الكلام دخل الحوش(2): قوة العين صنعة!! … بقلم: إبراهيم الكرسني

 


 

 


سبق و أن أشرت فى عدة مقالات سابقة الى الخط السياسي و الإعلامي للمؤتمر الوطني الذى يحاول من خلاله، وفى إستماتة يحسد عليها، أن يؤكد لجماهير الشعب السودانى بأن تفتيت السودان، و شرذمته، و تقطيع أوصاله، و تقسيمه الى عدة دويلات، هي مسؤولية جميع القوى السياسية، و ليس المؤتمر الوطني وحده. وقد ظل قادة المؤتمر الوطني يؤكدون ذلك الواحد تلو الآخر، تكاد تصيب المرء بالغثيان، فى محاولة يائسة للي عنق الحقيقة، لكنهم لن يجنوا من ورائها سوى الخسران المبين. و ليطمئنوا بأن سهام هذا النوع من المنطق المتهافت سوف ترتد حتما الى صدورهم، يوم يتصدى لهم الشعب ببسالته المعهودة، و يطيح بنظامهم الدكتاتورى الفاسد، و يحاسبهم على ما إقترفت أيديهم من جرائم فى حق الشعب و الوطن، ويأتى فى مقدمة تلك الجرائم، بالطبع، التفريط فى السيادة الوطنية، و عدم المحافظة على ترابنا الوطنى متماسمكا، كما ورثناه أبا عن جد. وقد أشرنا كذلك سابقا الى أن هذا النوع من الهذيان لا يصدر إلا من رجال قد فقدوا صوابهم، و أصابهم مرض فقدان الذاكرة المكتسب من فرط التفكير الآحادى الجانب و الشمولى الذى يجعل الفرد يكذب، و يصر على كذبه بمنطق جوزيف غوبلز، حتى يصدق نفسه تلك الكذبة التى أطلقها متعمدا، و مع سبق الإصرار، عند بداية حديثه.
أتت آخر تلك المحاولات البائسة و اليائسة على لسان رئيس المؤتمر الوطنى حينما خاطب بالأمس منظمات المجتمع المدنى بمدينة جوبا، عاصمة الدولة الجديدة التى ستولد فى جنوب الوطن يوم الأحد القادم. و كعادته فقد أرغى و أزبد فى حديث غث لا يسمن و لايغنى من جوع. حديث ملئ بالمغالطات التاريخية، خال من أي منطق، مفارق لجميع الحقائق، و بالتالى فلن يصدقه سوى الفئات المستهدفة منه.
سنستعرض فى هذا المقال جانب واحد من ذلك الحديث وهو الجانب المتعلق بمحاولة رئيس المؤتمر الوطني لي الحقيقة ليثبت أن إنفصال الجنوب هو مسؤولية جميع القوى السياسية فى الشمال، و ليس المؤتمر الطنى وحده. وقد كان منطقه فى هذا الشأن على النحو التالي: طرح المؤتمر الوطني مبدأ تقرير المصير لجنوب السودان على الدكتور رياك مشار فى بداية التسعينات حينما أجرت الإنقاذ محاولتها الأولى لشق صفوف قوى المعارضة، بادئة بالحركة الشعبية لتحرير السودان، فيما أصبح يعرف بإنفصال الناصر. بعد ذلك أقر التجمع الوطنى الديمقراطى مبدأ تقرير المصير لجنوب السودان فى مؤتمر القضايا المصيرية الذى عقد بمدينة أسمره فى العام 1995. وبما أن هذا القرار يعتبر أهم قرارات مؤتمر القضايا المصيرية، من وجهة نظره، و بما أنه أقر بإجماع القوى السياسية المعارضة، فإنها بالتالى تصبح شريكة فى تحمل مسؤولية نتائجه، و إن لم تشارك فى أي خطوة من آليات تنفيذه!! هكذا وبكل هذه البساطة يطلب منا رئيس المؤتمر الوطنى أن نلغى عقولنا، و ننكر حقائق المنطق و التاريخ القريب، الذى يكاد أن يكون جميع شهوده أحياء يرزقون، و أن نصدق ما أدلى به من أكاذيب لن يصدقها سواه، ومن والاه من سدنة الإنقاذ و المنتفعين من مناصبها من تجار الدين و ضعاف النفوس.
نعم، يريد منا رئيس المؤتمر الوطنى أن نصدق بأن قوى المعرضة الشمالية قد أيدته فى جميع الخطوات التى إتخذها حزبه لتفتيت الوطن، وسارت معه الحجل بالرجل فى هذا الطريق المعوج، و باركت كل قراراته الكارثية التى إتخذها فى هذا الشأن. يقول هذا الرجل مثل هذا الحديث و ينسي، أو بالأحرى يتناسى، أن نفس هذه القوى قد طلبت منه مرات عدة، الى أن بح صوتها، بأن قضايا الوطن المصيرية يجب أن يقررها جميع أهل السودان، و ليس حفنة من المتآمرين سرقوا السلطة السياسية بليل. و أن هذه القوى قد جأرت بالشكوى لجميع من له علاقة بالشأن السودانى، حتى أسمعت كلماتها من به صمم، و حتى كاد طوب الأرض أن يسمعها، بأن قضايا الوطن المصيرية يجب أن تتقرر من خلال مؤتمر قومي جامع تشارك فيه جميع القوى السياسية، بما فى ذلك المؤتمر الوطني. لكن هذا الرجل نفسه كان يضرب بكل تلك النداءات عرض الحائط، بل يزدريها تماما، حتى وصل به الإستخفاف و الإستهتار بمن أطلقوها، أن تحداهم بأن يحملوا السلاح و ينازلوه، و ينتزعوا السلطة منه، كما فعلها هو عنوة من قبل، إن كانوا رجالا. لقد قال هذا الحديث الغث، الذى لا يصدر من رجل يعتبر رأس الرجل الأول فى قمة هرم السلطة السياسية، بل يعتبر بمثابة رأس الدولة، حينما حينما اسكرته السلطة، و كان فى غمرة نشوته، ورجرجة الإنقاذ تدق له الطبول، و هو "يعرض"، طالبا من قادة المعارضة بالنزول الى "الدارة" فى حفلة "بطان"، سيكون هو بالقطع المنتصر فيها، بحكم ما تراكم لديه من تجارب فى هذا المجال، و بئس التجارب. لكنه قد فات عليه بأن قضايا الوطن المصيرية لا يمكن علاجها بمنطق الطبول، مهما علا صوتها، أو السياط، مهما علت قرقعتها، أو "العرضة" مهما تم "تأصيلها". لكنه منطق الجنون، و جنون المنطق، الذى لا يصدر إلا من رجال قد فقدوا صوابهم، و بالتالى فقدوا القدرة على التقدير السليم للأحداث، ووزن الأمور بميزان الذهب، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية.
حاول رئيس المؤتمر الوطني أن يقنعنا بأن ما فعله فى نيفاشا كان سيفعله أى قائد سياسي آخر، بما أنه قد أقر بالإجماع فى مؤتمر أسمره للقضايا المصيرية. إنه الكذب الصراح. إذا كان هذا هو منطق الحال، فلماذا رفض حزبه رفضا قاطعا مشاركة قادة التجمع الوطنى فى إجتماعات نيفاشا التى أفضت الى توقيع إتفاقية السلام؟ بل لماذا رفض حزبه حتى مجرد حضور هؤلاء القادة كمراقبين لتلك الإجتماعات؟ بل لماذا رفض دعوتهم لحضور الحفل الختامي لتوقيع وثيقة الإتفاق، الذى دعى له كل من هب و دب، و أرسل الطائرات الخاصة لتحضر كل من يهمه أمر ذلك الإحتفال؟ إذا كنت مقتنعا تماما بما تقوله الآن من تحمل قيادات المعارضة المسؤولية المشتركة لما يحدث من تفتيت و تمزيق للوطن الى أشلاء، لماذا ذلك كان ذلك الرفض القاطع و الإصرار على إبعادهم من المشاركة فى جميع الخطوات التى مشاها المؤتمر الوطنى بمفرده و التى أفضت الى تلك الكارثة؟ لو كنت قد أشركت قادة المعارضة فى كل هذا ، كان سيحق لك بالفعل أن تقول ما قلته حول تحملهم لمسؤولية النتائج، التى كانت ستكون بالقطع مختلفة تماما عن ما نراه أمام أعيننا اليوم، وذلك لسبب بسيط وهم إختلاف منهج تطبيق مبدأ تقرير المصير على أرض الواقع حينما يتم تنفيذه من خلال إجماع وطنى شامل، و ليس من خلال إنفراد شريحة سياسية صغيرة، لا تمثل القاعدة العريضة لجماهير الشعب السودانى بأي حال من الأحوال.
لكننا نود أن نذكر هذا الرجل، الذى يبدو أنه قد فقد المنطق و الذاكرة معا، بأن مبدأ تقرير المصير الذى أقره طيب الذكر التجمع الوطنى الديمقراطى لم يفصل آليات تنفيذه، أو كيفية إجراؤه. فقد كان من المنطقى أن يتم تنفيذ هذا المبدأ من خلال آليات تضمن سماع صوت الشعب، جميع أفراد الشعب و فى جميع أرجاء البلاد، و ليس الجنوب وحده، و ذلك من خلال عقد مؤتمر قومي دستوري تشترك فيه جميع القوى السياسية، على سبيل المثال لا الحصر، كما أوضح ذلك لاحقا جميع قادة الأحزاب المعارضة، و ليس بالمنطق الإقصائي الذى ميز أداء المؤتمر الوطنى. بل لقد كان من الممكن أن يسعى الجميع لتوفير معظم مقتضيات وحدة الوطن من خلال تنفيذ متطلبات الوحدة الجاذبة، و ليس تنفير الإخوة فى الجنوب حينما رفضت حكومة المؤتمر الوطنى، و فى إصرار عجيب، إلغاء القوانين التى تتعارض مع الدستور الذى شاركت هي فى إقراره. تلك القوانين الكريهة والمنفرة التى إستهدفت أول ما إستهدفت الشرائح الضعيفة و المهمشة التى ينحدر معظمهما من جنوب البلاد، كقانون النظام العام.
 لقد أقصى المؤتمر الوطنى جميع القوى المعارضة له من العملية السياسية برمتها منذ سرقته لها فى بداية عهده فى العام 1989م ، ثم يأتى رئيسه ليقول لنا بأن حزبه لم ينفرد بإتخاذ مثل هذه القرارات العوجاء. إنه الكذب الصراح. لكن المفارقة تكمن فى أن رئيس المؤتمر الوطني قد صرح فى لقاء جوبا بان، "الراجل بيمسكوهو من لسانو...مش من كراعو"، بمعنى أن الرجل لا يكذب أبدا. يا للهول أن يصدر مثل هذا الحديث من رجل بدأ عهد حكمه بكذبة بلقاء شهد بها العالم أجمع حينما أقر بها شيخه السابق الذى صرح فى أحد المرات، و بوضوح تام، أنه قد نصحه ليلة سرقته للسلطة السياسية فى إنقلابه المشؤؤم، "إن أذهب الى القصر رئيسا... وسأذهب الى السجن حبيسا". ليس هذا فحسب، بل لقد ظل نفس هذا الرجل ينفي، و لسنوات عدة، أية علاقة له أو لإنقلابه التعيس بالجبهة الإسلامية القومية، المهندس الفعلى لتلك الكارثة التى حلت بالشعب السوداني فى الثلاثين من يونيو من عام 1989م. ثم يأتى نفس هذا الرجل ليصرح من جوبا بأنه لا يكذب أبدا، كبقية السياسيين!! وبأنه رجل يوفى بالعهود و المواثيق، ناسيا و متناسيا بأنه قد خان أكبر عهد إلتزم به أمام الله و الشعب، حينما أدى القسم كجندي فى القوات المسلحة السودانية، بأن يصون دستور البلاد و يحافظ على وحدة ترابها،و لم يخجل أبدا من حقيقة أنه سيكون أول ضحايا هذه القاعدة ، لو تم تطبيقها بالفعل على أرض الواقع. لكن ماذا نقول فى أمثال "هؤلاء الناس"، غير وصفهم بقوة العين. وقديما قال أهلنا الطيبين،"قوة العين صنعة"، لكنها صنعة تعيسة و بائسة!!
5/1/2011م
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]

 

آراء