القوى المدنية السودانية و«الحفر بالإبرة»
د. الشفيع خضر سعيد
29 April, 2024
29 April, 2024
د. الشفيع خضر سعيد
كتبنا في مقالنا السابق أن سمنار القوى المدنية السودانية الذي التأم في باريس بتاريخ 15 أبريل/نيسان الجاري، هو الأول من نوعه منذ إرتكاب جريمة الحرب بحق السودان وشعبه. فالسمنار شاركت فيه مجموعات مدنية سودانية ظلت لفترة طويلة تتخاصم وتتصارع، بل بعضها، ومنذ الفترة قبل اندلاع الحرب، يرفض مجرد الجلوس مع البعض الآخر. ثم تفاقم الخصام والصراع بعد اندلاع الحرب رغم أنهم جميعا يتفقون حول ضرورة وقفها. وقلنا في ذات المقال أن اللقاء جاء تجسيدا لحلم انتظرناه طويلا، وكان البعض يرى استحالة تحققه على أرض الواقع، بينما البعض الآخر، ومن ضمنهم شخصي، كان يصر على أنه سيتحقق ولو متأخرا. فالمنطق السليم يقول بما أن هذه الأطراف المتصارعة تقف على ذات ضفة الوطنية ورفض الحرب، فإن التفكير السليم سيفرض عليها القناعة أن الوطن كله أصبح في مهب الريح، وأن خطرا داهما يتهدد الجميع، وأن ما يجمع هذه الأطراف من مصالح في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنها لابد أن تلتقي وتعمل بجدية وإخلاص لتمنع انهيار الدولة السودانية. ومن قراءتي الخاصة والذاتية لمجريات ما دار من نقاش في السمنار، جاء تقييمي الشخصي بأنه كان ناجحا وأدى غرضه، حيث برز بشكل واضح توافق مشترك حول العديد من المحاور المطروحة للنقاش، مرسلا إشارات إيجابية بإمكانية مواصلة هذه اللقاءات وصولا للتوافق حول رؤية سودانية لوقف الحرب، وأن الأمر الجوهري الآن هو أن نلتقط هذه الإشارات الإيجابية ونستثمرها في فعل سياسي تنظيمي ملموس. وفي هذا السياق، سأهتم في مقال اليوم بنقطتين من نقاط المشتركات الست التي لخصتها في المقال السابق، وهما النقطة التي تؤكد على استمرار العمل المشترك بين الأطراف المشاركة في السمنار وتوسيع دائرته لتشمل كافة الجهات والأطراف الرافضة للحرب والتنسيق بينها، مقرونة بالنقطة التي تؤكد على أن إنهاء الازمة السودانية هو في يد السودانيين في المقام الأول ولا ينبغي أن يكون رهينا لأي تدخلات إقليمية أو دولية.
تعلمنا من دروس التاريخ، أن تبوء أحلام الشعوب مكانها ورسوخها في قمة أولويات أجندة القادة والزعماء هي التي تدفع بالحضارة البشرية إلى الأمام، وفي اللحظة التي تتساقط فيها هذه الأحلام من أولويات أجندات أولئك القادة والزعماء ويعجزون عن الاستجابة لها، أو يضعونها في موقع أدنى بالنسبة لأجنداتهم الحزبية والخاصة، تصاب الحضارة البشرية بالتصدع. وحلم الشعب السوداني اليوم هو وقف الحرب وبسط السلام وإستكمال ثورته ورتق جروح الوطن. لكن رتق جروح الوطن يحتاج إلى خيوط متينة وأيد ماهرة، وجميعها، لن تتوفر إلا بتوفر الإرادة والرؤية والأداة المناسبة عند قياداتنا. وهذه الخيوط تستمد متانتها، مثلما الأيدي تكتسب مهارتها، من حقيقة أن وقف الحرب وإعادة بناء الوطن يحتاج إلى توسيع مبدأ القبول والمشاركة ليسع الجميع إلا من إرتكب جرما في حق الوطن، فهولاء مصيرهم المثول أمام العدالة.
إن العمل المشترك ضد الحرب لا يتطلب وحدة اندماجية أو ذوبانا تنظيميا بين المجموعات المدنية المختلفة، ولكنه، وانطلاقا من الموقف الموحد ضد الحرب، يتطلب التوافق حول التمسك بصناعة سودانية خالصة
ومن هنا تأتي دعوتنا لتطوير اللقاءات والسمنارات التي عقدتها القوى المدنية السودانية مؤخرا لتنتظم في مؤتمر مائدة مستديرة جامع للقوى السياسية والمدنية، يعقد اليوم قبل الغد، مع اشتراط الوصول لكل أطراف هذه القوى، وعدم إقصاء أي حزب أو مجموعة، غض النظر عن أي مواقف سياسية سابقة لها، مادامت هي الآن تقف ضد الحرب، ومادامت المجموعة تستند إلى قاعدة جماهيرية ملموسة على الأرض، مع ضرورة اشتراك الجميع في تفاصيل التحضير، والتقيد بالشفافية في كل خطوات العمل، والتي يجب أن تكون بعيدة عن أي مؤثرات خارجية، دولية أو إقليمية.
صحيح أن الطرفين المتقاتلين وبما يمكن أن يخضعا له من ضغوط، قد يوافقان على وقف إطلاق النار والقتال، لكن ليس باستطاعتهما وحدهما وقف الحرب ولا يمكن أن يحددا هما فقط مصير السودان ومستقبله. فالمسؤولية الأكبر والرئيسية في وقف هذه الحرب المدمرة تقع على عاتق القوى المدنية السودانية، لأنها هي المناط بها تصميم وقيادة العملية السياسية التي بدونها لن تضع الحرب أوزارها. وجوهر العملية السياسية يبدأ بصياغة الرؤية لوقف الحرب، بمعنى الإجابة على العديد من الأسئلة حول مستقبل قيادة الجيش ومستقبل قوات الدعم السريع والميليشيات الأخرى، والمساءلة بالنسبة لجريمة اندلاع الحرب وما صاحبها من انتهاكات، وكذلك مخاطبة المأساة الإنسانية الراهنة والمتفاقمة في البلاد، وفترة انتقال بقيادة مدنية بعيدا عن أي شراكة مع أي من طرفي القتال، إذ لا خير في أي عملية سياسية يكون هدفها الرئيسي فقط هو اقتسام كراسي السلطة، وغير ذلك من الأسئلة التي ناقشناها بالتفصيل في مقالاتنا السابقة. وتصميم العملية السياسية وصياغة الرؤية ليسا فرض كفاية، يقوم به قسم من القوى المدنية ويسقط عن أقسامها الأخرى، بل هما يشترطان مشاركة كل القوى المدنية الرافضة للحرب، ومن هنا تأتي دعوتنا لعقد مؤتمر المائدة المستديرة.
إن العمل المشترك ضد الحرب لا يتطلب وحدة اندماجية أو ذوبانا تنظيميا بين المجموعات المدنية المختلفة، ولكنه، وانطلاقا من الموقف الموحد ضد الحرب، يتطلب التوافق حول التمسك بصناعة سودانية خالصة للعملية السياسية، تصميما ومحتوى وقيادة، كما يتطلب فهما مشتركا للتعامل مع المجتمع الدولي والإقليمي. وأي مسعى لوحدة القوى المدنية السودانية أو التنسيق بينها، من الضروري أن تحكمه مبادئ الشفافية، ومشاركة الكل في التحضير، وأن يكون المسعى سودانيا بعيدا عن أي تدخلات خارجية، والجدية في أن يكون تمويله ذاتيا.
إن دعوتنا للمائدة مستديرة ليست جديدة، بل هي موقفنا الثابت الذي ظللنا نجهر به منذ بدايات الفترة الانتقالية. وفي الفترة الأخيرة كثفنا نشاطنا في هذا الاتجاه والتقينا بالعديد من القيادات المدنية، في «تقدم» و«الكتلة الديمقراطية» وغيرهما، وسنواصل. ولا أرى غضاضة في تسمية هذا النشاط «الحفر بالإبرة» بعيدا عن تهكم منصة «مجد» الإعلامية!
نقلا عن القدس العربي
كتبنا في مقالنا السابق أن سمنار القوى المدنية السودانية الذي التأم في باريس بتاريخ 15 أبريل/نيسان الجاري، هو الأول من نوعه منذ إرتكاب جريمة الحرب بحق السودان وشعبه. فالسمنار شاركت فيه مجموعات مدنية سودانية ظلت لفترة طويلة تتخاصم وتتصارع، بل بعضها، ومنذ الفترة قبل اندلاع الحرب، يرفض مجرد الجلوس مع البعض الآخر. ثم تفاقم الخصام والصراع بعد اندلاع الحرب رغم أنهم جميعا يتفقون حول ضرورة وقفها. وقلنا في ذات المقال أن اللقاء جاء تجسيدا لحلم انتظرناه طويلا، وكان البعض يرى استحالة تحققه على أرض الواقع، بينما البعض الآخر، ومن ضمنهم شخصي، كان يصر على أنه سيتحقق ولو متأخرا. فالمنطق السليم يقول بما أن هذه الأطراف المتصارعة تقف على ذات ضفة الوطنية ورفض الحرب، فإن التفكير السليم سيفرض عليها القناعة أن الوطن كله أصبح في مهب الريح، وأن خطرا داهما يتهدد الجميع، وأن ما يجمع هذه الأطراف من مصالح في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنها لابد أن تلتقي وتعمل بجدية وإخلاص لتمنع انهيار الدولة السودانية. ومن قراءتي الخاصة والذاتية لمجريات ما دار من نقاش في السمنار، جاء تقييمي الشخصي بأنه كان ناجحا وأدى غرضه، حيث برز بشكل واضح توافق مشترك حول العديد من المحاور المطروحة للنقاش، مرسلا إشارات إيجابية بإمكانية مواصلة هذه اللقاءات وصولا للتوافق حول رؤية سودانية لوقف الحرب، وأن الأمر الجوهري الآن هو أن نلتقط هذه الإشارات الإيجابية ونستثمرها في فعل سياسي تنظيمي ملموس. وفي هذا السياق، سأهتم في مقال اليوم بنقطتين من نقاط المشتركات الست التي لخصتها في المقال السابق، وهما النقطة التي تؤكد على استمرار العمل المشترك بين الأطراف المشاركة في السمنار وتوسيع دائرته لتشمل كافة الجهات والأطراف الرافضة للحرب والتنسيق بينها، مقرونة بالنقطة التي تؤكد على أن إنهاء الازمة السودانية هو في يد السودانيين في المقام الأول ولا ينبغي أن يكون رهينا لأي تدخلات إقليمية أو دولية.
تعلمنا من دروس التاريخ، أن تبوء أحلام الشعوب مكانها ورسوخها في قمة أولويات أجندة القادة والزعماء هي التي تدفع بالحضارة البشرية إلى الأمام، وفي اللحظة التي تتساقط فيها هذه الأحلام من أولويات أجندات أولئك القادة والزعماء ويعجزون عن الاستجابة لها، أو يضعونها في موقع أدنى بالنسبة لأجنداتهم الحزبية والخاصة، تصاب الحضارة البشرية بالتصدع. وحلم الشعب السوداني اليوم هو وقف الحرب وبسط السلام وإستكمال ثورته ورتق جروح الوطن. لكن رتق جروح الوطن يحتاج إلى خيوط متينة وأيد ماهرة، وجميعها، لن تتوفر إلا بتوفر الإرادة والرؤية والأداة المناسبة عند قياداتنا. وهذه الخيوط تستمد متانتها، مثلما الأيدي تكتسب مهارتها، من حقيقة أن وقف الحرب وإعادة بناء الوطن يحتاج إلى توسيع مبدأ القبول والمشاركة ليسع الجميع إلا من إرتكب جرما في حق الوطن، فهولاء مصيرهم المثول أمام العدالة.
إن العمل المشترك ضد الحرب لا يتطلب وحدة اندماجية أو ذوبانا تنظيميا بين المجموعات المدنية المختلفة، ولكنه، وانطلاقا من الموقف الموحد ضد الحرب، يتطلب التوافق حول التمسك بصناعة سودانية خالصة
ومن هنا تأتي دعوتنا لتطوير اللقاءات والسمنارات التي عقدتها القوى المدنية السودانية مؤخرا لتنتظم في مؤتمر مائدة مستديرة جامع للقوى السياسية والمدنية، يعقد اليوم قبل الغد، مع اشتراط الوصول لكل أطراف هذه القوى، وعدم إقصاء أي حزب أو مجموعة، غض النظر عن أي مواقف سياسية سابقة لها، مادامت هي الآن تقف ضد الحرب، ومادامت المجموعة تستند إلى قاعدة جماهيرية ملموسة على الأرض، مع ضرورة اشتراك الجميع في تفاصيل التحضير، والتقيد بالشفافية في كل خطوات العمل، والتي يجب أن تكون بعيدة عن أي مؤثرات خارجية، دولية أو إقليمية.
صحيح أن الطرفين المتقاتلين وبما يمكن أن يخضعا له من ضغوط، قد يوافقان على وقف إطلاق النار والقتال، لكن ليس باستطاعتهما وحدهما وقف الحرب ولا يمكن أن يحددا هما فقط مصير السودان ومستقبله. فالمسؤولية الأكبر والرئيسية في وقف هذه الحرب المدمرة تقع على عاتق القوى المدنية السودانية، لأنها هي المناط بها تصميم وقيادة العملية السياسية التي بدونها لن تضع الحرب أوزارها. وجوهر العملية السياسية يبدأ بصياغة الرؤية لوقف الحرب، بمعنى الإجابة على العديد من الأسئلة حول مستقبل قيادة الجيش ومستقبل قوات الدعم السريع والميليشيات الأخرى، والمساءلة بالنسبة لجريمة اندلاع الحرب وما صاحبها من انتهاكات، وكذلك مخاطبة المأساة الإنسانية الراهنة والمتفاقمة في البلاد، وفترة انتقال بقيادة مدنية بعيدا عن أي شراكة مع أي من طرفي القتال، إذ لا خير في أي عملية سياسية يكون هدفها الرئيسي فقط هو اقتسام كراسي السلطة، وغير ذلك من الأسئلة التي ناقشناها بالتفصيل في مقالاتنا السابقة. وتصميم العملية السياسية وصياغة الرؤية ليسا فرض كفاية، يقوم به قسم من القوى المدنية ويسقط عن أقسامها الأخرى، بل هما يشترطان مشاركة كل القوى المدنية الرافضة للحرب، ومن هنا تأتي دعوتنا لعقد مؤتمر المائدة المستديرة.
إن العمل المشترك ضد الحرب لا يتطلب وحدة اندماجية أو ذوبانا تنظيميا بين المجموعات المدنية المختلفة، ولكنه، وانطلاقا من الموقف الموحد ضد الحرب، يتطلب التوافق حول التمسك بصناعة سودانية خالصة للعملية السياسية، تصميما ومحتوى وقيادة، كما يتطلب فهما مشتركا للتعامل مع المجتمع الدولي والإقليمي. وأي مسعى لوحدة القوى المدنية السودانية أو التنسيق بينها، من الضروري أن تحكمه مبادئ الشفافية، ومشاركة الكل في التحضير، وأن يكون المسعى سودانيا بعيدا عن أي تدخلات خارجية، والجدية في أن يكون تمويله ذاتيا.
إن دعوتنا للمائدة مستديرة ليست جديدة، بل هي موقفنا الثابت الذي ظللنا نجهر به منذ بدايات الفترة الانتقالية. وفي الفترة الأخيرة كثفنا نشاطنا في هذا الاتجاه والتقينا بالعديد من القيادات المدنية، في «تقدم» و«الكتلة الديمقراطية» وغيرهما، وسنواصل. ولا أرى غضاضة في تسمية هذا النشاط «الحفر بالإبرة» بعيدا عن تهكم منصة «مجد» الإعلامية!
نقلا عن القدس العربي