعيف الأغاني وأبيات الدوبيت.. أما أشعار الاخوانيات فقد كانت مادة غزيرة تجري مجري النَفَس عند شعراء تلك الفترة.. إلا أن معظمها ضاع وتبدد رغم إن الاخوانيات بابٌ له اعتبار كبير بين أبواب الأدب الشعبي وله أهميته في رصد التاريخ الاجتماعي... وإلى الله تصير الأمور..!
murtadamore@yahoo.com
///////////////////////////
////////////////////////////
/////////////////////////////