العودة إلى مكون السودان القديم .. بقلم :د. عمر بادي
د. عمر بادي
30 January, 2012
30 January, 2012
عمود : محور اللقيا
الأحداث الدرامية المتصاعدة هذه الأيام بين دولتي السودان و جنوب السودان بشأن البترول لا زالت تراوح في مكانها دون أي إتفاق بين الطرفين , و لكنها بتصاعدها قد دقت آخر مسمار في نعش العلاقات بين البلدين , و ها هي التجارة الحدودية بينهما قد تم إيقافها من دولة الشمال كرد فعل لما حدث من دولة الجنوب دون إعتبار لمعايير الربح و الخسارة . إن التعامل برد الفعل الإرتجالي هو مصيبتنا مع حكومتنا في الخرطوم في مجابهة الأزمات و القرارات الدولية و في اللجؤ للتحديات و القوة غير مدروسة النتائج و التي قد عقّدت من قضايا الوطن ووجوده . لقد سبق و تحاورت مع بعض المستنيرين من الدول العربية و قد أجمعوا على إندهاشهم من حكومة و قيادة المؤتمر الوطني التي تتفنن في صنع العداوات مع فئات الشعب و في نعتهم بأسوأ الألفاظ ثم تحريك الآلة العسكرية ضدهم , فكلما إنطفأت نار حرب أشعلوا غيرها ! هذا هو حالنا الذي جعل 70 % من ميزانية الدولة تذهب للدفاع و الأمن , بينما نصيب التعليم و الصحة لا يتعدى 7 % ! أين هذا من تركيا و قد وضع حزب العدالة و التنمية الإسلامي ميزانية فيها نصيب التعليم و الصحة يعادل 70 % , رغم معاناتها من تحركات الأكراد الإنفصالية و لكنها لم تستعديهم بل مدت جسور الحلول السلمية معهم , و هذا هو سر تقدم تركيا علميا و صناعيا و إقتصاديا !
ما فعله الجنوب في شأن البترول هو قبوله لتحدي الشمال الذي قرر أن يأخذ نصيبه من بترول الجنوب عنوة و برسوم تعادل 36 دولارا للبرميل و تحديه للجنوب أن يوقف ضخ بتروله إن إستطاع , إعتمادا على أن الجنوب لا يقدر على ذلك لأن البترول عنده يعادل 98% من ميزانيته ! لكن بعد أن منحت أمريكا الجنوب قرضا يستعيض به عن عائدات البترول , شرع الجنوب في إيقاف ضخ بتروله عبر أنابيب الشمال , و قد كانت هذه الخطوة الجسورة مفاجئة لحكومة الشمال . الآن قد تكشفت حقائق كثيرة في شأن البترول , منها أن البترول المتبقي للشمال يكفي لتشغيل مصفاتي الخرطوم و الأبيض من أجل الإستهلاك المحلي فقط , و هي الكمية التي ذكرتها في مقالتي السابقة و التي لا تتعدى 115 ألف برميل/ اليوم . هذا الأمر كان معروفا قبل إنفصال الجنوب و لكنه حجب عن الشعب السوداني , و كان قد برز جليا في إقتراح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون لرئيس حكومة الجنوب سيلفاكير عند زيارته لأمريكا قبل الإستفتاء أن يتنازل الجنوب عن جزء من عائد نفطه للسودان حتى لا يتقاعس الأخير عن تنفيذ كل بنود إتفاقية نيفاشا , و لكن رفضت حكومة الجنوب ذلك الإقتراح في حينه , و هاهي تعود إليه الآن و تعرض منحة مالية للسودان عبارة عن مبلغ 2.4 مليار دولار كي تساعده في حل مشاكله المالية !
على نفس المنحى لم ترشح أي تصريحات من حكومة المؤتمر الوطني عن موقف الغاز الطبيعي الذي كان يستعمل في تشغيل بعض محطات توليد الكهرباء و أيضا في المطابخ المنزلية , و لكن رشح أن الحكومة قد تعاقدت مع الشقيقة مصر على إستيراد الغاز الطبيعي منها ! هذا يعني أن الغاز الطبيعي مع جل البترول قد صارا ملكا لدولة جنوب السودان ! أين إكتشافات الغاز الطبيعي في شرق السودان التي أعلن عنها قبلا و قيل إنها بكميات تجارية ؟ بل أين الإكتشافات النفطية في مربع 9 في منطقة الجزيرة في ( أبوجن ) و التي كانت الحكومة قد ضخمتها إعلاميا قبل إنفصال الجنوب ؟ كل تلك الإكتشافات لم تعد الحكومة تذكر عنها شيئا , و لكن ذكرت الأخبار أن وزير البترول الدكتور عوض الجاز قد عاد يدعو شركات البترول العالمية و يوزع عليها المربعات من أجل التنقيب عن البترول , و كأنه قد إستعاد سيرته الأولى و عاد إلى المربع الأول !
ترى , ماذا جنى السودان من إتفاقية نيفاشا ؟ و الإجابة أنني لا أرى شيئا ايجابيا قد جناه السودان منها , و الأسباب سوف أوردها كما يلي :
أولا – إن السبب الرئيسي كان وقف الحرب التي كانت تستنزف الحكومة و تكلفها أربعة ملايين دولارا يوميا , و قيل وقتها أن ميزانية الحرب هذه سوف تكون داعمة للتنمية و لرفاهية الشعب ! لكن الحرب لم تتوقف و إنما إشتعلت في دارفور و في جنوب كردفان و في النيل الأزرق و صارت تكلفتها أكثر بكثير مما كانت عليه أولا .
ثانيا – أيضا يندرج تحت السبب الرئيسي الخسارة الفادحة في ضحايا الحرب من الجانبين و التي بلغت مليونين من القتلى خلال سنوات الحرب التي تقارب الخمسين عاما . لكن الآن و في خلال ثمان سنوات بلغ عدد ضحايا الحرب في دارفور 300 ألف قتيل ! هذا غير ضحايا الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
ثالثا – لقد خسر السودان 80% من بتروله الذي ذهب لدولة جنوب السودان الوليدة كما ذكرت , و بذلك صارت حكومة المؤتمر الوطني الموقعة على الإتفاقية كالشخص الذي يفقأ ( يطبز ) عينه بإصبعه , خاصة بعد أن صار السودان يعتمد على عائدات البترول كليا , و أهملت الزراعة كما في مشروع الجزيرة , و تدنت إنتاجية المصانع .
رابعا – لقد لوحت الدول الضامنة للإتفاقية بحوافز معلنة و غير معلنة للحكومة السودانية و للإنقاذيين عند تنفيذهم لبنود الإتفاقية حتى الإستفتاء , و إتضح أخيرا أنها وعود خلبية لا زال تنفيذها يتطلب المزيد من التنازلات من الحكومة السودانية , و صار الأمر كقصة الحمارمع ربطة ( كليقة ) القش !
لقد كنت كبقية الكتاب الصحفيين مغيبا عما يجري في محادثات نيفاشا التي إستمرت لمدة تسعة أشهر بين وفدي الحكومة و الحركة الشعبية حتى يوم الإحتفال بتوقيع الإتفاقية , و عند ذاك تناولها الإعلام بكل البشريات و أنها فتح للسودان , و مسايرة لذلك كانت مقالتي الأولى عن تلك الإتفاقية مفعمة بالآمال العراض و أنزلتها في عمودي الأسبوعي الراتب في صحيفة ( الخرطوم ) آنذاك , و بعدها تواردت مقالاتي في نقد تلك الإتفاقية حتى إعلان قيام دولة الجنوب . لقد ضربت في مقالاتي أمثلة كثيرة لحركات إنفصالية طالبت بحق تقرير المصير و لكنها لم تمنح ذلك الحق , كما في حالة إيرلندا الشمالية التي طالب الجيش الجمهوري الإيرلندي بفصل إيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة و خاض حربا طويلة في ذلك , و حالة إقليم الباسك في إسبانيا و الذي شنت فيه منظمة إيتا حربا تحريرية لفصل الإقليم , و حالة إقليم الشيشان في روسيا و الذي شن المجاهدون فيه حربا تحريرية , و في كل تلك الحالات لم يتم الإنفصال و إنما منحت تلك الأقاليم حكما ذاتيا . أيضا عندنا في افريقيا حركة تحرير دلتا النيجر في نيجيريا و هو الإقليم الغني بالنفط في نيجيريا و لكن لم تمنحهم الحكومة النيجيرية سوى تمثيل أكبر في حكم إقليمهم و عائد إضافي من دخل البترول .
هل كان في المقدور لسيناريو الإنفصال الذي تم أن يكون مغايرا حتى مع بند تقرير المصير ؟ و الإجابة على ذلك نعم , إذا كان قد حدث أي أو كل من الآتي :
1 – إذا كان القدر قد أمهل الدكتور جون قرنق حتى نهاية فترة الإتفاقية , فللرجل كاريزما كانت سوف تقنع معظم الجنوبيين بخيار الوحدة و بمشروع السودان الجديد , الذي أحس هو بتباشيره منذ الإستقبال المليوني له في الساحة الخضراء , و كان حريا به أن يقحم القوميين الجنوبيين و يردهم على أعقابهم خاسرين , و لكنه فقد حياته جراء وحدويته .
2 – إذا كانت لدينا حكومة ديموقراطية تعود إلى الشعب في القضايا المصيرية و تطبق شعارات دولة المواطنة .
أخيرا , كيف يكون الحل للمعضلة الحالية التي أدخلت الحكومة فيها السودان بعد أن أفقدته موارده للعملة الصعبة و قادته نحو الإنهيار ؟ إنني أرى أن حل المعضلة الحالية و حل كل مشاكل السودان يكون في العودة إلى مكون السودان القديم , و هو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . هذه العودة إلى المكون السوداني القديم تتطلب تغييرا جذريا في الأفكار و الرؤى و في الوجوه المحفوظة التي ملها الناس !
omar baday [ombaday@yahoo.com]