أصبح الحديث عن الفساد واقعا يوميا في السودان. يدل هذا الواقع علي الاعتراف بتفشي ظاهرة الفساد بشكل خطير في الشأن العام السوداني. تبع ذلك الاعتراف الشروع في إنشاء مؤسسة للتصدي للفساد وذكر ان تلك المؤسسة ستكون تابعة لرئيس الجمهورية. هذا المستوي من تخصيص المهام يعني خطورة الوضع وصعوبة التصدي له مما تطلب الصعود الي اعلي الهرم التنفيذي حتي يصبح هدف محاربة الفساد قابلا للتطبيق.
لكن موضوع الفساد علي درجة كبيرة من التعقيد وهذا يستدعي وضع بنية تحتية قانونية، إدارية وفنية للتعامل معه. موضوع تعقد الفساد وانتشاره بجميع أنماطه يجعل نجاح مهمة التصدي إليه ومحاربته أمرا شبيه بالمعجزة إن لم نقل انه من المستحيلات. ما هي الأسباب التي تعيق عمليات مكافحة الفساد والسيطرة عليه؟ للإجابة علي ذلك السؤال يكفي استعراض أنواع الفساد وأنماطه بشكل مختصر حتي يصبح من الممكن الحكم علي الأفعال والنتائج ، بتتبع مصادر الفساد والتأمل في أسباب انتشاره.
للفساد إشكال يصعب حصرها ولكننا سنورد نماذج منه لتوضيح مدي خطورته وصعوبة معالجته. إذا اعتبرنا الفساد أسلوبا للاستغلال السياسي والاجتماعي والاقتصادي المصاحب باستغلال القوة الرسمية داخل الوحدات والهياكل الإدارية العامة والخاصة وانه عبارة عن بناء قائم علي علاقات استغلالية ، يستغل فيها من يملك القوة والنفوذ من لا يملكون القوة او السلطة خاصة في جوانبها السياسية والاقتصادية فسنجد في هذه الحالة أنماطا متعددة للفساد . من أهم تلك الأنماط استغلال الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة مادية او معنوية؛ يأتي بعد ذلك انتهاك المعايير القانونية والخروج علي المصلحة العامة لتحقيق مكاسب خاصة تصب في اعتبارات الثروة والجاه ثم ما يسمي بالفساد الهيكلي، وهذا من اخطر أنواع الفساد وهو ما نريد التركيز عليه في هذا المقال.
يصنف الفساد الهيكلي علي انه مجموعة من الاختلالات الهيكلية في النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلد المعين . بهذا الشكل فان اكتشاف أسباب هذا النوع من الفساد وتشخيصها يحتاج للبحث داخل البناء الاجتماعي – السياسي – الاقتصادي في مجمله بعيدا عن المظاهر السطحية و (النفايات) العابرة، أي أن هذا الفساد هو منظومة متكاملة مرتبطة بالبناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة. من هنا تنشأ علاقة قوية بين الفساد الهيكلي والفساد السلوكي، فوجود الأول هو الذي ينتج الثاني.
في سياق الفساد الهيكلي يدخل الفساد السياسي، وهو المخالفات والانحراف عن قواعد السلوك التي تنظم العمل السياسي المؤسسي في الدولة. وبالرغم من ان الفساد ظاهرة كونية إلا ان هناك فروق جوهرية بين النظم السياسية الديمقراطية والنظم الشمولية. ذلك الاختلاف مرتبط بما يسمي (بنمط الحكم الفاسد). يقصد بذلك نوع الحكم الذي لا يخضع لشرعية تمثيلية للشعب يمثل رأي الأغلبية ويعكس تفضيلاتها العامة وبالتالي فهو نوع من الحكم لا يخضع لسلطة القانون ولا يمتلك مؤسسات فاعلة للمحاسبة والمساواة أمام القانون. هناك اتفاق واسع النطاق علي ان عناصر الحكم الفاسد تتمثل في غياب الديمقراطية‘ ضعف او انعدام المشاركة في اتخاذ القرار، سيطرة الدولة علي الاقتصاد وفساد الحكام، تفشي المحسوبية والمحاباة.
من الفساد الهيكلي الموصوف أعلاه تتولد أنواع الفساد الاخري مثل الفساد المالي والإداري الناتج عن مخالفة القواعد المالية والأحكام والقواعد التي تنظم سير العمل الإداري ومخالفة الإجراءات الناتجة عن ضعف الأجهزة الرقابية والمحاسبية. تتجلي أنواع هذا الفساد في الرشاوى، الاختلاسات، التهرب الضريبي، مخالفات الأراضي، الخروج عن المواصفات والمقاييس وتفشي المحسوبية والمحاباة في التوظيف والترقي في العمل.
في نفس الوقت يتم تصنيف الفساد برؤية مختلفة من حيث النظم الإدارية في أشكال محددة ذات علاقة بالجوانب الفنية وآليات التصدي ، المراقبة والعلاج. ويعتبر هذا النوع من التصنيف مهما من ناحية تصنيف حالة الفساد ووضع الأسس الإدارية والقانونية والتنظيمية لمواجهته. أهم أنواع هذه التصنيفات نجد الفساد النظامي او المنتظم (systematic corruption ) ويقصد به وجود شبكات منظمة مرتبطة ببعضها البعض تدير الفساد بشكل محكم‘ هناك أيضا الفساد الكبير (Gross Corruption ) وهو فساد المستويات العليا في الدولة من كبار الموظفين والمسئولين لتحقيق مصالح مادية واجتماعية كبري وهذا الفساد من النوع الخطير، عالي التكلفة ومن الصعب معالجته حتي بالطرق القانونية التقليدية. يوجد كشيء منطقي تصنيف خاص بالفساد الصغير (Minor Corruption ) وهو فساد الفئات الوظيفية الدنيا الذي تتم ممارسته بشكل منفرد وهو غالبا ما يتناسب بشكل طردي مع أنواع الفساد المنظم والكبير. أخيرا هناك تصنيف للفساد ذو طابع جغرافي يهتم بأنواع الفساد الدولي (International Corruption ) عندما يأخذ الفساد أبعادا دولية تتشابك فيها المصالح بين منظمات وشخصيات علي مستويات دولية كما تلاحظ في الآونة الأخيرة من ارتباطات الأنظمة العربية الفاسدة بمنظمات وهيئات وشخصيات عامة علي النطاق الدولي، وهذا النوع من اخطر أنواع الفساد وأكثرها ضررا. يضاف لذلك تصنيف الفساد علي المستوي المحلي (Domestic Corruption ) وهو الذي يهتم بانتشار الفساد علي المستوي المحلي.
تلك نماذج لأنواع وتصنيفات الفساد بمختلف أشكاله التي تختلف وتتشكل حسب طبيعة البلد المعين، نظام الحكم فيه، طبيعة النشاط الاقتصادي وامتداده الخارجي وحسب رسوخ مؤسساته وهياكله التنظيمية. يتبع ذلك أساليب ممارسة الفساد والآليات المستخدمة فيه وكيفية الاستفادة من المكاسب المستمدة منه. تفيدنا الجوانب الخاصة بالدراسات عن الفساد بأنه ظاهرة بالغة التعقيد يتطلب التصدي لها تغيرا كاملا في هياكل الدولة ومؤسساتها وإتباع نظم حكم تراعي اتساع قاعدة المشاركة الشعبية الديمقراطية، إرساء القواعد القانونية والتنظيمية لضبط العمل السياسي والاقتصادي، الفصل التام بين السلطات، قيام مؤسسات راسخة للمحاسبة ومراقبة الأداء مع إتباع الشفافية والإفصاح في العمل العام والنشاط الخاص، بدون توفر تلك الشروط فان محاولة محاربة الفساد ستكون اقل نتيجة من الحرث في البحر المالح. إذن هل تتوفر في السودان اليوم الشروط الضرورية لبيئة صالحة للسيطرة علي الفساد؟ لا زال الطريق نحو تحقيق ذلك الهدف وعرا وشاقا وتوفير البيئة الملائمة يتطلب تكاليف باهظة الثمن.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]