العنف والظلم والجبروت – إفرازاته السالبة إجتماعياً وإقتصادياً

 


 

 

بقلم: د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
المملكة المتحدة
هذا المقال نشر على سودانايل يوم 14/06/2019 أعيد نشره لأن لافرق بين سودان اليوم وسودان تلك السنة "كأننا يابدر لا رحنا ولا جئنا"، بل حال اليوم أصعب سوءا ودمارا وقتلا كاسحا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.حسبنا الله ونعم الوكيل وحسبك الله يا السودان

"فض الإعتصام لم يكن مذبحة
لقد كنت في السودان ورأيت ما لا عينٌ رأت.. وسَمعتُ ما لا أذنٌ يمكن أن تسمع .. وما لا يمكن أن يخطر على قلب بشر..!" من مقال لدكتور مرتضى الغالي- على سودانايل 11/6/2019

لقد صدق وكفى تعبيراً. حسبنا الله ونعم الوكيل من هول المصيبة!.
كتبت بعده بأيام وفي الكتاب تذكرة ناصحة لؤلي الألباب عندما التاريخ يعيد نفسه:
إلى الغارقين مع الصبر فى بحور الدموع والتائهين غلباً فى ظلمات الحياة الحالكة فصار حزنهم رفيقاً لهم لا يفارقهم كظلهم بعد أن فقدوا فلذات أكبادهم أو ما يملكون من متاع ظلماً وقسراً ، وإلى الذين عاشوا ثلاثين سنين عجاف من عمر حياتهم قهراً ونكداً وفقراً وإلى الصبية المشردين فى طرقات المدن والقري ووهاد الجبال وسهول الصحاري القفر الذين يقتاتون على محتويات المخلفات المتراكمة ومتعفنة فى أماكن رمي الزبالة ويموتون هكذا جوعاً ومرضا، وإلى أرواح الشهداء الذين اشتروا الحرية غالية لوطنهم الشامل (السودان) ولأجيال ستولد، بذلوا دمائهم الغالية، صعدت أرواحهم إلى ربها طاهرة وهم صائمون وصادقون، وإلى طليعة شباب السودان الثائر القابض على جمر القهر والظلم والبطالة والهوان وطول الإعتصام والصيام رغم الهجير وعدم توفر رقاد السرير ينشدون بسلمية مشهودة وموثقة حقوقاً عدلية وإنسانية مشروعة ورغم كل ذلك فقد كان جزاؤهم أنهم ذبحوا للأسف الشديد وهم صائمون عابدون شر ذبحة فى مجزرة يخجل حتى التاريخ والأقلام تعجز عن وصفها وتسجيلها ويتبرأ الدين القيم من فعلها ومن فاعليها ، فالله وحده هو من يعلم من هم آمروها ومن هم منفذوها وأعلم بنواياهم ونوايا أتباعهم وأنصارهم ، كلهم يستأنسون ناسين أن كتاب السماء هو السجل الوحيد الذي لا يفوِّت صغيرة ولا كبيرة ولا يخطيء ولا يجامل "يحلل" ولك يا الغافل إن العرض يوم الحساب أمام الله ليس ببعيد لأن أعمار البشر الإفتراضية لجد قصيرة. للمواطن الصادق الأمين والوطن المستهدف من جهات لا تريد له التقدم والشموخ أقدم هذه المشاركة عن العنف ومآلاته ونحن لم نفق بعد من حزن آخر أيام رمضان وعيد الفطر الذي خيم سواده على معظم بيوت السودان الحرة الشريفة.
أنا طبيب مختص أمارس مهنتي وسعيد بها وباحث أكاديمي ولست طبيباً نفسانياً لكنني أفكر وأتفاعل كغيري من البشر بما يدور حولي إضافة إلى ما أتمتع به من عاطفة الأبوة وما أتمتع به هنا من عدل فى المعاملة والحقوق والإكتفاء مقارنة مع واقع حال شعوب مظلومة ومقهورة سواءاً فى السودان أو مختلف بلاد العالم المماثلة جعلتني أتطرق هذه المرة لطرح موضوع العنف راجياً من زملائي ذوي الإختصاص النفساني والتربوي وحتى فى المدارس إلإنتباه لدراسة هذا الموضوع الهام وإيجاد الحلول المناسبة لمعالجة آثاره السالبة إقتصادياً وأضراره النفسانية والجسمانية الراهنة والمستقبلية طويلة المدى التي تعرف ب:
Post-traumatic
*(PTSD) Stress Disorder

وأساليب العنف تتعدد أشكالها. فيمكن تكون لفظياً بما يجرح من قبيح الكلام والتهديد أو جسدياً بالضرب والتعذيب والقتل أو نفسياً بما تتركه من مضاعفات وإكتئآبات تؤدي إلى النجوع إلى إستعمال المخدرات وإدمانها أو حتى الإنتحار

فى ما أذكر إنعكس تأثير الحرب الطالبانية فى أفغانستان على سلوك ونفسيات الناس بما فيهم الأطفال حتى أن رسومات الصغار كانت كلها عبارة عن أسلحة فى شكل بنادق ودبابات ومدافع وطائرات حربية وامتد هذا الفن التشكيلي ليشمل فى ذلك الحين تصاميم وإنتاج السجاد الأفغاني رائع التشكيل والألوان وقد شاهدته سابقاً يباع عند إيكيا السويدية يحمل تلك الأشكال الحربية.

إنعكاس أثر الرعب النفسي والخوف الملازم من توقع المجهول يشكل صعوبة ممارسة الحياة اليومية المرجوة خاصة عندما تكون الشوارع والبيوت والأنفس مستباحة فى أي لحظة وأي زمان وأي مكان لهجمات شرسة لا رحمة فيها والمتمكنين من النظام أو مسؤلين عن أمنه يغضون النظر ويتهمون عصابات متفلتة ولا يسيطرون عليها رغم ما يملكون من قوة السلاح الرادع ليس للمتفلتين فقط بل إنه يصلح لتحرير كل ما أحتل جزافاً من أجزاء الوطن.
بعد غياب من التواصل إتصلت قبل العيد بشقيقتي فى الخرطوم للتحية وكانت إجابتها على سؤالي عن أحفادها الصغار حكت لي قصة أن أحدهم ( دون السابعة) رجع يوماً من المدرسة يقفز مسروراً أيام الإعتصام لأنه كان يجلس جوار شباك سيارة الترحيل وعند الاوستوب شاهد شرطياً فقال فتحت الشباك ورفعت يدي وقلت له تسقط بس! قال "رفع الشرطي يده ورد عليَّ تسقط بس، لكين ما كتلني"! عزيزي القاريء تخيل مثل هذا التعبير " لكن ما قتلني" من طفل صغير بريء كان المفروض ينعم براحة نفسية وجسدية ليس فى داخل المنزل وحدود الأسرة بل في الشارع العام وفي المدرسة والميادين العامة والأسواق وأماكن اللعب والترفيه بدلاً من خوف يلازمه حتى فى أحلامه كوابيساً مرعبة خلال ليل طويل يفتقد فيه الأمن الذى هو من أهم واجبات راعي الرعية. تخيل عزيزي القاريء وضع مثل هذا الصغير إن كان والده هو أيضاً يعاني الأمرين، تبعده غربة ديار وغربة وطن. إنه تعبير يجعل الدمع يسيل أسيً وتحسراً على وطن يضيع هكذا فى بحور من الفوضى وهجوم أجانب ملثمون كتلثم طوارق مالي والنيجر ، أشاوس متوحشون لا يرحمون

قتل النخوة فى الشعوب:
أحداث الشهور الماضية كشفت سوءات النظام البائد والتى تتناقض مع تعاليم المعتقد الذي من أجله جاء حكمهم على البلاد لمدة ثلاثة عقود بقبضة حديدية . ضُرب الشباب والشابات ضرب غرائب الإبل فى الشوارع والبيوت وداخل فصول الجامعات وقتلوا بالرصاص الحي عن قصد من غير رحمة وكانت النتيجة المرة أن المارة كانوا يشاهدون هذا أو هذه يضربون بالهراوات فلا ينفعلون أو يتدخلون لفض النزاع أو نصرة المظلوم والفيديو الذي حمل شكوى أحد الشباب الذي أعتدي عليه بوسط سوق أم درمان من غير ذنب فكسرت يده وحتى سيارته كان يتعجب ويسأل بمرارة وغضب وحسرة "أين الرجال وأين النخوة ". للأسف هكذا قتلت النخوة فى نفوس شعب كانت نساؤه ترمي بنفسها فى النيل مفضلة الموت بدلاً من الهوان والإغتصاب من جنود المعتدي الغاشم.

الذهول وكوابيس النوم والإضطراب الذهني والفشل فى كيفية التخطيط الحياتي اليومي واتخاذ القرار المناسب. الخوف وفقدان شجاعة الإقدام والتعبير والخوف من مواجهة المسؤلين والخوف حتى من الدفاع من حق مشروع. وعلى النقيض تولد شرائح مجتمعية سايكوباثية وسادستية تتلذذ فى إهانة الآخرين من الشرفاء بل الإعتداء عليهم وتعذيبهم بكل الوسائل المتاحة بما فيها حتى القتل بجميع أنواعه وأقساه القتل النفسي بإشانة السمعة

الخوف من الحاكم فيصير هو الفرعون الآمر والناهي والمخطط لإستراتيجيات مملكته كما يحلوا له وعليه تكون النتيجة عجز العقول المستنيرة عن تدبير ما يفيد البلاد فيكذبون ويجاملون ويطنبون فى ذكر محاسن الدكتاتور وأنه خير وأنسب من يحكم البلاد فيركعون ويسجدون له ويسبحون بحمده وهكذا يصيرون مسيرون وتصير شهاداتهم وألقابهم العلمية فى واقع الحال مجرد أي كلام وحبر على ورق.
أيضاً سياسات ألأنظمة الشمولية الظالمة تجعل وجود فجوة إجتماعية وطبقية كبيرة حيث الثراء و التمكين يشمل أهل الولاء ويبقى جل الشعوب طبقة فقيرة تتصارع من أجل لقمة العيش وينتج من ذلك الإفلات الأمني والسرقات ونشوب الخلافات والحروب الأهلية كما ذكرت يظل الولاء للسيد الحاكم الذي يستغل فى البدء الدين فى مدخله لحكم البلاد ثم ينقلب إلى فرعون يقول أنا ربكم الأعلى حتى وإن لم يتفوه لها لفظاً.
إنني أرى أن كثيراً من السودانيين والأطفال الذين يعيشون فى مناطق النزاعات والحروب أو العنف بأي شكل كان سواءاً فى دارفور وجبال النوبة والخرطوم ومدن أخرى فى السودان حتماً يحتاجون إلى تحليل وعلاج نفسي ودعم مادي وأخلاقي ليستعيدوا ثقتهم في أنفسهم وفى غيرهم . هل يا تري سيتم ذلك العلاج النفساني والإجتماعي؟ أرجو ذلك
العنف للأسف مدمر للشعوب ولبنية البلاد التحتية ومدمر لعجلة إقتصاد الأوطان وإن تعددت ثرواتها ويحد من ابتكارات العلماء وإبداعات الأدباء والفنانين والمثقفين. أما على الصعيد العالمي فإقتصاد الأنظمة الظالمة يتأثر نتيجة توقف المساعدات الخارجية ونتيجة حصار الدول التى تؤمن بالحرية والسلام والعدالة فلا تريد أن تدنس أيديها من نظام جائر والحصار المطبق على السودان طيلة الثلاثين سنة الماضية لخير دليل على ذلك .

*PTSD
• Post-traumatic stress disorder (PTSD) is a mental health condition that's triggered by a terrifying event — either experiencing it or witnessing it. Symptoms may include flashbacks, nightmares and severe anxiety, as well as uncontrollable thoughts about the event.
• Most people who go through traumatic events may have temporary difficulty adjusting and coping, but with time and good self-care, they usually get better. If the symptoms get worse, last for months or even years, and interfere with your day-to-day functioning, you may have PTSD.

drabdelmoneim@uahoo.com

drabdelmoneim@gmail.com
/////////////////////

 

آراء