القانون الإنجليزي في السودان بين عامي 1899 – 1958م .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
19 November, 2023
19 November, 2023
القانون الإنجليزي في السودان بين عامي 1899 – 1958م
English Law in the Sudan, 1899 – 1958
أنتوني ديسني Anthony W.M. Disney
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقال صغير بقلم البريطاني أنتوني ديسني نُشِرَ في المجلد الأربعين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" ( (SNRالصادرة عام 1959م (صفحات 121 - 123). وكانت ورقته هذه هي آخر ما قُدم من أوراق في مؤتمر الجمعية الفلسفية السودانية لذلك العام.
وأنتوني ديسني (1903 – 1979م) من قدامي الإداريين بالقسم السياسي في حكومة السودان، كان قد تدرج في سلك الإدارة – بحسب ما جاء في أرشيف السودان بجامعة درم - بالكرمك والفاشر وسنجة ومدني، ثم رئيسا لقسم الاقتصاد والتجارة بين عامي 1950 و1953م، حين تقاعد عن العمل الحكومي. عمل بعد ذلك في القطاع الخاص مديراً لشركة بيرة النيل الأزرق بالخرطوم بحري حتى عام 1957م.
قد لا تخلو لغة المقال في قليل من المواضع من بعض الصلف والعنصرية المعهودة عند الكثير من قدامي الإداريين البريطانيين.
المترجم
*********** *********** **********
حينما يسيطر شعب متقدم ذو حضارة عريقة وراسخة على شعب متخلف، فلا بد أن يكون أثره وتأثيره بالغ الضخامة والأهمية. فالثقافة المتقدمة قد تطغى تماما على الثقافة المتخلفة وتطمسها إذا فشل ممثلوها في إيجاد نقاط اتصال وتوافق؛ ولكن إن تم العثور على مثل تلك النقاط، فسيكون التأثير هو عملية تطعيم graft (1) ناجحة على جِذع خشن ولكنه متين.
ليس بمقدور أحد حتى الآن أن يتنبأ بما هو الحكم والنظرة العامة التي سيقيم بهما التاريخ فترة الحكم الثنائي في السودان في نهاية المطاف، ولكن يبدو من المحتمل على الأقل أنه، بغض النظر عن الأحداث السياسية والاقتصادية التي وقعت، فإن عملية إدخال الأفكار البريطانية حول القانون والإجراءات القانونية سوف تغدو من أفضل الأمثلة الجيدة للتطعيم الثقافي (cultural grafting) الناجح. ومن الخطأ الفادح بالطبع أن يفترض أحد من الناس أنه كان هناك "فراغ قانوني" كامل في السودان في 1899م، إذ أنه كان يعمل في السودان حينها نظامان قانونيان، وظلا يعملان منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم – نظام الشريعة و"الأعراف المحلية native custom" (التي ربما قُورنت لاحقاً بـ "القانون العام" القديم في إنجلترا). ولقد عانى كلاهما بطبيعة الحال من آثار الفوضى العامة، غير أنهما صمدا وبقيا يعملان إلى حد كبير.
وتم الإقرار بالشريعة على الفور (أي في عام 1899م) بحسبانها "قانون البلاد law of the land" في كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية مثل الزواج والمواريث، وكانت سياسة الحكومة تقوم على تنظيم وإصلاح المحاكم الشرعية، وضمها لمصلحة القضاء الجديدة، ولكن بأيسر قدر ممكن من التدخل في شؤون تلك المحاكم. غير أن أمر محاكم "الأعراف المحلية" كان مختلف جدا. فلم يكن في تلك المحاكم نظام أو قوانين ثابتة، ولكنها كانت تعمل بمجموعة ضخمة من القوانين غير المكتوبة، التي تُطَبَّقُ بحسب ما يخطر على عقول زعماء القبائل وشيوخ القرية، وهذا يتفاوت بالطبع من مكان إلى آخر بحسب المتطلبات المحلية.، ويتغير تطبيق القوانين باستمرار وذلك لمقابلة الاحتياجات الجديدة، ومدى قبول السكان لتلك الأحكام. وكانت كثير من قوانين محاكم "الأعراف المحلية" مستمدة من قوانين الشريعة، ولكن كان واضحاً أن كثيراً من تلك القوانين كانت قد أتت من تاريخ أفريقي وعربي بعيد، ثم تطورت مع الناس، وغدت جزءاً مهما من ثقافتهم. وقد تحتوي تلك القوانين المحلية هنا أو هناك على عناصر بربرية أو بدائية، يستَبْشَعها المتمدنون / المتحضرون، وتخالف طرائق تفكيرهم: فلا أحد في القرن العشرين يؤيد دفن ممارسة دفن من طعنوا في السن وهم أحياء، أو قتل الزعماء عندما يأفل نجمهم وتضعف سلطتهم. غير أن تلك القوانين ظلت تعمل بشكل عام - ضمن الحدود التي تحددها احتياجات المزارع البسيط أو البدوي المتنقل - وهي في الواقع قادرة في كثير من الأحيان على التعامل مع المشكلات الجديدة لوجود (existence) أكثر تنوعاً وأشد تعقيداً.
لقد كان واضحاً لحكومة السودان في عهد الحكم الثنائي أنه من المستحيل إدارة شؤون البلاد بغير قوانين الشريعة ومحاكم "الأعراف المحلية". وكان اللورد كتشنر يتوخى الحذر حين أضاف في تقريره السنوي لعام 1899م الجملة التالية: "لا يتعلق الأمر بشكل أساسي بصياغة ونشر القوانين التي يجب أن نسعى إليها من أجل تحسين البلاد ... وسيتم دراسة القوانين واللوائح اللازمة بعناية وإصدارها بحسب مقتضى الحال".
وكان اثنان من المتطلبات الأولى هما قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية، وقد تمت صياغتهما وتطبيقهما في شمال السودان في عام 1899م. وتم تنقيحهما بعد ربع قرن من ذلك التاريخ، ولكن لم يتم تغييرهما إلا قليلاً في السنوات الخمس والثلاثين الماضية. لقد وصف رئيس القضاء اللاحق صياغة تلك الطبعة المنقحة جيداً بأنها "قطعة قانونية ممتازة ومحكمة الصياغة".
لقد كانت عظمة ومزايا تلك القوانين تكمن في بساطتها ووضوحها. وكانت قد صِيغَتْ على غرار القوانين السائدة في الهند آنذاك، والتي كانت هي نفسها محاولةً لأخذ القانون الإنجليزي ومحاولة مؤامته وتكييفه مع بيئة الشرق. وهكذا كان واضع قوانين السودان على استعداد لتسليم إنجازات أسلافه في نفس المجال، والاستفادة الكاملة من عملهم، ومن خبرة الذين ظلوا يطبقونها في المحاكم الهندية على مدى فترة طويلة من الزمن. وهكذا وُلِدَ قانون العقوبات السوداني والإجراءات الجنائية السودانية، التي أصبحت، مع قانون/ مرسوم العدالة المدنية (الذي صدر بعد عام) هي العمود الفقري القانوني للسودان منذ ذلك الحين. وبما أن القانون الإنجليزي الذي يستندون عليه مستمد من القانون الروماني، فيمكن القول حقاً أن هذا الجزء من ثقافة روما القديمة قد مُكِنَ له ليغدو مؤثراً بصورة غير مباشرة على السودان بعد 14 قرناً من اختفاء آخر حامية رومانية من حدوده الشمالية عند قصر إبريم (2). ولم يكن هناك بد من إسناد إدارة هذه القوانين (الجديدة)، منذ البداية، إلى هواة إلى حد كبير: مسؤولون بريطانيون ومصريون وسودانيون، لم يحصل معظمهم إلا على الحد الأدنى من التدريب القانوني، ومن قبل قضاة سودانيين يجلسون كأعضاء في محاكم صغرى وكبرى، ولم يكن أي منهم قد حصل قط على أي تعليم أو تدريب قانوني. وبحكم الوضوح والبساطة المباشرة في تلك القوانين، أفلح هؤلاء في العمل بتلك القوانين، وتولوا تدريب القائمين بإدارة تلك القوانين على طرائق التفكير القانوني.
وبتلك الطريقة بدأ (البريطانيون) في القيام بعملية "تطعيم" تلك القوانين الأكثر تقدما في جذع "الأعراف المحلية" المتين؛ لأنه عندما تم اتخاذ الخطوات الأولى في نقل وفصل "العادات المحلية" قانونياً، ومع صدور وتنفيذ "مرسوم صلاحيات قضائية لشيوخ الرحل" عام 1922م (3)، كان من الطبيعي أن يكون الشيوخ والأعيان الذين كانوا يمارسون تلك السلطات هم من يُخْتَارُونَ غالباً ليكونوا "قضاة من الدرجة الثالثة" بغرض الجلوس في المحاكم الكبرى والصغرى، وقد جلبوا إلى مجالسهم خبرة عملهم القضائي الذي أدوه بالاشتراك مع القضاة البريطانيين الذين يعملون في المحاكم لإدارة قانون العقوبات في اطار قانون الإجراءات الجنائية. وهكذا بدأت عملية التهجين (التلقيح المشترك)، حيث لم يقدم شيخ القبيلة فقط الخلفية الأساسية التي تمكن محكمة المنطقة من تفسير الأحداث بشكل صحيح وتحقيق العدالة، بل جلب معه أيضاً أفكاراً جديدة لأشياء مهمة، مثل طبيعة الأدلة وتعريفات الجرائم الأساسية، وأثرت بعمق على عمله في محكمته القبلية.
وبمجرد أن بدأت هذه العملية، انتقلت بدرجات متزايدة، واختلطت ليس بقانون العقوبات فحسب، بل حتى بالقوانين التقليدية غير المكتوبة، وسهلت بالتالي منح صلاحيات متزايدة الاتساع لشبكة المحاكم المحلية التي تم تطويرها من خلال سلسلة من المراسيم التمكينية التي تبعت بعضها البعض في السنوات التي أعقبت عام 1922م.
وجاء في كتاب "السودان – سجل للتقدم" الصادر عام 1947م (4) ما يفيد بأن:
"القضايا المدنية كان يُحْكَمُ في شأنها بالقياس إلى "العادات المحلية"، والتي كانت في كثير من مناطق السودان تمر بعملية جمع وصياغة القوانين codification، غير أنها قلما كانت عملية متشددة أو مُتَصَلّبة. فعلي سبيل المثال، لِيمَتْ إحدى المحاكم، عندما عاقبت من انتهك لوائح الصرف الصحي المحلية، والتي كانت في ذلك الوقت خارج نطاق صلاحياتها، وقالت بأن تلك اللوائح أصبحت الآن جزءًا من العادات المحلية. وكان تعريف قانون العقوبات للسرقة، وتسبيب الأذى، والإساءة، والشجار، وكل المخالفات الجنائية البسيطة التي تُعرض أمام المحاكم المحلية هي الآن مفهومة تماماً للكل، ويطبق الآن في كل أنحاء البلاد قانون جنائي واحد".
وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة وهي أن المحاكم المحلية، التي حُفِزَتْ وزِيدَ من حيويتها على هذا النحو، كانت كثيراً ما تظهر استعداداً وقدرة على التعامل مع القضايا الناشئة عن الظروف الحديثة المختلفة تماماً عن نطاق خبراتها التقليدية. فقد تسببت مثلاً طائرة تابعة لشركة طيران "بان أمريكان" عن طريق الخطأ في وفاة رجل في دارفور عام 1941م. وأثبت تحقيق قضائي أنه لم يكن في تلك الحالة أي شخص يمكنه اعتباره متهماً بالإهمال، وأن ذلك كان مجرد حادث. غير أن شركة "بان أمريكان" وافقت على دفع تعويض عن مقتل الرجل وكان لا بد من تقويم قيمة ذلك التعويض. وتم طلب مشورة المحكمة المحلية في الأمر. وبعد دراسة جادة، توصلت تلك المحكمة إلى نتيجة مفادها أن القضية تماثل قضية رجل قُتِلَ عن طريق الخطأ على يد حيوان رجل آخر، وكان لدى تلك المحكمة المحلية فكرة واضحة عن التعويض العادل المقبول لكلا الطرفين في مثل هذه الحالات. وبالفعل، تم دفع مبلغ التعويض على النحو الواجب وسُلم إلى أقرب أقارب الرجل الميت.
لقد كانت المحاكم المحلية على استعداد لخلق سوابق قضائية، وقامت بذلك بتطوير قوانين "العادات المحلية" عن طريق "القانون كما تحدده الحالات السابقة case law" فيما يتعلق بالجرائم الجنائية "البسيطة". وهناك مثالان على هذه النقطة حدثا في دارفور في بدايات الأربعينيات. وفي المثال الأول اختفى رجل من قرية معينة في منطقة نائية كان قد ذهب إليها ليقوم بـ "طق" الصمغ العربي. وكان الأشخاص الوحيدون في أي مكان قريب من تلك المنطقة النائية هم في معسكر للعرب الرحل. واتهم أهل ورفاق الرجل المفقود من القرويين رجال تلك القبيلة العربية المترحلة باختطافه. وهنا أعلن ابن شيخ أولئك العرب الرحل – ربما بتهور منه - إنه إن لم يتم العثور على الرجل المفقود خلال عام، فإن قبيلته ستتحمل المسؤولية. ومر العام ولم يُسمع عن الرجل مرة أخرى، فقرر مَجْلِسٌ عَدْلِيّ كبير جداً مكون من مشايخ وأعيان "محايدين" وجوب دفع التعويض كاملاً. وفي المثال الثاني كان هناك رجل قد أصيب بإصابات بليغة في شجار قبلي، وتتطلب علاجه إزالة قطعة كبيرة مكسورة من جمجمته المصابة. ونجا الرجل من الموت ولكنه أصيب بشلل تام، ولم يعد بمقدوره الكلام أو الحركة أو إطعام نفسه. وحكم مَجْلِسٌ عَدْلِيّ شبيه بما سبق ذكره بأن الرجل المصاب على الرغم من أنه ما زال حياً، إلا أنه لم يعد "رجلاً" كما كان، ويمكن اعتباره في عداد الأموات؛ وأمرت من سبب له تلك الإصابة بدفع "دية" الرجل، وكأنه قد قتله بالفعل.
كانت هنا "العادة المحلية" في طور التكوين، مما أدى إلى خلق سوابق من شأنها أن تنتقل إلى التيار الرئيسي للتقاليد واستخدامها في المستقبل. ففي الحالة الأولى المذكورة أعلاه لم تكن هناك جثة لميت، وفي الحالة الأخرى كان الرجل "الميت" على قيد الحياة؛ غير أن كلا القرارين كانا معقولان، ووجدا القبول إلى حد كبير لدى جميع الأطراف المعنية. لقد كان جميع أعضاء المحاكم يتمتعون بخبرة كبيرة في العمل في المحاكم الكبرى والصغرى بموجب قانون الإجراءات الجنائية، وليس هناك من شك في أن هذا الاتصال مع نظام قانوني آخر أعظم شأنا قد ساعدهم على اتخاذ وجهة نظر "محايدة"، والتوصل إلى قرار صائب مسبب بعناية.
إن التداخل والتفاعل بين قوانين السودان - التي صاغها وقدمها محامون بريطانيون، وأدارها جزئياً لسنوات عديدة قضاة (judges and magistrates) بريطانيون - و"القانون العام" السوداني - الذي يرجع في حد ذاته إلى الشريعة الإسلامية، فضلاً عن التقاليد الأفريقية غير الإسلامية – ظل تقليداً مستمراً إلى الآن منذ نصف قرن.
ماذا عن المستقبل؟ هل سيتحد التياران في نهاية المطاف لينتجا نظاماً قانونياً سودانياً مميزاً، يقوم على أفضل ما فيهما؟ ربما تكون هذه هي النتيجة الأكثر ملاءمة لتجربة تطعيم نسخة معدلة من القانون الإنجليزي – الذي كان هو نفسه نتاجاً لمثل ذلك التقليد الغني والمتنوع – المعتمد على المخزون (القانوني. المترجم) القوي الذي وجده الحكم الثنائي حياً في السودان.
وفي الوقت نفسه، ومن بين الأشياء التي مكنت السودان المستقل من أن يأخذ مكانه بسهولة وبشكل طبيعي بين الدول الحرة في العالم الحديث، كان هو امتلاكه لنظام قانوني جيد وقابل للتكيف، ولم يكن ذلك بأي حال من الأحوال هو الأمر الأقل أهمية.
**********
إحالات مرجعية
(1) التطعيم هو عملية نقل جزء من نبات إلى نبات آخر، فينمو الأول على الثاني (الذي هو الأصل).
(2) ورد في موسوعة الويكيبديا أن قصر أبريم هو موقع أثري على الضفة الشرقية لنهر النيل في النوبة السفلى، يقع على بعد 50 كيلومترا من السودان، و240 كلم من مدينة أسوان المصرية. وهو الموقع الأثري الوحيد في منطقة النوبة السفلى الذي نجا من فيضانات نهر النيل. قام بالتنقيب في الموقع سنة 1911م ديفيد راندال- ماكلفر وليونارد وولي من جامعة بنسلفانيا (https://shorturl.at/fwzOW) .
(3) اُنْظُرْ مثلاً المقال المعنون "Native Courts" and the Limits of the Law in Colonial Sudan: Ambiguity as Strategy في دورية Law & Social Inquiry الصادرة عام 2013م.
(4) صدر كتاب The Sudan - A record of Progress بين عامي 1898 -1947 م عن مكتب الوثائق القومية في عام 1947م. تجد في هذا الرابط صورة غلاف ذلك الكتاب https://shorturl.at/bhEN7.
alibadreldin@hotmail.com
/////////////////////
English Law in the Sudan, 1899 – 1958
أنتوني ديسني Anthony W.M. Disney
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقال صغير بقلم البريطاني أنتوني ديسني نُشِرَ في المجلد الأربعين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" ( (SNRالصادرة عام 1959م (صفحات 121 - 123). وكانت ورقته هذه هي آخر ما قُدم من أوراق في مؤتمر الجمعية الفلسفية السودانية لذلك العام.
وأنتوني ديسني (1903 – 1979م) من قدامي الإداريين بالقسم السياسي في حكومة السودان، كان قد تدرج في سلك الإدارة – بحسب ما جاء في أرشيف السودان بجامعة درم - بالكرمك والفاشر وسنجة ومدني، ثم رئيسا لقسم الاقتصاد والتجارة بين عامي 1950 و1953م، حين تقاعد عن العمل الحكومي. عمل بعد ذلك في القطاع الخاص مديراً لشركة بيرة النيل الأزرق بالخرطوم بحري حتى عام 1957م.
قد لا تخلو لغة المقال في قليل من المواضع من بعض الصلف والعنصرية المعهودة عند الكثير من قدامي الإداريين البريطانيين.
المترجم
*********** *********** **********
حينما يسيطر شعب متقدم ذو حضارة عريقة وراسخة على شعب متخلف، فلا بد أن يكون أثره وتأثيره بالغ الضخامة والأهمية. فالثقافة المتقدمة قد تطغى تماما على الثقافة المتخلفة وتطمسها إذا فشل ممثلوها في إيجاد نقاط اتصال وتوافق؛ ولكن إن تم العثور على مثل تلك النقاط، فسيكون التأثير هو عملية تطعيم graft (1) ناجحة على جِذع خشن ولكنه متين.
ليس بمقدور أحد حتى الآن أن يتنبأ بما هو الحكم والنظرة العامة التي سيقيم بهما التاريخ فترة الحكم الثنائي في السودان في نهاية المطاف، ولكن يبدو من المحتمل على الأقل أنه، بغض النظر عن الأحداث السياسية والاقتصادية التي وقعت، فإن عملية إدخال الأفكار البريطانية حول القانون والإجراءات القانونية سوف تغدو من أفضل الأمثلة الجيدة للتطعيم الثقافي (cultural grafting) الناجح. ومن الخطأ الفادح بالطبع أن يفترض أحد من الناس أنه كان هناك "فراغ قانوني" كامل في السودان في 1899م، إذ أنه كان يعمل في السودان حينها نظامان قانونيان، وظلا يعملان منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم – نظام الشريعة و"الأعراف المحلية native custom" (التي ربما قُورنت لاحقاً بـ "القانون العام" القديم في إنجلترا). ولقد عانى كلاهما بطبيعة الحال من آثار الفوضى العامة، غير أنهما صمدا وبقيا يعملان إلى حد كبير.
وتم الإقرار بالشريعة على الفور (أي في عام 1899م) بحسبانها "قانون البلاد law of the land" في كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية مثل الزواج والمواريث، وكانت سياسة الحكومة تقوم على تنظيم وإصلاح المحاكم الشرعية، وضمها لمصلحة القضاء الجديدة، ولكن بأيسر قدر ممكن من التدخل في شؤون تلك المحاكم. غير أن أمر محاكم "الأعراف المحلية" كان مختلف جدا. فلم يكن في تلك المحاكم نظام أو قوانين ثابتة، ولكنها كانت تعمل بمجموعة ضخمة من القوانين غير المكتوبة، التي تُطَبَّقُ بحسب ما يخطر على عقول زعماء القبائل وشيوخ القرية، وهذا يتفاوت بالطبع من مكان إلى آخر بحسب المتطلبات المحلية.، ويتغير تطبيق القوانين باستمرار وذلك لمقابلة الاحتياجات الجديدة، ومدى قبول السكان لتلك الأحكام. وكانت كثير من قوانين محاكم "الأعراف المحلية" مستمدة من قوانين الشريعة، ولكن كان واضحاً أن كثيراً من تلك القوانين كانت قد أتت من تاريخ أفريقي وعربي بعيد، ثم تطورت مع الناس، وغدت جزءاً مهما من ثقافتهم. وقد تحتوي تلك القوانين المحلية هنا أو هناك على عناصر بربرية أو بدائية، يستَبْشَعها المتمدنون / المتحضرون، وتخالف طرائق تفكيرهم: فلا أحد في القرن العشرين يؤيد دفن ممارسة دفن من طعنوا في السن وهم أحياء، أو قتل الزعماء عندما يأفل نجمهم وتضعف سلطتهم. غير أن تلك القوانين ظلت تعمل بشكل عام - ضمن الحدود التي تحددها احتياجات المزارع البسيط أو البدوي المتنقل - وهي في الواقع قادرة في كثير من الأحيان على التعامل مع المشكلات الجديدة لوجود (existence) أكثر تنوعاً وأشد تعقيداً.
لقد كان واضحاً لحكومة السودان في عهد الحكم الثنائي أنه من المستحيل إدارة شؤون البلاد بغير قوانين الشريعة ومحاكم "الأعراف المحلية". وكان اللورد كتشنر يتوخى الحذر حين أضاف في تقريره السنوي لعام 1899م الجملة التالية: "لا يتعلق الأمر بشكل أساسي بصياغة ونشر القوانين التي يجب أن نسعى إليها من أجل تحسين البلاد ... وسيتم دراسة القوانين واللوائح اللازمة بعناية وإصدارها بحسب مقتضى الحال".
وكان اثنان من المتطلبات الأولى هما قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية، وقد تمت صياغتهما وتطبيقهما في شمال السودان في عام 1899م. وتم تنقيحهما بعد ربع قرن من ذلك التاريخ، ولكن لم يتم تغييرهما إلا قليلاً في السنوات الخمس والثلاثين الماضية. لقد وصف رئيس القضاء اللاحق صياغة تلك الطبعة المنقحة جيداً بأنها "قطعة قانونية ممتازة ومحكمة الصياغة".
لقد كانت عظمة ومزايا تلك القوانين تكمن في بساطتها ووضوحها. وكانت قد صِيغَتْ على غرار القوانين السائدة في الهند آنذاك، والتي كانت هي نفسها محاولةً لأخذ القانون الإنجليزي ومحاولة مؤامته وتكييفه مع بيئة الشرق. وهكذا كان واضع قوانين السودان على استعداد لتسليم إنجازات أسلافه في نفس المجال، والاستفادة الكاملة من عملهم، ومن خبرة الذين ظلوا يطبقونها في المحاكم الهندية على مدى فترة طويلة من الزمن. وهكذا وُلِدَ قانون العقوبات السوداني والإجراءات الجنائية السودانية، التي أصبحت، مع قانون/ مرسوم العدالة المدنية (الذي صدر بعد عام) هي العمود الفقري القانوني للسودان منذ ذلك الحين. وبما أن القانون الإنجليزي الذي يستندون عليه مستمد من القانون الروماني، فيمكن القول حقاً أن هذا الجزء من ثقافة روما القديمة قد مُكِنَ له ليغدو مؤثراً بصورة غير مباشرة على السودان بعد 14 قرناً من اختفاء آخر حامية رومانية من حدوده الشمالية عند قصر إبريم (2). ولم يكن هناك بد من إسناد إدارة هذه القوانين (الجديدة)، منذ البداية، إلى هواة إلى حد كبير: مسؤولون بريطانيون ومصريون وسودانيون، لم يحصل معظمهم إلا على الحد الأدنى من التدريب القانوني، ومن قبل قضاة سودانيين يجلسون كأعضاء في محاكم صغرى وكبرى، ولم يكن أي منهم قد حصل قط على أي تعليم أو تدريب قانوني. وبحكم الوضوح والبساطة المباشرة في تلك القوانين، أفلح هؤلاء في العمل بتلك القوانين، وتولوا تدريب القائمين بإدارة تلك القوانين على طرائق التفكير القانوني.
وبتلك الطريقة بدأ (البريطانيون) في القيام بعملية "تطعيم" تلك القوانين الأكثر تقدما في جذع "الأعراف المحلية" المتين؛ لأنه عندما تم اتخاذ الخطوات الأولى في نقل وفصل "العادات المحلية" قانونياً، ومع صدور وتنفيذ "مرسوم صلاحيات قضائية لشيوخ الرحل" عام 1922م (3)، كان من الطبيعي أن يكون الشيوخ والأعيان الذين كانوا يمارسون تلك السلطات هم من يُخْتَارُونَ غالباً ليكونوا "قضاة من الدرجة الثالثة" بغرض الجلوس في المحاكم الكبرى والصغرى، وقد جلبوا إلى مجالسهم خبرة عملهم القضائي الذي أدوه بالاشتراك مع القضاة البريطانيين الذين يعملون في المحاكم لإدارة قانون العقوبات في اطار قانون الإجراءات الجنائية. وهكذا بدأت عملية التهجين (التلقيح المشترك)، حيث لم يقدم شيخ القبيلة فقط الخلفية الأساسية التي تمكن محكمة المنطقة من تفسير الأحداث بشكل صحيح وتحقيق العدالة، بل جلب معه أيضاً أفكاراً جديدة لأشياء مهمة، مثل طبيعة الأدلة وتعريفات الجرائم الأساسية، وأثرت بعمق على عمله في محكمته القبلية.
وبمجرد أن بدأت هذه العملية، انتقلت بدرجات متزايدة، واختلطت ليس بقانون العقوبات فحسب، بل حتى بالقوانين التقليدية غير المكتوبة، وسهلت بالتالي منح صلاحيات متزايدة الاتساع لشبكة المحاكم المحلية التي تم تطويرها من خلال سلسلة من المراسيم التمكينية التي تبعت بعضها البعض في السنوات التي أعقبت عام 1922م.
وجاء في كتاب "السودان – سجل للتقدم" الصادر عام 1947م (4) ما يفيد بأن:
"القضايا المدنية كان يُحْكَمُ في شأنها بالقياس إلى "العادات المحلية"، والتي كانت في كثير من مناطق السودان تمر بعملية جمع وصياغة القوانين codification، غير أنها قلما كانت عملية متشددة أو مُتَصَلّبة. فعلي سبيل المثال، لِيمَتْ إحدى المحاكم، عندما عاقبت من انتهك لوائح الصرف الصحي المحلية، والتي كانت في ذلك الوقت خارج نطاق صلاحياتها، وقالت بأن تلك اللوائح أصبحت الآن جزءًا من العادات المحلية. وكان تعريف قانون العقوبات للسرقة، وتسبيب الأذى، والإساءة، والشجار، وكل المخالفات الجنائية البسيطة التي تُعرض أمام المحاكم المحلية هي الآن مفهومة تماماً للكل، ويطبق الآن في كل أنحاء البلاد قانون جنائي واحد".
وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة وهي أن المحاكم المحلية، التي حُفِزَتْ وزِيدَ من حيويتها على هذا النحو، كانت كثيراً ما تظهر استعداداً وقدرة على التعامل مع القضايا الناشئة عن الظروف الحديثة المختلفة تماماً عن نطاق خبراتها التقليدية. فقد تسببت مثلاً طائرة تابعة لشركة طيران "بان أمريكان" عن طريق الخطأ في وفاة رجل في دارفور عام 1941م. وأثبت تحقيق قضائي أنه لم يكن في تلك الحالة أي شخص يمكنه اعتباره متهماً بالإهمال، وأن ذلك كان مجرد حادث. غير أن شركة "بان أمريكان" وافقت على دفع تعويض عن مقتل الرجل وكان لا بد من تقويم قيمة ذلك التعويض. وتم طلب مشورة المحكمة المحلية في الأمر. وبعد دراسة جادة، توصلت تلك المحكمة إلى نتيجة مفادها أن القضية تماثل قضية رجل قُتِلَ عن طريق الخطأ على يد حيوان رجل آخر، وكان لدى تلك المحكمة المحلية فكرة واضحة عن التعويض العادل المقبول لكلا الطرفين في مثل هذه الحالات. وبالفعل، تم دفع مبلغ التعويض على النحو الواجب وسُلم إلى أقرب أقارب الرجل الميت.
لقد كانت المحاكم المحلية على استعداد لخلق سوابق قضائية، وقامت بذلك بتطوير قوانين "العادات المحلية" عن طريق "القانون كما تحدده الحالات السابقة case law" فيما يتعلق بالجرائم الجنائية "البسيطة". وهناك مثالان على هذه النقطة حدثا في دارفور في بدايات الأربعينيات. وفي المثال الأول اختفى رجل من قرية معينة في منطقة نائية كان قد ذهب إليها ليقوم بـ "طق" الصمغ العربي. وكان الأشخاص الوحيدون في أي مكان قريب من تلك المنطقة النائية هم في معسكر للعرب الرحل. واتهم أهل ورفاق الرجل المفقود من القرويين رجال تلك القبيلة العربية المترحلة باختطافه. وهنا أعلن ابن شيخ أولئك العرب الرحل – ربما بتهور منه - إنه إن لم يتم العثور على الرجل المفقود خلال عام، فإن قبيلته ستتحمل المسؤولية. ومر العام ولم يُسمع عن الرجل مرة أخرى، فقرر مَجْلِسٌ عَدْلِيّ كبير جداً مكون من مشايخ وأعيان "محايدين" وجوب دفع التعويض كاملاً. وفي المثال الثاني كان هناك رجل قد أصيب بإصابات بليغة في شجار قبلي، وتتطلب علاجه إزالة قطعة كبيرة مكسورة من جمجمته المصابة. ونجا الرجل من الموت ولكنه أصيب بشلل تام، ولم يعد بمقدوره الكلام أو الحركة أو إطعام نفسه. وحكم مَجْلِسٌ عَدْلِيّ شبيه بما سبق ذكره بأن الرجل المصاب على الرغم من أنه ما زال حياً، إلا أنه لم يعد "رجلاً" كما كان، ويمكن اعتباره في عداد الأموات؛ وأمرت من سبب له تلك الإصابة بدفع "دية" الرجل، وكأنه قد قتله بالفعل.
كانت هنا "العادة المحلية" في طور التكوين، مما أدى إلى خلق سوابق من شأنها أن تنتقل إلى التيار الرئيسي للتقاليد واستخدامها في المستقبل. ففي الحالة الأولى المذكورة أعلاه لم تكن هناك جثة لميت، وفي الحالة الأخرى كان الرجل "الميت" على قيد الحياة؛ غير أن كلا القرارين كانا معقولان، ووجدا القبول إلى حد كبير لدى جميع الأطراف المعنية. لقد كان جميع أعضاء المحاكم يتمتعون بخبرة كبيرة في العمل في المحاكم الكبرى والصغرى بموجب قانون الإجراءات الجنائية، وليس هناك من شك في أن هذا الاتصال مع نظام قانوني آخر أعظم شأنا قد ساعدهم على اتخاذ وجهة نظر "محايدة"، والتوصل إلى قرار صائب مسبب بعناية.
إن التداخل والتفاعل بين قوانين السودان - التي صاغها وقدمها محامون بريطانيون، وأدارها جزئياً لسنوات عديدة قضاة (judges and magistrates) بريطانيون - و"القانون العام" السوداني - الذي يرجع في حد ذاته إلى الشريعة الإسلامية، فضلاً عن التقاليد الأفريقية غير الإسلامية – ظل تقليداً مستمراً إلى الآن منذ نصف قرن.
ماذا عن المستقبل؟ هل سيتحد التياران في نهاية المطاف لينتجا نظاماً قانونياً سودانياً مميزاً، يقوم على أفضل ما فيهما؟ ربما تكون هذه هي النتيجة الأكثر ملاءمة لتجربة تطعيم نسخة معدلة من القانون الإنجليزي – الذي كان هو نفسه نتاجاً لمثل ذلك التقليد الغني والمتنوع – المعتمد على المخزون (القانوني. المترجم) القوي الذي وجده الحكم الثنائي حياً في السودان.
وفي الوقت نفسه، ومن بين الأشياء التي مكنت السودان المستقل من أن يأخذ مكانه بسهولة وبشكل طبيعي بين الدول الحرة في العالم الحديث، كان هو امتلاكه لنظام قانوني جيد وقابل للتكيف، ولم يكن ذلك بأي حال من الأحوال هو الأمر الأقل أهمية.
**********
إحالات مرجعية
(1) التطعيم هو عملية نقل جزء من نبات إلى نبات آخر، فينمو الأول على الثاني (الذي هو الأصل).
(2) ورد في موسوعة الويكيبديا أن قصر أبريم هو موقع أثري على الضفة الشرقية لنهر النيل في النوبة السفلى، يقع على بعد 50 كيلومترا من السودان، و240 كلم من مدينة أسوان المصرية. وهو الموقع الأثري الوحيد في منطقة النوبة السفلى الذي نجا من فيضانات نهر النيل. قام بالتنقيب في الموقع سنة 1911م ديفيد راندال- ماكلفر وليونارد وولي من جامعة بنسلفانيا (https://shorturl.at/fwzOW) .
(3) اُنْظُرْ مثلاً المقال المعنون "Native Courts" and the Limits of the Law in Colonial Sudan: Ambiguity as Strategy في دورية Law & Social Inquiry الصادرة عام 2013م.
(4) صدر كتاب The Sudan - A record of Progress بين عامي 1898 -1947 م عن مكتب الوثائق القومية في عام 1947م. تجد في هذا الرابط صورة غلاف ذلك الكتاب https://shorturl.at/bhEN7.
alibadreldin@hotmail.com
/////////////////////