الفكر السوداني: التطور والعثرات

 


 

 

 

قبل الدخول في الموضوع ، أري من المهم  تعريف أوتحديد المقصود بالفكر السوداني ، فماهو الفكر السوداني ؟

نقصد بالفكر السوداني : حصيلة تفاعل المؤثرات الفكرية الخارجية ( الفكر الديني ، الفكر الإنساني ) بالواقع والموروث الثقافي الفكري المحلى . وحاصل هذا التفاعل هو ما يسمى بالفكر السوداني .

ما هي مكونات الفكر السوداني ؟

معلوم أن مكونات الفكر السوداني تتركب من :

أ – مكون ديني ( كريم المعتقدات ،المسيحية ، الإسلام ) ، أي أن السودانيين مارسوا في ديانتهم كريم المعتقدات  والديانات التوحيدية .

ب – الثقافة الأفريقية ( الزنجية ، النوبية ، البجاوية .. الخ ) .

ج – الثقافة العربية الإسلامية .

د – الفكر الإنساني الحديث والذي تبلور وتكون في أوربا بعد زوال النظم الإقطاعية ، وبعد عصر النهضة ، وبروز المجتمعات الرأسمالية وما تمخض عنها من ثورات سياسية ( الثورة الفرنسية التي رفعت شعارات الحرية والمساواة وحقوق الإنسان..الخ ) ، وثورات في قوى الإنتاج ( الثورة الصناعية الأولى ) ، وثورات في العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية .. والتي دفعت البشرية إلى مدارج أرقى في التقدم والتطور ونتجت عنها قضايا ومشاكل جديدة . هذا الفكر بدأت تظهر بذوره في السودان منذ غزو نابليون لمصر في أواخر القرن الثامن عشر .. ذلك الغزو الذي هز راكد الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية في مصر وأيقظها من سباتها الطويل بعد حكم المماليك الذي دام اكثر من خمسمائة عام .  وقد يسأل سائل ما علاقة مصر بالسودان وبالفكر السوداني ؟ معروف أن من خصوصيات السودان هي علاقته التاريخية والفكرية بمصر ، فمنذ قيام الحضارات السودانية القديمة ( حضارات المجموعات ، كرمة ، نبتة ، مروى ، ممالك النوبة المسيحية ، والممالك الإسلامية : الفونج – الفور – تقلى .. ) ، كان السودان في حالة تفاعل فكرى مع مصر ، ومن خلال بوابة مصر عرف السودانيون حضارات البحر الأبيض المتوسط ( اليونانية، الرومانية..الخ ) ، والحضارات الفارسية والهندية والآشورية والإسلامية ، وتفاعلوا معها أخذا وعطاءا ، ومن بوابة مصر أيضا دخلت المسيحية السودان ، كما دخل الإسلام ، كما دخلت التيارات الفكرية الحديثة إضافة للمداخل والمؤثرات من البلدان الأخرى غير مصر .. فالعلاقة بين مصر والسودان دائما كانت علاقة خاصة ، ولكنها لم تكن علاقة تبعية فكرية أو ثقافية .. ذلك أن الاستقلال الفكري والثقافي والحضاري للسودانيين برز من خلال ثلاثة عناصر : -

أ – استقلال ثقافي : والذي بدأ من خلال استنباط أبجدية للغة المروية واللغة النوبية

ب – استقلال ديني : ويعد الإله أبا دماك رمزا لهذا الاستقلال ، وارتباط مفهوم الدفاع عن الوطن بالدفاع عن العقيدة .. ومن مواقع الدفاع عن العقيدة والاستقلال الديني صد السودانيون الغزاة وطردوهم من البلاد .. هذا إضافة لخصوصيات الإسلام والمسيحية وتفاعلها مع الموروثات المحلية وما نتج عنهما من مسيحية سودانية واسلام سوداني تميز بالتسامح وتعدد الطرق الصوفية. .

ج – استقلال حضاري : ذلك أن الحضارات التي أقامها السودانيون .. رغم تأثرها بالوافد من مصر .. إلا أنها كانت حضارات متميزة ومستقلة ( كرمة ، نبتة ، مروى ، النوبة المسيحية ، السلطنة الزرقاء وسلطنات دارفور وتقلي والمسبعات.. ) .

  من مواقع الدفاع عن الوطنية السودانية صد النوبة حملات عبد الله بن ابي السرح في القرن السابع والتي فشلت في فتح بلاد النوبة وإخضاعها عسكريا مما أدى في النهاية إلى ما عرف في التاريخ باتفاقية البقط التي استمرت لاكثر من ستمائة عام . وبتغير الأوضاع في بلاد المسلمين وتولى سلالات غير عربية للحكم في بلاد الشام وفارس ومصر والمغرب .. ازدادت هجرة العرب للسودان طلبا للكلأ والماء والتجارة وفرارا من الاضطهاد السياسي في عهد الدولة العباسية والدولة الفاطمية .. وكانت الهجرة من ثلاثة مداخل : 1 – مصر 2 – عن طريق البحر الأحمر 3 – عن طريق المغرب العربي .. وحدث تفاعل بين العرب الذين استقروا في جنوب مصر ( أرض المريس ) والنوبة .. وحدثت المصاهرة والاندماج الثقافي ، ومن خلال ذلك انتشر الإسلام .. هذا إضافة إلى غزو المماليك المتكرر لبلاد النوبة المسيحية وتدخلهم في شئونها في أيامها الأخيرة .. كما لعبت الطرق الصوفية دورا كبيرا في نشر الإسلام .. وتوسيع نفوذ المسلمين في مملكة المقرة المسيحية حتى تولى أول حاكم عربي مسلم لملكها ( عبد الله بر شمبو 1317 ه)   .

   وفي مملكة علوة المسيحية ( سوبا ) كان المسلمون متواجدين قبل زمن طويل ، وانتشرت القبائل العربية في سهول ومروج أرض علوة وخاصة أرض الجزيرة .. وبمرور الزمن سقطت مملكة علوة في يد القبائل العربية ( تحالف أنصار عبد الله جماع ) وبعد ذلك قام الحلف الفونجي العبدلابي ، والذي أدي لقيام مملكة الفونج ( السلطنة الزرقاء : 1504 – 1821 ) ، أما في غرب السودان فقد قامت سلطنة دارفور، إضافة لسلطنتي: المسبعات وتقلي .

   هكذا انتشرت الديانة الاسلامية والتي اصبحت من المكونات والروافد الأساسية للفكر السوداني . وبتفاعل الإسلام مع الموروث المحلي نتج ما يسمى بالإسلام السوداني الذي تفاعلت فيه الطرق الصوفية بالواقع السوداني، والذي تميز بتعدد الطرق الصوفية وبالتسامح كما أشرنا سابقا. .

   وبعد ذلك حدث الغزو التركي للسودان في عام 1821 م على يد محمد على باشا ، والذي أصبح واليا لمصر بعد فشل حملة نابليون ، وكان متأثرا بتطور الغرب الحضاري ، وكان مصمما على بناء دولة عصرية في مصر ، وكان في حاجة إلى الرقيق والمال لتحقيق تلك الأحلام والطموحات .. وعندما غزا محمد على باشا السودان كانت مملكة الفونج في حالة تفكك شامل ، وفي حالة عزلة كاملة عن العالم . وكانت معركة كورتي التي هزم فيها الشايقية نتيجة للتفوق بالأسلحة النارية ، وهزيمة انتفاضة الجعليين والمقاومات الأخرى .. وكان ذلك بمثابة الشرارة التي ربطت السودان بالعالم . وباحتلال الأتراك للسودان أصبح السودان دولة تابعة .. وارتبط بالسوق الرأسمالي العالمي ( من خلال التجار الأجانب ) ، ومن خلال تصدير سلعتي الصمغ والعاج بواسطة مصر إلى أوربا .  ودخلت البلاد النظم الجديدة في الحكم والإدارة، وظهرت فئة العلماء ورجال الدين المرتبطة بجهاز الدولة والتي تكونت في الإمبراطورية العثمانية . كما طور الأتراك الزراعة ( إدخال محاصيل نقدية جديدة ، وسائل حديثة للري ) – توسيع زراعة القطن والنيلة ، إدخال السواقي المصرية الكبيرة بدل ( السودانية الصغيرة ) ، وإرسال بعثات من السودانيين لمصر وأوربا للتعليم علي فنون الزراعة والهندسة ، كما دخلت البواخر النهرية وقامت مصلحة الوابورات أو مصلحة النقل النهري ، والمواني النهرية في كوستي وكريمة وغيرهما . كما ادخل التلغراف والمطبعة والتعليم المدني الحديث، وانتشر التعليم التبشيري في شمال وجنوب السودان – بدرجة اكبر . وانتشرت صناعات مثل : صناعة الحلج والغزل وصناعة الصابون والبارود ... الخ . وبرز السودان بحدوده المعلومة بعد أن تم ضم مديرية دارفور ( 1875 ) ، وتم ضم مديريات الجنوب ( الاستوائية ، بحر الغزال ، أعالي النيل ) ، كما تم ضم مديرية التاكا" كسلا" وميناء سواكن للسودان . بهذا الشكل ظهر السودان بحدوده السابقة تقريبا في فترة الحكم التركي والذي تغيرت صورته حاليا بعد انفصال الجنوب . وظهرت طرق صوفية جديدة نتيجة للتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في البلاد مثل: الطريقة الختمية..الخ. .

    وهذه الإصلاحات التي أدخلها محمد على وخلفاؤه من بعده ، كان يهدف منها إلي زيادة الإنتاجية لتحقيق أهدافه في بناء دولة عصرية في مصر . كما ارتبطت بنظام ضرائبي لم يعرفه السودان من قبل ، إضافة للوسائل الوحشية التي كانت تجبي بها هذه الضرائب . كل ذلك لامتصاص واستنزاف قدرات الشعب السوداني . وبهذا المعني أصبح السودان دولة تابعة وارتبط بالسوق الرأسمالي العالمي من خلال تصدير سلعتي الصمغ والعاج إلى أوربا عن طريق مصر .

  ونظام محمد على نفسه بعد فترة اصبح تابعا لإنجلترا بعد أن تم إغراقه في ديون أدت في النهاية إلى احتلال مصر بعد فشل ثورة عرابي عام 1882 بواسطة القوات البريطانية . إي يمكن القول أن السودان اصبح تابعا لدولة هي نفسها تابعة للنظام الرأسمالي العالمي . أي أن تبعية السودان كانت مركبة ، وهذه التبعية المركبة نتج عنها نظام سياسي وحشي دمر واستنزف قدرات السودان الاقتصادية والبشرية وفرض ضرائب باهظة علي المزارعين والتجار والرعاة والحرفيين ، كانت من الفظاعة مما أدت إلى هجر المزارعين لسواقيهم وأراضيهم وتجميد التجارة والنشاط الاقتصادي . وكان من نتائج ذلك وعوامل أخري اندلاع الثورة المهدية .

استندت ايديولوجية المهدية علي فكرة المهدي المنتظر الذي يملأ الارض عدلا بعد أن ملئت جورا التي لها جذورها في التراث الإسلامي الصوفي وتراث الشيعة ( مؤلفات ابن عربي ، السهر وردي ) ، وكانت الايديولوجية المهدية في السودان نتاجا لتفاعل الفكر الصوفي مع الواقع السوداني والبيئة السودانية في تلك الفترة ، كما عبرت تلك الأيديولوجية في تلك اللحظة عن الحاجة للتخلص من الحكم الأجنبي ، وبهذا المعني أسهمت في الدفاع عن الوطنية والقومية السودانية في سياقها التاريخي.

وبعد انتصار الثورة المهدية ، قامت دولة المهدية في السودان ، كامتداد للدويلات السودانية المستقلة ، وتم التخلص من الحكم الأجنبي ، وقامت دولة دينية في السودان على أساس الأيديولوجية المهدية . وكان من نتائج ذلك أن تم إلغاء التعليم المدني الحديث  وحرق الكتب ( عدا القرآن وكتب الحديث"، واغلقت المدارس التبشيرية وتم الاكتفاء بالخلاوى ، وتم قمع المرأة، وإلغاء تعددية الطرق الصوفية ، بل حتى المذاهب الأربعة . أي أن الأيديولوجية المهدية – في جانب منها – كانت أيدلوجية عزلة عن النظام المدني الحديث وعثرة أو كارثة في طريق تطور الفكر السوداني الحديث ، وفي السنوات الأخيرة لفترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي تعمقت الصراعات القبلية والدينية، والصراع علي السلطة والثروة ، وتعمقت الفوارق الطبقية، مما أدي إلي إضعاف الدولة المهدية حتي اصبحت لقمة سائغة في يد القوات الانجليزية المصرية بقيادة كتشنر.

•          وبهزيمة الدولة المهدية في عام 1898 م على يد القوات الإنجليزية – المصرية أصبح السودان مرة أخرى تابعا لبريطانيا ، وارتبط بالسوق الرأسمالي العالمي ، من خلال تصدير سلعة القطن والسلع النقدية الأخري" صمغ، جلود..الخ" . ودخلت النظم الحديثة السودان .. بشكل أوسع واكبر هذه المرة .. من فترة الاستعمار التركي . وكان الاستعمار البريطاني يهدف إلى تحويل البلاد إلى مزرعة قطن كبيرة .. لضمان انسيابه لمصانع الغزل والنسيج في لانكشير وبدون انقطاع . ولضمان ذلك قام مشروع الجزيرة ، ومشاريع القطن الأخرى . وقامت شبكة الخطوط الحديدية ، و ميناء بور تسودان ، ونشأ التعليم المدني الحديث بهدف خدمة مصالح الإدارة البريطانية لمدها بمستخدمين لتسيير دولاب الدولة ( كتبة ، فنيين ، عمال مهرة ) ، كما ظهرت الصحافة ، ونشأت نتيجة لذلك طبقات وقوى اجتماعية جديدة : "عمال ، مزارعون مرتبطون بالانتاج في مشاريع القطن، طلاب، خريجون ، رجال أعمال ، ..الخ .. كما عمل الفكر الاستعماري بسياسة "فرق تسد"، وشجع فئة رجال الدين والعلماء المرتبطة بجهاز الدولة للوقوف ضد الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار ، وشجع الانقسام والصراع الطائفي في المجتمع من خلال دعم تقوية نفوذ زعماء طائفتي الانصار والختمية حتي تقف ترياقا ضد الحداثة والاستنارة والحركة الوطنية التي قادها الخريجون والقوي الوطنية، وذلك بمنحهم مشاريع القطن والاراضي الزراعية، مما أدي إلي تقوية واتساع نفوذ الطائفية وتعميق الصراع الطائفي والانقسام في المجتمع، كما عمق الفكر الاستعماري الصراع الجهوي بعد ثورة 1924م، وعزل الخريجين عن ادارة البلاد بدعم الإدارة الأهلية، مثلما عزل الشمال عن الحنوب ، وادخل قانون المناطق المقفولة الذي شمل: الجنوب وجبال النوبا، وجنوب النيل الأزرق ودارفور وشرق السودان، مما زاد من عمق التنمية غير المتوازنة في البلاد وتخلف تلك المناطق. وتلك القنابل الموقوتة التي زرعها الإستعمار انفجرت بعد الإستقلال، وزادت من عمق مآسي وتخلف البلاد  .

وتطور الفكر السوداني في تلك الفترة بدخول الفكر الإنساني الحديث بشكل أوسع وتفاعلت المؤثرات العربية الإسلامية والثقافية المحلية مع الفكر الإنساني . كما تفاعل السودانيون مع حركات التحرر الوطني  في العالم ( مصر ، الهند .. ) . وقامت التنظيمات السياسية الحديثة ( جمعية الاتحاد السوداني ، جمعية اللواء الأبيض ) بعد فشل المقاومة القبلية والدينية السابقة في بداية القرن العشرين . 

  ودخلت التيارات الفكرية الحديثة السودان بشكل أوسع مثل: الفكر الإشتراكي والماركسي والفكر السياسي الليبرالي ، والفكر الفاشي الذي عبرت عنه أفكار الأخوان المسلمين في الأربعينيات كامتداد لأفكار حسن البناء في مصر .. والتي تأثرت بالفكر الفاشي الغربي والناري .. واتخذت في مصر شكلا محددا ارتبط بالدعوة للحكم الإسلامي .. ومصادرة التعددية الحزبية والفكرية والدينية، ومحاربة الشيوعية والليبرالية والفكر المدني الحديث. .

   هكذا نجد أن التيارات الفكرية المتعددة : الليبرالية ، الماركسية ، الفاشية ،فكر التجديد الإسلامي الذي عبر عنه الاستاذ محمود محمد طه، وفكر القوميين العرب، استقرت في السودان، وعبرت عن نفسها بهذا القدر أو ذاك في تفاعل مع الواقع السوداني .

   وعندما دخلت الماركسية السودان كان قد سبقها تطور في مختلف ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد . وقامت نظم إدارة حديثة ، وتعليم مدني حديث ، وتطورات اقتصادية ( مشروع الجزيرة ، السكك الحديدية ، النقل النهري ، الصحافة ، الطباعة ) ، وتنظيمات سياسية جديدة بعد أن فشلت المقاومة القبلية والدينية الأولي للانجليز ( قبائل جنوب السودان وجنوب كردفان ووسط السودان ) ، وهزيمة السلطان على دينار في دار فور عام 1916 م .   قامت تنظيمات الاتحاد السوداني واللواء الأبيض ، التي قامت على أسس وطنية وسياسية ، تبلورت قضايا السياسة السودانية المعاصرة بشعاراتها : وحدة وادي النيل ، وشعارات السودان للسودانيين ، وغير ذلك – خلال ثورة 1924 م . كما قامت الجمعيات الأدبية والثقافية بعد ثورة 1924 .. ونشأت الصحافة الوطنية ( النهضة السودانية ، الفجر .. الخ ) . وقامت الأندية الثقافية والرياضية والمهنية ( أندية الخريجين ، أندية العمال ، الأندية الرياضية .. الخ ) ، وقام مؤتمر الخريجين .    كانت الحياة الثقافية والفكرية ناشطة . وظهرت تيارات مثل: تيار سودنة الأدب السوداني .. حمزة الملك طمبل ودعوته إلى شعر سوداني أصيل بدلا من النقل الأعمى لتجارب الآخرين ، وكتاباته المشهورة حول الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه . كما ظهرت كتابات محمد أحمد المحجوب التي أهمها الحركة الفكرية في السودان إلى أين تتجه ؟، وكتابات معاوية محمد نور المناهضة للادارة الأهلية وابحاثه  في الأدب والفن . وقبل ذلك كان خليل فرح قد طور الأغنية السودانية و وضع أساس الموسيقي السودانية، وظهرت تيارات دعت للتعبير عن فن وغناء سوداني يعبر عن واقع وبيئة السودان . وكان عرفات محمد عبد الله وزملاؤه ، قد أرسوا قواعد الصحافة الوطنية وأرسوا قواعد الحركة المسرحية السودانية .

  وظهرت كتابات حول الاشتراكية ، ونظرية التطور ، وكتابات فلسفية ، وكتابات تدعوا إلى تكوين مدرسة تاريخية سودانية علي صفحات مجلة النهضة السودانية والفجر ، هذا إضافة إلى تيارات التحديث والتجديد في الشعر والنثر العربي ، كما ظهرت دعوات تعليم المرأة وخروجها للعمل .. الخ  

ارتبطت الماركسية بواقع وخصائص السودان وواصلت في تيار النهضة والاستنارة والحداثة، وطرح الشيوعيون شعار الجلاء وتقرير المصير والكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ضد الاستعمار حتي تم جلائه، وساهم الشيوعيون في بناء نقابات وإتحادات العمال والمزارعين والطلاب والموظفين والمعلمين والمهنيين والحرفيين، والدفاع عن حقوق ومطالب الكادحين وتحسين الاجور والاوضاع المعيشية ومجانية العلاج والتعليم العام ومحو الامية والمساواة بين المرأة والرجل ، والحكم الذاتي لجنوب السودان في اطار السودان الموحد، والدفاع عن حق القوميات غير العربية في تنمية لغاتها وثقافاتها الخاصة، وبناء اتحادات الشباب والنساء وتطوير حركة الفن والابداع السوداني، والتنمية ، وتعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية، وبناء المجتمع الزراعي الصناعي المتطور، وضرورة قيام الدولة المدنية الديمقراطية التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو العرق او اللغة أو الثقافة بعد ثورة اكتوبر 1964م أطلت العثرة في الفكر السوداني برأسها من جديد،  للوقوف ضد عجلة التقدم والاستنارة في الفكر السوداني ولاسيما بعد اتساع شعارات التغيير الإجتماعي و المطالبة بحقوق المرأة وفوز فاطمة احمد ابراهيم في البرلمان كاول إمراة سودانية تدخل البرلمان، وطرحت القوميات المضطهدة حقوقها في التعليم والصحة والتنمية وتطوير ثقافاتها ولغاتها الخاصة، وتم عقد مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب ، وطالب العمال والمزارعون بحقوقهم في الاجور وتحسين اوضاعهم المعيشية والثقافية، واتسعت حركة الفن والابداع..الخ. 

كل ذلك ازعج القوي التقليدية وتنظيم الأخوان المسلمين الفاشي ، وتم خرق الدستور وتقويض الديمقراطية بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، وطرحوا شعار الدستور الإسلامي بهدف مصادرة الحريات والحقوق الديمقراطية، وتمت محكمة الردة للاستاذ محمود محمد طه، مما مهد الطريق لديكتاتورية نظام جعفر النميري، الذي صادر الحريات وواصل في قمع الشيوعيين بعد انقلاب 22 يوليو 1971م، ونفذ قرار محكمة الردة باعدام الشهيد محمود محمد طه بعد إعلان قوانين سبتمبر 1983م، وكانت تلك الفترة حالكة السواد اعادت البلاد لمربع القرون الوسطي ومحاكم التفتش وبتر اطراف الفقراء بينما كانت الرأسمالية الطفيلية المايوية والاسلاموية تنهب ثروات البلاد وتهربها للخارج، وتفشت المجاعات والامراض والنزوح من الريف للمدن والهجرة خارج البلاد.حتي قامت انتفاضة مارس- ابريل 1985م التي انهت حكم الفرد.

وبعد الانتفاضة طرح د. الترابي قانونه الذي يفضي للدولة الدينية ، والذي رفضته قوي الديمقراطية والتقدم والاستنارة، كما تم التوصل لحل لوقف الحرب في الجنوب بعد إتفاق الميرغني – قرنق، ولكن قامت قوي الأخوان المسلمين الفاشية بانقلابها في يونيو 1989م وقطعت الطريق أمام الحل السلمي الديمقراطي، وصادرت الحقوق والحريات الديمقراطية، وشردت الالاف من اعمالهم، وتم اعتقال وتعذيب الالاف من المعارضين السياسيين والنقابيين، واتسعت قاعدة القمع والارهاب في البلاد، وتم تدمير الخدمة المدنية وتم خصخصة التعليم والخدمات الصحية، و وخصخصة ونهب ممتلكات الدولة ، واتشر الفساد في البر والبحر، وتوسيع الحرب الدينية التي ادت لانفصال الجنوب، وشملت دارفور وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق والشرق، ومانتج عنها من مآسي انسانية وجرائم حرب، وتم تدمير الانتاج الزراعي والصناعي والخدمي، وتدهورت الاوضاع المعيشية واتسع الفقر، مما أدي لهجرة الملايين من المعلمين والاطباء والمهنيين والفنيين والعمال المهرة، وتعمقت التبعية لمؤسسات الرأسمالية العالمية حتي اصبحت ديون البلاد حوالي 46 مليار دولار.

ارتبط تفكيك الأخوان المسلمين للسودان مع التوجهات الفكرية لامريكا وحلف الاطلنطي بعد نهاية الحرب الباردة للسيطرة العسكرية والاقتصادية للعالم.ومعلوم دعم بريطانيا لتنظيم  الاخوان المسلمين الذين تأثروا  بالفاشية والنازية في قيام التشكيلات العسكرية والحشد العاطفي للشباب ، بهدف الوقوف ضد نمو التيارات الشيوعية والليبرالية والحداثة والاستنارة الإسلامية التي بدأها  الامام محمد عبده، والشيخ علي عبد الرازق والكواكبي، وطه حسين، واحمد امين..الخ، اضافة لمساعدة الامريكان للحركات الجهادية الاسلاموية بهدف تفكيك الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، ودعم مرسي في مصر والاخوان في تونس..الخ، وحركات داعش وبقية الحركات الارهابية بهدف تفكيك دول المنطقة العربية والافريقية وافراغها من سكانها كما يحدث الآن في سوريا والعراق، ونيجريا والصومال، والسودان..الخ، وتفكيك جيوشها الوطنية، وقطع الطريق امام التطور والحداثة والاستنارة  والتنمية المستقلة.

وبالتالي، فإن فكر الاسلام السياسي الفاشي لم يكن تطورا باطنيا للفكر الإسلامي المستنير، بل تم استحداثه ليكون ترياقا للحداثة والتطور الإجتماعي في المنطقة العربية، وبهدف تكريس الوجود الامريكي في المنطقة،  وبهدف نهب ثرواتها النفطية والتواجد في تلك المنطقة الاستراتيجية لمحاصرة روسيا والصين..الخ.

وفي السودان بعد كل تلك التجارب والعثرات المريرة، لابديل غير الديمقراطية ورد المظالم والتنمية وتوفير احتياجات المواطنين الأساسية "التعليم ، الصحة، خدمات المياه والكهرباء.."،والقضاء علي الفساد، وقيام  دولة المواطنة  التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو العرق أو الثقافة..الخ، والحل الشامل والعادل لمشاكل البلاد

alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء