“الكرة في ملعب المؤتمر الوطني”
mohamed@badawi.de
من سمحت له الفرصة وتمكن من مشاهدة الأخبار بالأمس في تلفزيون جمهورية السودان، الذي استضاف البروفسير د. البخاري عبدالله الجعلي ليتداخل كسياسي وخبير في شأن الحوار الوطني الذي نادى به السيد النائب الأول، لأصابه بعض من الذهول. لماذا؟
الكثيرون يعرفون بروف البخاري عبدالله الجعلي وها هنا نبذه موجزة لمن يجهلونه. تخرج في كلية القانون بجامعة القاهرة (فرع الخرطوم) وعمل بمناصب هامة عدة منها بروفسير للقانون بجامعة القاهرة (الفرع – جامعة النيلين حاليا)، كما عمل كوكيل لوزارة الداخلية ومستشارا لوزارة التخطيط بدولة الكويت وكخبير في لجان ترسيم الحدود بين الكويت والعراق وأخيرا وليس آخرا خبير القانون بوزارة العدل بدولة قطر وعضو فعال في لجنة ترسيم الحدود بين السودان ودولة الجنوب الوليدة. له مؤلفات علمية عديدة في قانون الإثبات وفي قضايا دبلوماسية الحدود في إفريقيا: نزاع الحدود بين السودان وأثيوبيا (على سبيل المثال لا الحصر).
لكن لماذا الذهول عندما رأينا مداخلته بالأخبار؟
أولا: لأن الرجل – مع العلم بأنه رائد من رواد الحزب الوطني الاتحادي الأصل – إلا أنه دافع عن حق المواطن السودانيّ بكل فئاته المتدفقة في بوتقة الأحزاب السياسيّة المتباينة دون أن يجاهر بانتمائه لحزبه، واضعا مصلحة الوطن فوق كل شأن حزبي؛
ثانيا لأنه – كما عرف عنه – لا يخشي في قول الحق لومة لائم، إذ أنه عارض رأي المذيع الذي أشار إلى أن الكرة في ملعب قوى المعارضة بعد الإعلان الذي بادر به السيد النائب الأول في أطلاق العنان لحوار وطني بناء، مشيرا إلا أن النداء إلى التحاور أو الحوار لا يعني أن النتائج سوف تكون حتما مثمرة، والسوابق كثيرة على حد ذكره! قال له: أنا لا أتوافق معكم بأن الكرة في ملعب المعارضة فهي بالتأكيد في معلب الحزب الحاكم.
ثالثا: بادر البروف متسائلا: نعم، نحن مع الحوار وكل حزب وطني يطلق على نفسه ديموقراطي ينبغي أن يسلك الحوار طريقا، فتلك قضية مفروغ منها؛ أي أبجديّة - لكن ماذا بعد الحوار؟ فمن بيده مقالد الحكم فيما بعد؟ أتشرق شمس دافئة على السلوك المتعارف عليه إلا الآن وتبزغ ببصيص من نور في شأن حرية الرأي والجهر به؟
رابعا: يقول البروف نعم للحوار لكنه اشترط مناديا أن تجتمع كل الأحزاب الوطنية حول مائدة واحدة وأن يكون المؤتمر الوطني واحدا منها، على قدم المساواة، دون أن يعلو حزب عن آخر "وكلهم في الهواء سواء"!
خامسا: طرح البروف تساؤلا هاما للغاية ألا وهو ما ينطوي عليه الدستور من مادة ثرّة ورائعة (كما ذكر) تكفل الحريات بصورة شبه متكاملة وتبدّى ذلك قبل انفصال الجنوب؛ وأنها خليقة – عند التطبيق – أن تكفل لكل فرد وحزب الحريّة التامة التي يصبو لها وينشدها الوطن. وفي نفس السياق طرح البروف تساؤلا آخرا في غاية الدقة والإحكام: نعم، ينطوي الدستور ويكفل لكل الأحزاب تلكم الحريّات وقد كان كل ذلك قبل انفصال الجنوب؛ والآن - بعد الانفصال - وكأن تلك المادة الدستوريّة قد قننت وخلقت فقط لتكفل حق الحركة الشعبيّة وحزب المؤتمر الوطني في التمتع بالحريات المذكورة آنفا. يقول: ليست كل الأحزاب – ومتحدثا هنا باسم كل القوى المعارضة – قادرة (على سبيل المثال) أن تنظم تظاهرة أو أن تحرك ساكن على عكس حزب المؤتمر الوطني! والتساؤل الضمني الذي تطرحه فكرة البروف يمكن أن نلخصه بالبيت التالي: أحلال على بلابله الدوح – وحرام على الطير من كل جنس؟
سادسا: رغم ضيق الزمن الذي اتيح له (خمس دقائق) ورغم تداخلات المذيع المزعجة في جمله المكرورة المتعثرة أمام هيبة هذا العالم الجليل والسياسي المحنك، كان حديث البروف صريح العبارة، جريء الرسالة وبنّاء المرامي، فتفتقت في كلامته الصائبة الهادئة وطنية رجل يحبّ الوطن، قدّم ويقدم له ما استطاع من جهده وعلمه، فانبرى البروف وتحدث بنشرة الأخبار بتلفزيون السودان كخبير، بموضوعية وشجاعة منقطعة النظير دون أن يلمح إلى لونه السياسي أو انتماءه الحزبيّ لفئة بعينها، واضعا حب السودان وخدمته فوق كل الأهداف والمرامي الحزبية. جزاه الله عنّا خير الجزاء فالسودان يحتاج لرجال من أمثاله فهو قدوة لنا في محنتنا هذه.