الفصل الثالث عشر من كتاب: "ما وراء السودان" The 1900 Mutiny تَمَرُّد عام 1900م Henry Cecil Jackson هنري سيسيل جاكسون ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة للفصل الثالث عشر من كتاب "ما وراء السودان Beyond the Sudan"، للإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون. نشرت دار نشر ماكميلان الكتاب في لندن عام 1955م. عمل جاكسون في مجال الإدارة بالسودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، ولخص تجربته في الحكم والإدارة في عدد من المقالات والكتب التي وصف في بعضها عادات السودانيين وأمثالهم في مختلف المديريات التي عمل فيها، وأرخ في بعضها الآخر لبعض الشخصيات السودانية مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وقد ترجمنا من قبل بعض فصول هذا الكتاب، ومقتطفات من بعض كتب ومقالات مختلفة لهذا الإداري الكاتب. سبق لنا نشر ترجمة مختصرة لمقال أكثر حيادية وموضوعية وأقل تحاملا على مصر بقلم المؤرخ وليام مارتن دالي بعنوان: "تمرد الجيش المصري في أم درمان في يناير وفبراير عام 1900م". يمكن قراءة ذلك المقال المترجم في هذا الرابط: http://www.sudanile.com/94697 المترجم ********** ********* أعتقد بأنه يصح القول يأن هزيمة جيش مصر المجهز تجهيزا جيدا على يد قوات أنصار المهدي الضعيفة التسليح كانت بالنسبة لها إهانة بالغة. وحتى اليوم – بعد سبعين عاما على تلك الهزيمة – لم تفق مصر من وقع تلك الهزيمة على كرامتها. فقد كانت قد فقدت في غضون سنوات قليلة إمبراطوريةً كانت تضم ذات يوم بربرة وزيلع في أرض الصومال، وقوندار في الحبشة، وكل أرجاء السودان، عدا موقعين أماميين (outposts) في سواكن ووادي حلفا. وكان من مصر ستفقد أيضا ذانيك الموقعين لولا وجود البريطانيين والقوات الإمبراطورية والسودانية. وفقدت مصر للأبد سيطرتها على بربرة وزيلع وقوندار، ولكنها لا تزال مُستمسَكة بأمل إعادة سيطرتها على السودان تَارَةً أُخْرَى. وكانت تحاول بين كل فترة وأخرى (خاصة في أعوام 1894 و1899 و1924 و1946 و1953م) أن تثير الكراهية بين البريطانيين والسودانيين على أمل أن نُطْرَدَ من البلاد، وتحل هي محلنا. دعونا نعود إلى يوم من أيام يناير 1894م عندما سافر خديوي مصر الشاب عباس حلمي جنوبا عبر النيل مع ماهر باشا وزير حربيته المعادي لبريطانيا، وذلك لتفتيش القوات المصرية في أسوان وكورسيكو ووادي حلفا. وكان ماهر باشا يكره الإنجليز، خاصة سير إڤلين بارنج Evelyn Baring (1)، الذي كان يحكم السيطرة ويحد من بذخ وسَرَف الخديوي الصغير. وتضاعفت بالطبع عداوة الخديوي عندما وجد نفسه عاجزا عن مَرَاكِمَة ثروة من عمل الفلاحين الصابرين – وهي ممارسة عاد إليها الملك فاروق في سنوات تالية، وأتت عليه بنتائج كارثية. ودأب الخديوي على ذم القوات البريطانية وشتم الضباط البريطانيين الذين خلقوا لمصر قوة هجومية ممتازة من جنود يفتقرون للتنظيم والتدريب والاستعداد العسكري (في الأصل: من "مواد أولية غير واعدة". المترجم). وأُقِيمَ على شرف الخديوي الصغير عرض عسكري ضخم في وادي حلفا. ولكنه قضى كل وقته في ذم القوات البريطانية والاستخفاف بها، وفي تمجيد المصريين. صاح قائلا: "انظروا فقط لتلك الكتيبة البريطانية! لِمَ يعجزون عن حتى السير في طابور منتظم؟! كيف يتوقع من أمثال هؤلاء أن يحاربوا؟" ولما مرت كتيبة مصرية أمامه، التفت إلى كتشنر وقال: "الآن هذا هو السير العسكري الحقيقي. لماذا لا يستطيع جنودكم السير هكذا؟" وبعد انتهاء ذلك العرض العسكري قال الخديوي عباس حلمي لكتشنر أنه من العار على أي قوات تحت قيادته أن تكون بمثل ذلك القصور وقلة الكفاءة. وكتم كتشنر غيظه وهو يستمع لذلك السَّبّ الذي لا مبرر له، رغم أنه كان من السهل عليه أن يذكره بأن القوتين البريطانية والإمبراطورية هما من أنقذتا سواكن للخديوي. ويذكره أيضا بأن القوتين البريطانية والسودانية وحدهما هما من منعتا بكل شجاعة أنصار المهدية من غزو مصر وذلك في معركة توشكي، بينما هرب الجنود المصريون من أمام الدراويش بسيوفهم وحرابهم. وقرر كتشنر أن يقتصر رده على احتجاج رسمي إنابة عن الرجال الذين كان يقودهم. وقام أيضا بتقديم استقالته بكل احترام. وبمجرد مغادرة الخديوي لمكان العرض العسكري، بعث كتشنر برسالة طويلة إلى سير إڤلين بارنج سرد فيها تفاصيل ما دار في تلك الحادثة. أدرك بارنج خطورة الوضع. وكان بارنج نفسه قد واجه الكثير من الصعوبات في التعامل مع ذلك الخديوي الشاب – الذي كان سلوكه يختلف كليا عن سلوك والده، توفيق باشا، الذي كان بارنج يعمل معه بتعاطف وتفاهم. أما عباس حلمي فقد كان ينفق بتبذير كبير على نزواته الشبابية. وتغاضى بارنج عن الكثير من أفعال الخديوي في محاولة لكسب ثقته وتعاونه. غير أن تلك المحاولة لم تصادف نجاحا كبيرا، وأدرك بارنج أن الاعتدال الشديد الذي أبداه لم يلق تقديرا من الخديوي. وعندما بدأ الخديوي في تشجيع الجنود على عصيان ضباطهم وعدم الإخلاص لهم (خاصة وأن كثيرا من أولئك الضباط كانوا من البريطانيين المسيحيين ويقودون جنودا مسلمين) قرر بارنج أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات أكثر حزما وقوة، فسارع بإرسال برقية إلى لورد روزبيري Rosebery (رئيس وزراء بريطانيا بين عامي 1894 – 1895م. المترجم). وفي ذلك الوقت اقترح بارنج عزل ماهر باشا عن رئاسة الوزارة، وأن ينشر الخديوي بيانا يتضمن الثناء على كفاءة الجيش المصري، والشكر والتقدير للضباط البريطانيين لخدماتهم التي قدموها. وجاء رد لورد روزبيري سريعا بالموافقة، ومنح سير بارنج تأييد حكومة جلالة الملكة له في اتخاذ أي قرار يراه مناسبا. ووقع الخديوي عَلَى مَضَضٍ على كل ما طلبه منه سير بارنج، غير أنه لم ينس أو يغفر تلك الضربة التي وجهها بارنج لكبريائه وكرامته. وبعد مرور خمس سنوات على تلك الحادثة أتاحت بعض الاضطرابات عند أوساط معينة الفرصة للخديوي كي ينتقم لنفسه. فقد قام كتشنر بعد انتهاء "حملة النيل"، ومن فرط حرصه على سلامة الاقتصاد، بإصدار بعض القرارات التي أثرت سلبا على مرتبات وحقوق معاشات الضباط المصريين والسودانيين، مما أثار سخطهم الشديد. ولما عُيِّنَ كتشنر في عام 1899م رئيسا للأركان لدي لورد روبرتز Roberts (في حرب البوير بجنوب أفريقيا. المترجم)، غادر السودان متجها إلى مصر للتجهيز لرحلته إلى جنوب أفريقيا، وأخذ معه الكثير من المعدات العسكرية والبنادق وذخيرة بطاريات مدافع كروب (Krupp). وأفضى ذلك لإضعاف الوضع العسكري البريطاني بالسودان، وتسبيب القلق للضباط البريطانيين في الخرطوم وأم درمان، الذين كان عددهم قليلا. وبعد فترة قليلة، وعقب مقتل الخليفة وانتهاء العمليات الحربية بالسودان، أصدر قائد القوات البريطانية العقيد ماكسويل (Maxwell)، أوامره لكل الوحدات بأن تقوم بتخزين ذخائر كل الأسلحة الصغيرة التي لا حاجة لهم بها في زمن السلم. وفي مكان آخر، وتحت ظروف مختلفة، لم يكن لذلك القرار أن يسبب أدنى مشكلة. غير أنه صدر في لحظة مؤسفة، بُعَيْدَ "الأسبوع الأسود" في جنوب أفريقيا (2) الذي تلقت فيه الجيش البريطاني سلسلة من الهزائم. وثابر الضباط المصريون الغاضبون الذين قُللت مرتباهم، على إشاعة خبر هزيمة ذلك الأسبوع، وعلى أن البريطانيين قد انتهوا – وكانت تلك غلطة كلفتهم غاليا في أوقات لاحقة على يد القيصر فيلهلم / ولهلم (Wilhelm) وهتلر وموسوليني. وقالوا أيضا بأن البريطانيين ضعفاء للدرجة التي سيبعث بها الجيش المصري ليحارب البوير، الذين كانوا سيقتلونهم جميعا، وأن جيش البريطانيين ضعيف التسليح، مما أضطر كتشنر لأخذ مدافع كروب من قواتهم بالسودان، وأن كتشنر لا يثق في الجنود السودانيين، لذا قرر سحب الذخيرة منهم. وفوق هذا وذاك، استخدم المصريون ذات الأسلوب الذي استخدموه لاحقا أثناء اضطرابات عام 1924م، حين زعموا أن البريطانيين سيُجبرون على ترك السودان، وأنه عندما يحدث ذلك، سيكون على السودانيين الاعتماد على المصريين لتوفير مرتباتهم وترقياتهم ومعاشاتهم. ****** ***** ***** عُيِّنَ العقيد وينجت ليحل محل لورد كتشنر في السودان. غير أنه لم يستطع أن يغادر مصر على الفور لمباشرة عمله كسردار وحاكم عام. وكان له في القاهرة أصدقاء من ذوي النفوذ – كان بعضهم وثيق الصلة بالخديوي. وكان هؤلاء الأصدقاء يحتقرون فساد الخديوي وطمعه. وكان أصدقاء وينجت يبلغونه بما يحدث، وأخبروه بأن الخديوي هو من يثير مشاعر السخط في الجيش. وأرسل وينجت تلك المعلومات بالطبع لكتشنر، رغم أنه أخفق في إقناعه بأن الاضطرابات في ازدياد، وأنها توشك أن تنفجر. وفي يوم 28/1/1900م أرسل العقيد ماكسويل (الذي كان يقوم بمهام السردار والحاكم العام في السودان) برقيةً إلى العقيد وينجت بالقاهرة يطلب منه الحضور للخرطوم بأعجل ما تيسر، ويعلمه بأنه ليس مستعدا للمهام الطارئة التي سُنِدَتْ إليه. وكان أفراد إحدى الكتائب السودانية قد تمردوا، واقتحموا غرفة الحراسة، واستولوا على الذخائر، وأخرجوا البريطانيين من ثكناتهم الطينية، وجعلوهم في موقف الدفاع. وفور تلقي وينجت لتلك البرقية سعى لمقابلة الخديوي، وطلب أيضا تفويضا مكتوبا يسمح له بالتصرف لإعادة النظام وفقا لما يفرضه عليه الموقف في الخرطوم. غير أنُه لم يدُهش عندما قال له الخديوي: "إن لديك كامل الصلاحيات للتصرف بحكم منصبك. لذلك لا أرى داعيا لأي تعليمات إضافية". غير أن وينجت أصر على الحصول على تعليمات مكتوبة ليحملها معه قبل أن يسافر للخرطوم في تلك الليلة. قال للخديوي: "الذي أقوده هو جيشكم يا سمو الخديوي. وهذا التمرد هو عار عليه. ومن الواجب أن أتلقى كامل العون من سموكم في كل ما سأقوم به". وتَمَنَّعَ الخديوي لفترة من الوقت. غير أن موقفه بدأ يلين مع مزيد من النقاش حول الأمر. وقال لوينجت أخيرا: "حسنا يا باشا. إن أردت أن تكتب مسودة التعليمات التي تود أخذها، سنرى ما يمكن أن نفعله في شأن هذه المسألة". وقبل أن يواجه وينجت باحتمال نكوص الخديوي عن موافقته، هرع وينجت عائدا لمكتبه في وزارة الحربية وكتب التعليمات المطلوبة وأرسلها للخديوي. وعقدت الوزارة المصرية اجتماعا خاصا لمناقشة ما كتبه وينجت، الذي ذهب لمحطة القطار قبل نصف ساعة من موعد تحركه. وبقي وينجت ينتظر تسلم وثيقة التفويض الموعودة. ومع تأخر وصول الوثيقة، بدأ وينجت يشك في أن الخديوي قد غير رأيه في التوقيع على التفويض. ولكن، مع بدء تحرك القطار، أتى حاجب على ظهر حصان وقذف بالأوراق المطلوبة لوينجت من النافذة. وبمجرد أن بَلَغَ وينجت الخرطوم أمر بإقامة حفل استقبال له في أم درمان بحسبانه السردار والحكام العام الجديد. وبعد الفراغ من ذلك الحفل قدم للضباط القهوة والسِيجَار وسألهم إن كان لأي منهم تَظَلُّم أو شِكايَة، فهو مستعد للإنصات لها. ثم ذهب إلى الساحة في الخارج حيث كان هناك جمع من الضباط المهتاجين وهم يصيحون ويلوحون بأيديهم. طلب منهم وينجت أن يصمتوا، وشرح لهم بأنه يستحيل عليه أن يستمع لشكاوى حشد صاخب من الناس يتحدثون في وقت واحد، ولكنه مستعد للاستماع لكل الشكاوى والتَظَلُّمات من أفواه عدد معقول من ممثليهم. وتم اختيار سبعة من الضباط. وعلى الفور قدموا هؤلاء مطلبهم وهو إلغاء الإصلاحات المالية التي قررها كتشنر. ووعدوا أيضا بإنهاء الاحتجاج فور سحب ذلك القرار. وهنا هاج وينجت (يمكنني تصور هيئة ذلك "الرجل الصغير" كما كان يُسَمَّى، بشاربه المصقول بالشمع (waxed moustache)، وهو يكاد يغلي من شدة الغضب وهو يواجه جمعا من المتمردين) ويصيح فيهم غاضبا: "ماذا! أتقومون بتمرد في الجيش الذي أقوده أنا، ثم تطالبونني بإلغاء واحد من أوامر سلفي في القيادة؟ لن أفعل شيئا حتى تُعاد كل طلقة ذخيرة تمت سرقتها، وحتى يعود النظام والضَّبط والرَّبط كسابق عهده". وختم حديثه بالقول: "يمكنكم قتلي، وقتل الضباط البريطانيين القلائل هنا. ولكن إن أقدمتم على فعل كهذا، فسوف يأتيكم الجيش البريطاني ويمسحكم من على وجه الأرض". بعد ذلك غادر وينجت أم درمان وبعث ببرقية إلى بارنج (الآن النبيل Viscount بارنج) في القاهرة يخبره فيها بما حدث له مع الضباط المتمردين. وأجابه بارنج بأنه قد أخطر لورد ساليسبوري رئيس الوزراء بما حدث، وأن الأخير على استعداد لإرسال كتيبة من الجند لمساعدته. وعلى الرغم من ذلك العرض، بقي وينجت مصمما على محاولة كبح التمرد وضبط الأمور دون الحاجة لمساعدة من الجيش البريطاني. وكان ذلك قرارا بالغ الشجاعة منه، إذ أنه لم يكن يعلم إن كان التمرد قد انتشر في أوساط الكتائب الأخرى أم لا. وبعد يومين تلقى وينجت أمرا يقضي بإرسال 15 من أفضل وأقدم ضباطه البريطانيين في الجيش المصري إلى جنوب أفريقيا. كانت تلك ضربة قاصمة في خضم خطر عظيم. فعلي الرغم من أن السودانيين سيتبعون ضباطهم البريطاني ويطيعونه إلى النهاية إن عرفوه وأحبوه ووثقوا فيه، إلا أنهم سيأخذون وقتا قبل القبول بضابط جديد. قال وينجت للعقيد ايقرتون: "انظر إلى (ك) يتابعنا حثيثا. كان إلى حين مغادرته للخرطوم يرفض رفضا باتا أن يتطوع أي ضابط هنا للذهاب إلى جبهة جديدة. ولكنه ما أن وصل لجنوب أفريقيا، حتى طلب من وزارة الحرب أن تأمرنا بأن نرسل له 15 من أفضل وأقدم ضباطي الذين أعتمد عليهم". قام وينجت بتعيين لجنة سرية من كبار الضباط البريطانيين لتقصي واكتشاف أصل وأسباب الاضطرابات في أوساط الكتيبة السودانية. وللمساعدة في عملية التقصي هذه، استدعى وينجت العقيد (فيما بعد سير هيربرت) جاكسون (3)، الذي كان وقتها مديرا لمديرية بربر إلى أم درمان. كان الرجل يعرف عن قرب رجال الفرقة السودانية 11 ونسائهم وأطفالهم، فقد كان قائدهم في "حملة النيل". وكانوا يحبونه لدرجة أن بعض أولئك الجنود أحاطوا به في معركة أتبرا ليمنعوا عنه أي أذي قد يصيبه. وبمجرد وصول العقيد جاكسون لأم درمان، أمر بجمع كل نساء الكتيبة ليتأين ويقابلنه مع كبيرتهن (شيخة الحريمات). وكانت هنالك شيخة للنساء في كل كتيبة سودانية مهمتها نقل أي شكوى أو مظلمة في أوساطهن للسلطات. وكن مسؤولات أيضا عن حفظ النظام في منطقة سكنهن، ويعاقبن من تسيء السلوك بالضرب الشديد بشِبشِب. وعندما أكتمل حضور النساء، طلب منهم العقيد جاكسون الجلوس، ثم قال لهن: "ما هذه الأخبار السيئة التي سمعتها يا بناتي؟ لقد سمعت بأن أزواجكن قد كسروا مخزن الذخيرة وسرقوا كل الأسلحة والذخيرة! بالتأكيد لا يمكن أن يكون صحيحا؟". أجابت الشيخة الكبيرة: "هذا حدث بالفعل يا أبانا. والسبب هو أنهم أخبروا بأنهم سيرسلون إلى جنوب أفريقيا ليحاربوا من أجل الإنجليز. وهم لا يريدون ذلك. لذا استولوا على البنادق لحماية أنفسهم إن حاولوا إجبارهم بالقوة على الذهاب هناك". أجابهم العقيد جاكسون بالقول:" هذا كذب يا بناتي. وأنا – والدكن - أقسم لكن بأن الحكومة لا تنوي أرسال أزواجكن لجنوب أفريقيا. صحيح أن الحكومة ستبعث ببعض البنادق لجنوب أفريقيا، لأن البنادق التي يستخدمها رجالكن أفضل من تلك التي عند الإنجليز". ردت الشيخة (متعجبة): "والله! هل هذا صحيح؟" قال جاكسون: "والله! هذا صحيح". " إذن ما الذي علينا عمله؟" أجابهن جاكسون: "تصرف أزواجكن بغباوة شديدة... ولكن أخبروهم بأنهم إن أعادوا الليلة البنادق والذخيرة التي أخذوها، فستعفو الحكومة عنهم". قالت الشيخة بأن زوجات الجنود سوف يدبرن الأمر ويقنعن أزواجهن بإعادة البنادق والذخيرة. إلا أنه لا بد من التفكير والنقاش في كيفية فعل ذلك، فالنساء لا يردن أن يسمع الضباط المصريين بهذا الأمر. قبل حدوث ذلك التمرد، كانت الأسلحة والذخيرة مخزنة في سقيفة بها أبواب مفتوحة على بعضها وفوقها نوافذ ذات مصاريع. ولذا كان التدبير هو أن تترك مصاريع تلك النوافذ مشرعةً حتى يرمي الجنود البنادق والذخيرة من خلالها في داخل المخزن. وتم بالفعل ذلك. وعند الصباح كانت كل البنادق وكل قطعة ذخيرة قد تم إرجاعها. وأصدر وينجت قرارا برأ بموجبه كل الذين شاركوا في ذلك التمرد. وليختبر ولاء أولئك الجنود، أمر وينجت بإقامة عرض عسكري لهم، وأمر – من باب الحذر – بأن تقف سرية من الجنود البريطانيين من الـ (Seaforth Highlanders) بالقرب من مكان العرض. ولم تحدث أي حادثة وتم العرض بسلام. وبعد انتهاء العرض جيء بالضباط المصريين السبعة الذين كانوا على رأس ذلك التمرد وعرضوا على الضباط والجنود الآخرين. وعلى قرع الطبول، أزيلت شارات رتبهم العسكرية، وخفضت رتبهم إلى رتب أقل كثيرا (4). وأخرجوا مذلولين من أمام العرض العسكري في حراسة جنود بريطانيين. عندما غادر وينجت القاهرة إلى أم درمان، لم يكن يعلم أن كان سيظل حيا ويعود مرة أخرى أم لا. لذا أسند للعقيد دريق، الضابط الكبير في فيلق خدمات الجيش، وإلى العقيد ايقرتون، مهمة العناية بشؤون النساء الإنجليزيات (الليدي وينجت، والسيدة ماكسويل وخادماتهما)، وأن يخرجاهما من السودان بسلام. وكان وينجت قد وصل لأم درمان على ظهر باخرة صغيرة اسمها الفن Elfin، وكان من المفترض، لو جرت الأمور كما كان مخططا لها – أن ترجع الضباط المفصولين إلى الحلفايا. أما إذا لم تسر الأمور كما ينبغي لها، فقط أمر وينجت العقيد دريق بأن يرسل النساء الإنجليزيات لمصر في رفقة عدد من الجنود البريطانيين من الـ (Seaforth Highlanders). وكان من المقرر ألا يغادر القطار الذي سيغادر الحلفايا عند منتصف النهار حتى تصل تلك الباخرة (أضاف الكاتب في الهامش أن البريطانيين أسموا الحلفايا "شمال الخرطوم Khartoum North "). ولسوء الحظ حدثت عقبة في الدقائق الأخيرة، كان من الممكن أن تفضي إلى كارثة. فقد غادر القصر قبيل منتصف النهار مركب بخاري وهو يحمل بريد الحاكم العام. وفهم الرجل المسؤول عن القطار خطأً ما تلقاه من تعليمات، وظن أن ذلك المركب البخاري هو تلك "الباخرة" التي طُلب منها انتظارها، وسمح للقطار بالتحرك. وكان العقيد ايقرتون قد قضى كل ساعات الصباح على سطح القصر وهو يمسك بمنظار مقرب ليرى تحركات الباخرة الفن. وأصيب بصدمة كبيرة وهو يرى القطار يتحرك من المحطة. هل قُتل وينجت؟ وإذا حدث هذا، ماذا سيفعل وقد غادر القطار الذي كان من المفروض أن يحمل النساء الإنجليزيات والجنود البريطانيين الـ (Seaforth Highlanders) شمالا. وفوق هذا، فإن هنالك بطارية للمدفعية المصرية على الضفة الأخرى للنهر بإمكانها أن تقصف القصر دون رادع، إذ ليس معنا ذخيرة للمدفعين العتيقين (من نوع Howitzers) الوحيدين في القصر. غير أن آمال العقيد ايقرتون بدأت تعود للحياة مع مرور الوقت، إذ أنه لم يسمع صوتا لإطلاق نار من جهة أم درمان. وأخيرا شاهد بخار آتيا من الباخرة الفن عند منحنى النهر. وكان ما زاد من اطمئنانه أكثر أن رأى الحراس يحيطون بالسطح العلوي للباخرة. وتم في غضون ساعة أو ساعتين إرجاع القطار، ووضع الضباط المصريون المتمردون في داخله تحت حراسة (مشددة). لا بد أن هناك دروسا مستفادة من عَاقِبَة تلك الحادثة: لقد وجد لاحقا الضباط الذين تم فصلهم (أو خفضت رتبهم) وأخرجوا من الجيش في السودان بخزي وعار وبصورة تعوزها الكرامة، وظائف بمخصصات ممتازة مع بعض كبار العائلات المصرية العريقة. ****** ***** ***** إحالات مرجعية 1. للمزيد عن سيرة بارنق بمكن الاطلاع على ما جاء في الموسوعة البريطانية في الرابط: https://www.britannica.com/biography/Evelyn-Baring-1st-Earl-of-Cromer 2. المقصود بـ "الأسبوع الأسود" هو الأسبوع (10 إلى 17 ديسمبر 1899م) الذي تلقت فيه القوات البريطانية ثلاث هزائم كبيرة من قوات جمهوريات البوير، خسرت فيها 2,776 ما بين قتيل وجريج وأسير. 3. للمزيد عن هيربرت وليم جاكسون يمكن قراءة مقال أحمد إبراهيم أبو شوك في هذا الرابط https://tinyurl.com/wkbse5pk 4. ضرب الطبول أثناء القيام بطقوس العزل من الخدمة لأسباب تتعلق بالخيانة أو المس بالشرف "Drummed out of the army" كان تقليدا عسكريا استخدم قديما لتحذير الآخرين.