الكابوس(3/3): الشخصية السودانية وإشكاليات النهضة القومية

 


 

 

 


في غياب الحاضنة استحالت كل الصفات البدوية النبيلة حالنا انتقالنا الي المدينة -- انتقالا غير سلس -- إلى صفات زخرفية: فالكرم أصبح عبارة عن تباهي، قد يدعوك أحدهم لعشاء فاخر بالمطعم الإغريقي بمدينة لندن لكنه يتردد مراراً قبل أن يشتري منك كتابا لدعم مركز بحثي يعمل صاحبه بوطنية وجدية منقطعة النظير لدعم مشروع التنوير؛ والشجاعة وسيلة لأثبات الذات العاجزة، كأن يشتبك بعضهم بالأيدي تنفيسا للكرب الذي قد يحدثه حادث مروري، لكنه يعجز حال اليقظة لإبداء رأي في شأن عائلي يخص الورثة أو أن ينتصر لمكلوم ومظلوم في الشأن العام. حتى العفة التي من المفترض أن تكون شأنا خاصا اتخذنا منها مجالا للمباهاة، فكانت ابو فاطمة، وابو السارة وخال عاشة -- عاشة مفروض تكون حرة ومرة هو مفروض يكون لطيف ودمه خفيف في "الحلة".


لا أنسى شأن السيدات اللائي تعرضن قبل سنوات لتجريح عنيف من قبل السودانيين (نخبة وعامة) في جميع الوسائط الاجتماعية وقد كان حرى بهؤلاء "المثقفين" السودانيين أن يتعاطفوا معهن لتعرضهن لمضايقات من قبل السلطات في إمارة دبي وذلك بسبب عدم التزامهن بالضوابط التي تنظم مثل "تلك الأنشطة." وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنني أذكر أن "المنسقة الكبرى" في اسطنبول ذات يوم شكت للسيد أردوغان كثرة الإجراءات والبيروقراطية التي تواجهها كي تحصل على تصديق للبنات اللائي تعارف الناس على تسميتهم "ببائعات الهوى"، فما كان من السيد أردوغان إلا أن ذهب معها بنفسه للتنسيق مع الجهات الرسمية كي يسهل ل "بناتها" الحصول على التصديق من نافذة واحدة عوض عن سبعة نوافذ (التي تشمل الفحص الطبي وبعض الإجراءات الأخرى التي تقي "المتعاطين للصنف" شر الامراض والأوبئة المعدية). هذا لعمري هو تصرف رجل الدولة الذي يرى أن من واجبه تحقيق الكفاية، وعدم الاكتفاء بالوعظ الذي هو حيلة المسؤولين في اغلب الأحيان للتهرب من واجبهم في توفير حياة كريمة للمواطنين.


عندما جاء لتوبيخهن، إذا لم نقل إساءتهم، لم يسأل مسؤول السفارة السودانية نفسه عن الأسباب التي دعت هؤلاء النسوة لخوض هذا الغيهب والعيش في لجة هذا الظرف المهين (كم من هؤلاء البنات يشرفن على علاج والد يعاني من مرض الكلية ويلزمه غسيل ثلاث مرات في الاسبوع، أم من منهن تتكفل بدفع مصاريف أختها التي تدرس في الابتدائية، وهو تفعل ما تفعل كي تجنبها مثل هذا المصير؟) من واجب المسؤول ان يسهم في إقامة مجتمع الكفاية والعدل لا أن يطلق أحكاماً يتجاوز بها دائرة اختصاصه، التي تشمل الفضاء العمومي وتقتصر عليه، للتغول على فضاء الناس الخاص. قد يعذر رجل تلكم الدولة لأنه ممثل لجهة معروف أداؤها، ما بال النخب لم تكلف نفسها عبء التفكير في الأمر، فانطلقت تردد بكل بلادة وبجاحه "بالله شفت البنات ديل فضحونا كيف"؟ علما بأن الفضيحة الكبرى تتمثل في هروبنا نحن "قبيلة المثقفين" من واقعنا وتصورنا بأن هناك مجتمع مثالي يعيش بصورة نمطية تتماثل فيها رؤية الأخلاق طهرانيا وتتحد أنموذجيا. أي مخاتلة للنفس وخداع الذات هذا؟


تهكمنا على الأحباش فبذونا في كل الصفات: تنتفي عندهم بالكلية صفة التباهي والتي من عجب نراها في الطبقة "المستنيرة" و"المتيسرة" في آن واحد، وما مناسبات الكبار الاجتماعية منّا ببعيد؛ يأنفون عن التقليد الأعمى ويعتزون بحضارتهم وبأنفسهم اعتزاز من يمشي بين الضّعَة والتواضع وهو للأخيرة أقرب؛ نازلوا الطاغوت فاضطروه إلى الفرار، تضافرت جهودهم فبنوا سد النهضة، طولوا بالهم واتسعت صدروهم للخلاف -- بل اعتبروه أمرا حيويا -- فعاينوا الآفق وحفظوا شعبهم من الضياع. إنك إن سألت أحد المعارضين السودانيين على سياسات تنموية بديلة سيطرحونها على الشعب حال التخلص من العصابة لعرض عليك استراتيجية هي أشبه بقائمة من الطلبات التي تبعث بها (صاحبة المنزل) الخادمة إلى سوق الخضار: جيش قويم، دستور علماني، نظام فدرالي، إلى أخره من المبادئ التي لا يعرف هذا المعارض كيفية تفعيلها استراتيجيا وعمليا كي تعيننا في الانتقال من الهاوية إلى الزاوية ومن الزاوية إلى أعلى الجبل. لعل هذه النخب تحفظ مصطلحات ولا تتقن منهجيات!


هذا البلد تتعمق مأساته كل حين، فقد انتقل من وصاية المحامين في الحقبة الاولي الي فلاحة الصحفيين في الحقبة الاخيرة. المجموعة الاولي ليس لها إلمام بعلم الاجتماع فهي تسعي لقوننة الواقع دون أن تسعي لنقده؛ المجموعة الثانية ترصد ولا ترقب (اذا جاز استخدام تعبير الاستاذ كمال الجزولي)، بمعني أنها تعمل علي توثيق الوقائع دون أن يكون لها معرفة بعلم المستقبليات الذي يؤهلها للأبحار بالحدث الي مرساه. ليس المطلوب من أولئك وهؤلاء أن يكون متخصصين بل أن يكونوا واقعين يستهدفهم الحرص علي المصلحة العامة (وليس المباهاة) للاستعانة بالمختصين، لا أن يكونوا مدعين فلا يفترض فيهم أن يكونوا من العالمين. إن السياسي في العالم الاول يتخير من السياسات ما يناسب برنامجه ولا يسعي مطلقا للإحاطة بالأشياء مجاريا نظرية "الرجل الخارق" فيضيع بذلك طاقة كان يمكن أن ترصد وتوجه للعمل التنفيذي والمؤسساتي.
عندنا زعيم في السودان يفتى في كل شيء ولا يغني عن اي شئ، من اتفاقية مياه النيل (حديث تلقفه من صلاح إبراهيم أحمد)، الحقيبة (ورقة سمعها في الإذاعة من مرتضي الغالي)، الديمقراطية (مجاريا حيدر إبراهيم)، الحكمانية (مقلدا وليد مادبو)، الي النكاح (منافسا نوال السعداوي). وهو بذلك إنما يعالج عجز ا في نفسه عميق، إذ أنه عجز عن التخرج من "الجامعة البريطانية العريقة" التي يتباهى بالتخرج منها، فقد أعطي شهادة إكمال لمساعدة والده لكنه لم يستوف الشروط (يكفيهم تصويرها ووضعها في الفضاء الإسفيري حتي يراها الناس، أقصد "الاحباب")، من حينها وهو لم يستطع إكمال أي شيء ولم ينل ربع ما لقيه المحجوب من إعجاب وهو إبن الكمكلي--الخيّاط بلغة البقارة-- الذي كان اول الدفعة التي كان ابوه بن الائمة في اسفل قائمتها --اي الطيش-- في كلية غردون التذكارية. الا لعنة الله علي الكاذبين أجمعين ملة وذهبا!


إن الدولة السودانية لا محالة فاشلة ومجرد انهيارها سيحفز الأكلة الانقضاض على قصعتها. وإذا كانت مصر تبحث عن أرض زراعية فإنها لا محالة ستجد ضالتها في الجزيرة والشمالية ووسط السودان. يا تري هل عكف الساسة الذين مكثوا في مصر (فترة من الفترات وما زالوا) على تطوير استراتيجية تنموية تربط مصر بالسودان تنمويا، فتوفر علي الأولي شر التوغل قسرا نحو الجنوب (وما حلايب وشلاتين منا ببعيد) أم انهم اكتفوا بالمناشدات العاطفية (مصر يا أخت بلادي يا شقيقة يا بلاداً عذبة النبع وريقة)؟ كل ذلك له صلة بالفدرالية التي من أهم مميزاتها درء الخطر بالتواصل مع الجيران من ناحية وتنسيق العلاقة مع المركز من ناحية أخري. عندما يتكلم الساسة عن الفدرالية، فهل يتكلمون عن الانتقال من مركزية إدارية ومركزية سياسية إلى (لا) مركزية إدارية و (لا) ومركزية سياسية، وفق اي أليات وبأي إمكانيات أم هي مجرد شعارات؟ حتى الآن أرى أن حديث أبناء الريف وأبناء والمركز عن الفدرالية فضفاضا لا يحمل في طياته أي محتوى علمي، دعك من كونه عملي.


لاحقني بعض زملائي من الكتاب، وعتب على أخرون، لعدم كتابتي في شأن العصيان المدني وحسبه بعضهم عمد اكتراث، علما بأنني كتب سطرا يغني عن المقال في هذا الصدد. قلت بأن العصيان المدني حقق وعيا جمعياً، وإن كان مجازيا، لكن الانتقال من الوعي الجمعي إلى الفعل الجمعي سيتطلب تنسيق وتخطيط ومصابرة ومثابرة وجلد لا يتوفر حاليا للمشتغلين في الشأن العام. إن أفضل ما يحدثه العصيان المدني هو إرباك العصابة واستشعار أحد أفرادها بضرورة التحرك ضد الآخرين لئلا يكون ضحية لتأمرهم. إن العصيان في حد ذاته لا يسقط حكومة لكنه يشحذ من الهمم ما يمكنها أن تقود لمواجهة سياسية، لن يتحملها النظام الذي سيستجمع قواه لمنازلة عسكرية إذ لا يحسن غير ذلك. وإذ لا توجد وحدة عسكرية قادرة على مواجهته، فلن يبق غير أسلوب واحد لمعارضيه حينها لحمل أجندتهم إلي الامام غير أسلوب "الأولية الحمراء" إي أسلوب الاغتيالات. هذا الأسلوب غير مجدي في غياب الأولوية الزرقاء (الخطط التنموية أو السياسات البديلة) والأولوية الخضراء (التواصل مع الشعب عبر التحسس لنبضه ومخاطبة أشواقه).


إن أسلوب "الأولية الحمراء" -- إذا استعرنا تاريخ إسبانيا في الكفاح ضد الطواغيت -- غير مجدي لأسباب تكتيكية وليس مبدئية قد تتلخص في قولهم أن السودانيين مسالمين. أي سلم هذا ونحن قد قدنا حروب أهلية تسببت في مقتل ثلاثة مليون نسمة؟ نحن أمة مجرمة بامتياز. وما يجعلنا عنف ضد بعض وليس ضد الجاني هو ليس فقط عيشنا بسيكولوجية "الانسان المقهور"، لكن أيضا نجاح الدولة في استقطاب معظم المجرمين والمنحرفين والفاقدين لأي وازع غير المعتبرين لأي رادع، ومن بقى خارج الزفة ولا تعوذه قيمة للإجتراء على المقدس، فهي إي الدولة (أو العصابة) تناوره وتخاطب نرجسيته.


كان أعضاء المؤتمر الشعبي في أول محنتهم عازمين على انتهاج هذا النهج غير أن "الثعلب الماكر" نبههم إلى أهمية الإبقاء على مساحة للمناورة، فليس المطلوب الإصلاح الذي يقتضي التخلص من العصابة، إنما "الشراكة في المغنم" وذاك أمر يلزمه حصافة. ينطبق الأمر ذاته على أولاد الحركات الذين نجح النظام في استقطابهم واستدراجهم الواحد تلو الآخر، فهؤلاء – باستثناء قلة لم تلن لهم قناة -- وبعد الاختبار العصيب، أتضح أنهم يطلبون مغنما لأنفسهم وليس عز للسودان وأهله. حتى إذا نظرنا إلى دخول خليل الخرطوم، وقد كان بإمكانه تحريرها وقتل دبيبها، فإن تغليب المنطق السياسي قد حثه على التقهقر حيث أن الإسلاميين جميعهم، وقد خبروا كره الشعب لهم، لا يريدون أن يراهنوا على المجهول. أمّا بقية السودانيين المعارضين، فيبينهم ميثاق غير معلن، تؤكد صحته كثير من السيناريوهات، ويظهر منطقة تلعثمهم في كثير من القول، وهو أنه يلزمهم جميعا ومن مصلحتهم كآفة الإبقاء على المؤسسة والحفاظ على مصالح المنظومة. إن هؤلاء بمن فيهم من مفكرين ورجال دين طائفين ورأسماليين وعسكريين يعرفون التفريق جيد جدا بين النظام والمنظومة.


وبالنظر إلى هذه الأوضاع والظرف الإقليمي والدولي فليس بمقدوري أو مقدور أي شخص عاقل (أو مخبول) أن يحمل أخبار سارة للسودانيين. ليس لأن "البلد منكوب" كما يزعم القدريون، وهم إنما يعنون أنها، اي البلدة، مغضوب عليها بالمعنى القدري الإلهي ولكن لأن نخبها عاجزة عن تخطي العلل بصورة منهجية (أخذ الموهبة فوق قدرها لجيوف كولفن 2010). كلما أضعنا وقتا في انتظار حل غيبي أو تسويفي، كلما تعمقت المشكلة وتأخرت حلولها. إن الخروج من المأزق يتطلب تخطيط، الأهم توفر عزيمة على تخطي الصعاب وعدم الركون إلى مبررات غير موضوعية أو بالأحرى وهمية، مثل اللجوء الي دول خارجية لا تملك لنفسها موتا ولا حياة ولا نشورا. لسنا في حاجة لاستجداء أحد فنحن أغنياء أو نيل اعتراف من أخر برز إلي سطح الأرض قبل 5 عقود ونحن قد احتفلنا بميلاد الكتابة علي الورق (وليس الجلود أو الحجر) قبل الي 5 الف عام. اي ضياع هذا؟


إن النخبة سادرة في غيها فلا هي طلبة العزة من ربها، ولا عملت وفق مقتضيات السنة الكونية في التدافع. انهم يستعرضون سلاحا في المعرض الاخير بابو ظبي لم يسعفهم في الدفاع عن اراضيهم، الادهي أنهم يذودون عن الاعراب ويقتلون مواطنيهم. يحتاج قادة هذا البلد التصالح مع أنفسهم ومع الشعب قبل أن يسعوا لطلب ود "الكافرين" مرورا "بالمطبّعين" أو "المارقين"! كما يحتاجون إلي تطوير استراتيجية تتبلور محضا حول التنمية وليس حول اي أوهام أيديولوجية أو عقائدية اخري. إذ ليس لنا مصلحة في عداء إيران أو الخليج أو الارتماء في أحضانهم دون مبرر؛ مصلحتنا الاقتصادية هي التي يجب أن تحدد مسافتنا من أيهم. لم تكن لنا لدينا مصلحة حينما وقفنا مع صدام وقد كانت الكويت أعظم حليف استراتيجي لنا فهي أول من انتبه الي أهمية المشاريع التنموية في ربط الجنوب بالشمال، بيد أننا خذلناهم وتابعنا أوهام العروبيين والإسلاميين، لم تكن لدينا مصلحة إذ تبعنا إيران في طموحاتها وإذا شئت أوهامها الاقليمية، لم تكن لدينا مصلحة (وإن كانت مصلحة الإنقاذيين معلومة) حينما ساعدنا إيران في تمرير سلاح الي حماس اكتشف السذج -- وفد جهاز الامن الوطني -- في اجتماع لهم بالرياض أن الموساد كانت له بالمرصاد، لم تكن لدينا مصلحة في تمرير سلاح الي الثوار في ليبيا وغيرها من البلدان المجاورة، والان أقولها بمليء فاهي فليس لنا مصلحة في إرسال جندنا إلي اليمن. بل إن من واجبنا أن نصلح بين الاخوة لا أن نتحيز مع طرف ضد الاخر، ودون أسباب موضوعية. فقد كان بإمكان السعودية أن تُطَوّر اليمن لا أن تتنظر اللحظة التي ينفجر فيها الوضع لترسل عليه طائرات ومفرقعات، لم يزل بالإمكان العمل وفق استراتيجية موحدة للوصول إلي تسوية في سوريا وليبيا وغيرها من البلدان. السؤال المهم: هل تربط الخليج بالسودان مصلحة آنية تتطلب استرضاء البشير، كأن يعطي وسام باسم رجل اشتهر بالخير حتي كنّي به وقائد أسعد شعبه وجلب له الخير والأمان، أم أن للخليجين والسعوديين خاصة مصلحة استراتيجية مع الشعب السوداني تقتضي مساعدتهم إياه في التخلص من الطاغية مثلما يسعون لتخليص اليمن وسوريا من "الطغاة"؟ السؤال الاهم: ما الذي نريده نحن من أنفسنا ولأنفسنا وبأنفسنا؟


يوثق مالكوم غلادويل في كتابته المتنوعة لتجربة الشعوب في النهضة معوِّلة علي التشخيص السليم للعلة المركزية التي يجب أن يعول عليها وينفي نقيضها لتحقيق النهضة. وهو إذ يقول ذلك إنما يشير الي تجربة كوريا التي عرفت الخضوع كإحدى كبري مشاكلها الثقافية أو عللها الاجتماعية فاختطت لنفسها نهجا بين الضِعة والتواضع، مما كان سببا في نهضتها بعد أن تضافرت الاسباب كآفة العوامل المؤسسية ورجعت تلكم البنيوية. لم يكن الإنجليز في حالة السودان معنيين بالإشكالات البنيوية -- بل هم من عمقوا لها مستخدمين أساليب اقتصادية تجلت في تحيزهم للمثلث، واجتماعية كانت العنصرية إحدى تداعياتها، وسياسية بدت في نهج التمكين للطائفية، وأخلاقية ظهرت في مضمون تحيزهم للمنظومة الفقهية الأرثوذكسية، إلي أخره. بيد أنهم كانوا حريصين على المؤسسية وضبط النظم البيروقراطية كي تضمن فاعلين الجهاز الإداري لأنه يخدم مصالحهم. ما إن خرج الانجليز حتي وجد الافندية فرصتهم للعبث بمكونات هذا الإرث التليد، بل توظيفه لصالحهم مطلقين العنان لأقبح ما في الثقافة "الرعوية"، تلك التي تعني بالمغنم.


عشية الاستقلال توجهت إحدى المذيعات السودانيات لأجراء حوار مع الناظر إبراهيم موسي مادبو وقد بدأ مغتما أثناء الحفل، فقالت له: عمي الناظر انت مبسوط؟ قال لها: ماني مبسوط. قالت له: ليه؟ قال لها: يا بنيتي الانجليز طلعوا خلونا زي اللوري لا نور لا بوري. حتما لقد كان احتفال الاستقلال احتفاء بالمغنم الذي سرعان ما تحقق للنخب. ومال زال اللوري في مكانه. ونحن نغني كالمخبول حوله "اللوري دور بي"! ليس هذا مدعاة للمطالبة بعودة المستعمر، إنما دعوة لاعتماد منهجية صارمة تنفي استمراره عبر أعوانه الوطنيين. هذا حال زعيم قبلي كان هو وإخوانه وزملائه معنيين بتحسس موضع أقدامهم لمعرفتهم حال أهليهم وعدم إستيثاقهم من مقدرة النخبة الوطنية، دعك من نواياها، علي إدارة بلد بهذا الحجم وذاك التنوع. إن مهمة الزعيم القبلي (خاصة اذا كانت قبيلة رعوية عابرة لمناطق حدودية) تشمل ولا تقتصر علي تأمين لأفراد القبيلة التنقل من مكان إلي أخر دون خسائر تذكر ، بل اغتنام الفرصة للمكسب. إذا كانت جهود الافراد القبليين تتضافر لتحقيق غاية جماعية، فإن النخب المركزية (والريفية) تنكبت الطريق وتعثرت حتي صارت القبيلة وارثها يوظفان لمصلحة الفرد.


إن الأفق التنموي يقتضي تجاوز الثقافة الرعوية والتي هي ثقافة موسمية، أي إنها ثقافة فصول (خريف، درت، رشاش، الي أخره) إلي إمكانية إحداث الكفاية المجتمعية دون إخلال بقيم القبيلة إنما تطويرها. لا تفزع ان قال لك احدهم أنه مواجه بكارثة، ذلك أنه يعني حسب ثقافته الموسمية التي لا تتجاوز عدد الفصول الأربع أنه مواجه فقط بموقف كان يتطلب ترتيب مسبق وليس نازلة المّت به حالا من السماء. جاء احدهم إلى احد اقرباه الميسورين وقال له: يا فلان انا في ورطة؛ رد عليه قائلا: "إن شاء الله خير!" قال: تصور يا فلان الولد دخل الجامعة؛ القريب: طيب المشكلة شنو، أبو الولد: دي كارثة، أنا ما دبرت المصاريف. لم يتفاعل معه ابن عمه النبيه كما ينبغي، لكنه لم يشأ أن يكسفه فقال له: انت وقتا أدخلت الولد الروضة، ألم تكن رغبتك أن تدخله الجامعة؟


إن التكافل قيمة إنسانية عظيمة لكنَّا افتقدناها نتيجة سوء التخطيط الذي تسبب في شقاء لإنسان البادية الذي كان يري العون في النائبات من رفقائه، بيد أنه لم يري غير التنافس المتوحش حال انتقاله الي المدينة فأطلق العنان لغرائزه غير مبال بالعواقب . زعم العلامة عبدالله الطيب (رحمه الله) ان سبعة من القبائل الثمانية التي اشتهرت بالحسد في جزيرة العرب هاجرت إلى السودان. هل تفهم هذه العبارة على إنها استهلال أم استدلال؟ هل هي دعابة أم غرَابة؟ أم لعلها دعابة يراد الاستدلال بها على فداحة الظاهرة وعظيم انتشارها وسط الشعبين. فتري بعض المتشائمين والحانقين يقولون "هم ليسو سودانيين هم سود النية." الشاهد في الأمر أن الاقتصاد الرعوي أو الفلاحي يمقت التفاوت (التوسع الرأسي) لأنه يحد من إمكانية التقاوت (التوسع الأفقي) كألية وحيدة ومثلى لاستدامة واستقرار المجتمعات التقليدية. ولذا فالسودانيون حتي زمن قريب كانوا يمقتون التفاوت ويتحاشون التظاهر المادي حفاظا علي القيم وليس بالضرورة خوفا من الحسد. ليس ثمة تلازم جيني بين مجتمع وصفة من الصفات إنما هو التخلق الذي تستحدثه المؤسسات؟


ختاما، إذا ما اتفق علماء الاجتماع والسياسيين والفقهاء والأدباء على ضرورة تعريف العلة الرئيسية التي تعيق إمكانية إحداث نهضة قومية وأهمية معالجتها منهجيا، فإن هناك أرث كبير (ظل مهملا)، يمكن الاعتماد عليه في تثوير القيم السودانية الأصلية والتي لم تجد طريقها بعد إلى المؤسسة التربوية والتعليمية. فالسلوك يُعَدّل مؤسسيا بمواجهة العلة ومنهجيا باتباع الأساليب الناجعة، أما التمجيد الأجوف (تقول لى شنو وتقولي منو) وتضخيم للذات (بادعائها العصمة بل الريادة كأن يقولوا الشعب المعلم: علم مين وعلمه إيه؟)، فمن شأنه أن يعقد الإشكالات النفسية ويعرقل الجهود التنموية. إن التصميم الخلاق للمؤسسات السياسية والاجتماعية وإعطاء الثقافة قيمتها الحقيقة، بل إسناد المهمة إلي ذويها من شأنه ان يربط المجتمع بالدولة ومن ثم يعالج مشكلة الفصام المجتمعي والدوار الأممي، الذي كان من نتائجه أن رفد المجتمع الدولة بأسواء ما عنده، وجعل الدولة تعول على أسوأ ما في الشخصية السودانية.


يحلو للسودانيين أن يلوموا الإنقاذ، بيد أن اولي الخطوات هي إقرارنا بأن الانقاذ هي نتيجة لخلل متأصل في شخصيتنا الثقافية والاجتماعية. إن التعويل على الذات الثقافية أمر حيوي ومهم، بل لا يمكن أحداث النهضة دونه، لأن الذات المتسقة والمتماسكة هي ذات مبتكرة ومبدعة (وليست متلقنة) في الحقل العلمي، وذات أمينة ونافذة وماهرة في الحقل السياسي (وليس فقط ماكرة)، وذات وفية وناقدة في الحقل الأخلاقي والقيمي (وليس فقط ممتثلة). وهذه هي الأرجل الثلاثة التي ذكرتها في مطلع المقال عن دورة تصميم وتنفيذ السياسات. فقط عن طريق التعليم الخلاق ونقل الخبرات العالمية المثلي وتطبيق العمليات المؤسسية يمكن للأمم أن تتعافى وأن تنضم طوعا إلى اتحاد يصون كرامتها ويمنحها الخدمات الضرورية. يبقي السؤال هو عن نوع الفلسفة التعليمية التي يجب أن يتم اعتمادها لإفاقة هذا العقل البشري من غيبوبته لإطلاق إمكاناته غير المحدودة، وجعل روحه تخدم الأهداف الخاصة بالاقتصاد الأخلاقي المحلي، الاقليمي والدولي (راجع عصر العلم للدكتور الراحل أحمد زويل الحائز علي جائزة نوبل)؟

 

auwaab@gmail.com

 

آراء