أسس جديدة
يعوزني الكثير من المنطق، في تناول الصدام بين مليشيات (قبريال تنجينانق) و الجيش الشعبي لتحرير السودان بـ(ملكال) وتبادل لنيران الكثيف داخل المدينة. يبدو أن المليشيات هي اختراع خاص من حكومة (الجماعة)، وهي تمثّلها وتقتل نيابة عنها، ولا يتطلب العبقرية لمعرفة الهدف من استخدامها. فالسلطة التي جاءت بها (نيفاشا) في كل من الشمال والجنوب عجزت تماماً في توحيد ودمج مليشيات ونزع سلاحها، حتى صار الشارع ملغوماً بـ (حشود مرتزقة)، تكاد تكون فوق القانون، ويا ما فعلوا ما فعلوا..!!، وهل يمكن لأي "نظام" أن يكون نظاما من دون قانون، او جزء منه فوق القانون؟!.. المتابع للأحوال الأمنية بأعالي النيل منذ نوفمبر 2007م مروراً بأحداث الاحتفال بالسلام يناير 2009م وأخيراً أحداث الأمس بـ(ملكال) لم يحدث مثل تلك (الفوضى) وتسبب فيها مليشيات (تنجينانق) وأعوانه في إثارة للفوضى، وهم يرتكبون مجازر وحشية، لا تتيح للناس ممارسة شيء من (الحياة العادية!).
بعد أربع سنوات من (نيفاشا)، تعود الفوضى مجدداً في كثير من مناطق الجنوب (الفلتان) الأمني وخير مثال لذلك استجواب وزير شؤون الجيش والمثول أمام (البرلمان) مؤخراً... نتيجة للفوضى العارمة والتي تحوّلت إلى ريح (هوجاء) تعصف بالكل.
رغم الشعور بوجود حكومات انتقالية على مختلف المستويات وفي الجنوب خاصة، يفترض أن تكون (الحكومة) حكومة!!.. لكن أنّها لا (تتحكم) في شيء، وتعجز عن توفير أدنى الواجبات من الخدمات التي يصفها البعض بأنها فقط للـ (نهب!!) ونأسف لذلك.. وسببها (العجز) في تحريك حياة الناس إلى الأفضل وتحوّل ما كان يعتبر إدارة مدنية، إلى غابة لـ(مليشيات المدنية) والتي ورثت مع بنود اتفاقية (نيفاشا) في الجنوب من كل نوع، تعمل كل منها لحسابها الخاص ومصدر لأعمال (اللصوصية)، إبتداءً من أي (حتة) إلى آخر مكان تصل إليه (سلطة) تلك الحكومة.. إذاً لم تكتمل دائرة التحرير حتى هذه اللحظة.
عموما، الواقع يؤكد على الدوام أنّ هذه (السلطة) في الجنوب وغيرها ما هي إلا وهمية مكسورة الأجنحة ومشلولة التوجه، حيث إدارات معزولة، يكاد من المستحيل العثور على أي أثر للـ(حكومة) في الريف البعيد ومن قبل قلنا الشعار الشهير "نقل المدينة إلى الريف" فهل أصبنا ذلك؟!!.. ومع غياب النظام تحوّلت الفوضى نفسها و (الفوضيون) إلى (نظام) أساسه القتل العشوائي، نشاط أساسه التهديدات القبلية والعشائرية أو الانتماء لمنطق ما... وهكذا، لم يعد هناك التفكير عن المشاريع التنموية أو مدارس يذهب إليها التلاميذ أو مستشفيات تقدم خدمات للمرضى، وما يتوفر منها ليس سوى بقع تدور في دائرة الفوضى نفسها، وتأخذ طابعاّ المليشيا المدنية في بعض الأحيان، لأنها، من دون "الفوضي"، تكون خارج "النظام"، فلا تحظى بالحماية، بل سرعان ما تقع تحت طائلة أطماع المجموعات التي تريد ان تأخذ "حصتها" من الفوضى.
والمؤكد أنه لا يوجد كهرباء، ولا ماء صالح للشرب، ولا طرقات يمكن السير فيها بأمان، ولا مستشفيات، ولا يوجد حتى من يقل (بِغم!!).!. رحمك الله أيّها البطل الشهيد دكتور قرنق مابيور اتيم أروي.
الكل في كفّة الفساد.. والحكومة فشلت وهي غير قادرة علی فرض ابسط الاجراءات ضد هذا و(سوس الفساد) ينخر في عظامها. وعجزت عن تقديم اللصوص والمرتشين الی المحاكم؛ الأمر الذي أصبح مستحيلا ونادراً، وبهذا بات الفساد أمراً طبيعياً في الحكومة؛ وتحقيقات الفساد أصبحت مشلولة إن لم تكن قد فارقت الحياة، اما (المال) العام فحدث عن "محاسنه" ولا حرج.. إن وضعاً كهذا يلقي على عاتق الحركة الشعبية مسؤوليات أكثر جسامة من القتال نفسه والذي كافحت من أجله لأكثر من (21) عاما. فالنجاح يتطلب الوقوف كليا خارج دائرة (الفساد)، والفوضى.
لا شك أنّ صدمة الفوضى العنيفة التي تحيط بكل أوجه الحياة في بلادنا تجعل الرؤوس تدور بالحيرة والشلل، وعلى الحركة الشعبية في الجنوب أن تثبت أنّها (البديل) وبدليل ملموس، وبطريقة أفضل في تنظيف البلاد من اللصوص والفاسدين والمفسدين.