الكليبتوقراطية الإسلاموية

 


 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

لا أعتقد أن الفساد المالي والإداري في مجتمعنا يلقى ما يستحقه من اهتمام، ناهيك عن الجدية في اجتثاثه وتعقب الجناة ومحاكمتهم وردعهم كما نفعل مع النشال أو اللص الإنفرادي (نطاط الحيطان) الهاوي الذي يقع في أيدي السابلة المتنمرة، خاصة شراذم العزابة ذوي الأصول الريفية البدوية؛ بل لدي شعور منذ وقت مبكر أننا كسودانيين نتعايش بارتياح hero-worshiping وبإعجاب وتلمظ مع الهمبتة والسرقات المؤسسية ذات الأرقام الفلكية، خاصة إذا كانت من خزائن أومخازن الحكومة – مدنية كانت أم عسكرية. وربما قد تأثرنا في ذلك بالإرث العربي الإسلاموي، حيث كان العرب منذ الجاهلية وحتى وقت قريب يتكسبون ويتباهون بقطع الطرق والعدوان، وكانت القبائل البدوية تغير على بعضها البعض لتنهب وتنتهك الحرمات، بينما السارق الحضري المنفرد غير المسنود بقبيلة، يقام عليه الحد وتقطع يده.
ولقد كان عهد المصطفي عليه الصلاة والسلام والثلاثة خلفاء الراشدين الأوائل زمان صلاح وفلاح وشفافية وعدل وكبح لجماح الرذيلة والشهوات البهيمية، وإعلاء لشأن القيم الروحية النبيلة، في مجتمع تجسدت فيه الآية: (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)؛ حتى جاء سيدنا عثمان بن عفان فبدأ عهد "الماديات" والتمكين للأقربين nepotism, graft and favoritism والتوريث الذي تناهت إليه دولة بني أمية رهط عثمان بن عفان، وذلك بعد التآمر على ابن عم النبي، سيدنا على بن أبي طالب، وقتله غيلة وغدراً، وأيلولة الأمر لمعاوية ومن ثم لبني أمية أبناء عمومة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذين تربعوا فوق "عرش" الخلافة وتأمروا وحكموا بلا منازع يذكر لقرن من الزمان 662م - 750م، وأسسوا ملكاً عضوداً بإسم الإسلام، باستثاء الفترة الوجيزة التى حكم خلالها الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، حفيد سيدنا عمر بن الخطاب من ناحية أمه.
وكمثال لإستغلال النفوذ وإطلاق اليد في أموال الدولة الذى بدأ في الواقع قبيل وبعيد تسنم عثمان الخلافة، ما أورده الدكتور طه حسين فى (الفتنة الكبري) مأخوذاً عن الطبري (تاريخ الأمم والملوك – الجزء 4، ص 108/109):
"عين الخليفة علي الصحابي عبد الله بن عباس إبن عم النبي عليه الصلاة والسلام – الملقب ب"حبر الأمة" و"ترجمان القرآن"، والذى روى ستين وستمائة وألف حديثاً - والياً على البصرة. فأخذ هذا الوالي المشهور بالعلم الغزير والورع وسهر الليالي في التهجد، أخذ في تجنيب الخراج وزكاوات المسلمين لحسابه الخاص، حتى بلغ ما شفطه من بيت المال ستة ملايين درهم؛ فأرسل إليه سيدنا علي خطاباً يأمره برد مال المسلمين لبيت المال، ورد ابن عباس رافضاً لتلك التعليمات، قائلاً (هذا مال ساقه الله لي)، ومهدداً بالهجرة إلى معاوية في دمشق ووضع تلك الملايين تحت تصرفه ليحارب بها علياً".
ولقد اختلف العلماء حول هذه القصة واعتبرها بعضهم فرية روج لها أعداء الإسلام. ولكن حكم بني أمية بكامله، على كل حال، وحكم العباسيين من بعدهم لخمسمائة حولاً كاملة، يقف دليلاً تاريخياً على شطط وعشوائية وفشل الحكم العضود وتزوير وتحوير واستخدام الإسلام في التوريث واستغلال النفوذ بغية تناسل أنظمة حكم بئيسة، ديدنها الفتن ومؤامرات البلاط والحروب العشوائية ذات اليمين وذات اليسار والبطش بالمخالفين والمعارضين، لا تقسيم السلطة والثروة بالقسطاس وتوطيد أركان العدل (الذى هو أساس الحكم والضمانة الكبرى للأمن والأمان والاستقرار والديمومة)؛ وعلى الرغم من التقدم المادي والحضاري الذى حققته حقبتا بني أمية والعباسين، خاصة في عهد المأمون وهارون الرشيد، إلا أن المسلمين في نهاية الأمر ورثوا دولة هشة ضامرة المحتوى الوطني، بلا برامج سياسية إقتصادية إجتماعية واضحة المعالم، عصف بها التتر المغول والأتراك وغيرهم من العجم والشعوب الأكثر جهلاً وٌأقل مستوىً حضارياً Philistines - الذين حكموها بقدر متناقص من الكفاءة والمقدرة على البقاء، حتى آخر خليفة عثماني، السلطان عبد الحميد، الذى تهاوى عرشه عام 1922 في بداية القرن المنصرم، على يد كمال أتاتورك وثورته العلمانية المتأثرة بالحضارة الغربية. وهو نفس المصير الذى كان قد حاق بالإمبراطورية الرومانية على أيدي البرابرة الصعاليك vandals القادمين من أدغال أوروبا.
والغريب في قصة إبن عباس أنه من آل البيت وتربي بالمدينة المنورة في كنف المصطفى (صلعم)، وفي عرصات المسجد النبوي الشريف، وتتلمذ على الصحابي الثوري المتقشف المغوار جندب بن جنادة بن سفيان الملقب ب (أبو ذر الغفاري) - أول الإشتراكيين - الذى كان لا يخشى فى الحق لومة لائم، وشعاره الآية الكريمة التى جاء في جزء منها (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)؛ ولقد منعه عثمان بن عفان من حضور مجلسه لأنه كان يصدع بالحق على رؤوس الأشهاد، ونفاه إلى قريته "الربذة" التى أقام بها حتى مماته عام 32 للهجرة، حيث قبره العلامة عبد الله بن مسعود الذى كان ماراً بالصدفة، في طريقه إلى المدينة المنورة - وروى عندئذ حديثاً شريفاً يقول: (يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده.)
ولا نود أن نقيِم أداء أول ممالك ومشيخات إسلامية بالسودان قبيل وبعد سقوط سوبا عام 1503م باعتبارها كيانات إقطاعية – على رأسها السلطنة الزرقاء - شأنها شأن عالم ذلك الزمان؛ ولم يتبلور في كنفها مفهوم الدولة الحديثة الذى جاء للسودان مع الغزو التركي المصري عام 1822م. ولقد وطدت التركية السابقة – 1822 / 1885م - أركان دولة السودان بحدوده المعروفة حتى انفصال الجنوب عام 2011م، غير أن الهدف الذى جاء من أجله محمد علي باشا - (المال والرجال) - المبرر لحكمه السودان raison d’etre إنما هو في الحقيقة تجسيد للفساد بعينه، فب(الرجال) كانوا يقصدون العبيد الذين كان أشداؤهم يجندون قسراً في جيش محمد علي كمرتزقة أجرهم فقط الطعام والزي العسكري، والباقون يباعون في سوق النخاسة ليعملوا خدماً بالمنازل وأقناناً بالحقول؛ و(المال) كانت هي الضرائب الجائرة التى تجمع من الفلاحين المعدمين بالفلقة والbastinado وكافة أنواع التنكيل، مما قاد لهجران المزارع وتجريف القرى السودانية من سكانها، بينما الحكام الأتراك المصريون يرفلون في نعيمهم المغتصب من أفواه الكادحين، وفي فسادهم الأخلاقي وشذوذهم الجنسي؛ فلاذ الناس بمشائخ الصوفية الذين انتبذوا أماكن قصية في عراء الله الواسع، بحثاً عن الجانب الروحي الذى تخلت عنه الدولة الممثلةً لخلافة الباب العالي المقيم بإسطمبول. وقويت الدعوة للمهدي المنتظر المنقذ بعد أن امتلأت الأرض جوراً، ومن أبرز شيوخ ذلك الزمان المشرئبين للمهدي المنتظر: الشيخ عبد المحمود نور الدائم والشيخ عبد الكريم السماني والشيخ إبراهيم الكباشي والشيخ محمد المجذوب – وقد تنبأ جميعهم بمقدم الإمام المهدي.
وبالفعل ظهر محمد أحمد عبد الله الدنقلاوي المهدي في أول ثمانينات القرن التاسع عشر، والتف حوله السودانيون المتطلعون للتخلص من الحكم التركي الباطش الفاسد. ولقد جاء المهدي من تلافيف الطرق الصوفية، وبالتحديد الطريقة السمانية التى كان شيخها أستاذه محمد شريف نور الدايم حفيد مؤسسها. وما أن تم النصر للمهدي وثورته بفتح الخرطوم في يناير 1885 حتى انقلب على شيخه نور الدايم ونكل به، وأخذت المهدية تبتعد عن حاضنتها الصوفية، وأصبحت improviser من الطراز الأول، وتبنت فيما تبنت شعارات الدولة الإسلاموية الأصولية التى ليس لها شبيه إلا الدولة الحالية التى أقامها الإخوان المسلمون بالسودان منذ 30 يونيو 1989. وتوفي المهدي بعد فتح الخرطوم بخمسة شهور، وآلت الدولة للخليفة عبد الله الذى فتك بشيوخ الصوفية ونفاهم للرجاف بأقصى الجنوب، حيث ذبابة التسي تسي والتماسيح، كما لاقي نفس المصير إخوان وأبناء عمومة المهدي وكافة شيوخ قبائل شمال السودان؛ وأرسل الخليفة لرهطه "الجبيرات" وجميع أفراد قبيلة التعايشه المقيمة بجنوب دار فور واستجلبهم للبقعة (أم درمان) ومكنهم في الأرض وكون منهم جيشه (الجهادية) وحرسه الخاص، وكساهم واقتطع لكل واحد منهم "جعلاً" شهرياً ثابتاً من بيت المال، ومنحهم قطعاً سكنية وأحياءً بأكملها بجواره في قلب العاصمة المهدوية، وأطلق أيديهم في مزارع الناس (الجلابة) وممتلكاتهم بنفس طريقة الجنجويد والمليشيات الإسلاموية المتنمرة اليوم. كما استمرت تجارة الرقيق الذين تم تصديرهم لمصر وغيرها من دول الجوار، واستمر البطش بالسكان، بمن في ذلك أقرب المقربين من قواد الجيش مثل الزاكي طمل، وتم التخلص من القائد الجعلي عبد الرحمن النجومي ورهطه ومن تبقي من القبائل النيلية المنضوية تحت لوائه بإرسالهم في مهمة انتحارية لغزو مصر التى كان يحتلها الجيش الإنجليزي منذ 1882م؛ وبالفعل قام الجنرال جون قرنفل بتصفية النجومي ومفرزته سيئة الحظ عن بكرة أبيها تقريباً بمنطقة توشكي بالتخوم الجنوبية لمصر. ومنذئذ بدأ العد التنازلي للغزو المصري الجديد للسودان، منذ 1896، غير أنه هذه المرة تحت إمرة الإنجليز، بقيادة الجنرال هيربرت كتشنر ونائبه العميد رجنالد ونجت والضباط البريطانيين.
حكم الإنجليز السودان من 1899 حتى 1956م، وحاولوا أن يؤسسوا دولة quasi حديثة بها بعض دعائم النظام المستنسخ من الديموقراطية الليبرالية الغربية، على الرغم من القبضة العسكرية الإستعمارية التى جسدها الحاكم العام الجنرال كتشنر ونائبه ونجت، الذى خلفه بعد سنة كحاكم عام حتى 1916، وكافة مديري المديريات ومفتشي المراكز الذين انحدروا من صفوف الجيش. ومن الدعائم المستنسخة من النظام البريطاني الأب كانت الخدمة المدنية ذات الكفاءة العالية والصرامة والضبط والربط، مما أبطل مفعول الفساد المالي والإداري الذى اشتهرت به التركية السابقة، إن لم يكن قد اجتثه تماماً؛ بالإضافة للقضاء المستقل مع وجود المحامين بالمحاكم منذ وقت مبكر. وشيئاً فشيئاً ظهرت الصحف، مثل "صحيفة السودان" 1903، و"حضارة السودان" 1918، ثم "النيل" و"العمق" و"صوت السودان" و"الرأي العام" و"السودان الجديد" منذ بداية الأربعينات، ثم "الصراحة" و"الأيام". وبدأت الحركة النقابية المهنية والعمالية تتبلور منذ قيام نادي الخريجين بأم درمان 1908 إلى أن نشأ مؤتمر الخريجين عام 1938؛ وبدأت الحركة العمالية بهيئة شؤون العمال 1946 وبعدها مباشرة نقابة عمال السكة حديد ثم اتحاد نقابات العمال 1951، وفي نفس تلك الأيام تأسس اتحاد مزارعي الجزيرة، إلخ. ولقد بدأت الأحزاب السياسية في الظهور منذ 1944، بدءً بأحزاب الأشقاء، ثم حزب الأمة 1945، وبعده الجبهة المعادية للإستعمار (الشيوعيون) والحزب الجمهوري الإشتراكي (محمود محمد طه) 1946. ولقد ساهم كل هذا الحراك في رفع معدلات الوعي ومراقبة جهاز الدولة ولجم الممارسات الإفسادية التى كانت سائدة إبان التركية السابقة، ولم تخل منها المهدية، كما ساهم في التربية الوطنية والإنتماء النقابي الحضاري – بعيداً عن القبلية والطائفية والجهوية - والشجاعة في الدفاع عن الحقوق، وترسيخ الإخاء والتضامن comradeship والإنضباط والتنظيم والسير قدماً نحو الممارسة السياسية كاملة الدسم. واشتهر العهد الاستعماري بالحكم الراشد (تقريباً) وبالتنمية الإقتصادية التى كان رمزها الأكبر مشروع الجزيرة غير المسبوق في العالم بأسره، ومصنع الغزل بأنزارا، ومشروع دلتا طوكر، وزراعة القطن قصير التيلة مطرياً بجبال النوبة، والسكة حديد والنقل النهري والتعليم الحديث – كلية غردون 1903، وبخت الرضا 1932، ثم وادي سيدنا وحنتوب 1946. ولقد ساهمت الحركة الوطنية في إزكاء وتدعيم الأحاسيس الوطنية والحماس لخدمة الوطن وترسيخ قيم التجرد والإكتفاء بالدخل المشروع الذى لا يخالف القانون، وكان الموظف (بل والعامل والجندي كذلك) يعيش هانئاً قانعاً بمرتبه، ويربي أنجاله منه لا من أي مصادر سحتية ملتوية أو مشبوهة، ويستطيع أن يمتلك داراً يأوي إليها عندما يتقاعد من الخدمة.
ثم جاءت الأنظمة الوطنية فيما بعد الإستقلال في 1956، مدنية (12 سنة) وعسكرية (52 سنة ومستمرة)، وجلبت معها شيئاً فشيئا القيم المادية التى تركز على الفهم الخاطئ للآية الكريمة (المال والبنون زينة الحية الدنيا)، وبرزت طبقة تجارية كمبرادورية همها التكسب من تجارة الصادر والوارد وتحويل فائض القيمة إلى أرصدة بالعملات الأجنبية خارج الوطن. ولقد تعمق الاستقطاب بين فئة الموسورين المدعومين من قبل جهاز الدولة من جانب، وباقي الكادحين الغارقين في وحل الفقر من الجانب الآخر، خاصة بالمناطق الطرفية المهمشة في الجنوب والغرب والشرق وجنوب النيل الأزرق؛ وبلغت هذه الحالة المزرية أقصى مدى لها إبان الحكم الإسلاموي الجاثم على صدر البلاد منذ ثلاثة عقود.
وكنت قد أعددت إحصائيات عن الفساد والمخالفات المالية والصفقات المضروبة المافيوزية وغير ذلك مما شهدته فترة حكم النظام الرهن، ولكني تركتها جانباً إذ أنها مجرد تكرار لما ظلت تعج به الصحف والأسافير طوال الثلاثة عقود المنصرمة، على الرغم من تكميم الأفواه ومحاربة الصحف عن طريق الرقابة القبلية والبطش بالمعارضين. بيد أني أود أن اكتفي بما قاله الراحل الدكتور حسن الترابي لقناة الجزيرة، والذى ما فتئت القناة تكرره حتى صباح اليوم، وما برح موجوداً حتي هذه اللحظة ضمن فديوهات اليو تيوب:
(ما كادت كوادرنا تستوى على المناصب الدستورية والتنفيذية حتى ولغت في مال السحت حتى الثمالة، وتطاولت في البنيان لدرجة رهيبة، ولو فحصت أياً منهم فإنك سوف تجد أن موارده المشروعة ما كانت تسمح له بتشييد العمارات التى يمتلكها. ولما سأله المذيع عن مسؤوليته في هذا الصدد كزعيم مؤسس للحركة وعراب آمر وناه بالنسبة للنظام، أجاب بأنهم ما كانوا يتوقعون أنهم سوف يحكمون البلاد، ولم يعدوا كوادرهم لكيفية إدارة السلطان، فذلك لم يكن ضمن "مقرراتهم"، هكذا...هي النفس البشرية، تجد السلطة فترتع في ريعها كيفما تشاء.)
ولا يخفى على أحد المنطق المعوج والمخاتل لقائد الحركة الإسلامية السودانية، الذى قد تجاهل الحقائق التالية:
1. هو شخصياً وزعماء الإتجاه الإسلامي برمتهم كانوا قد بدأوا التدريب والتمكين المالي والإقتصادي منذ أيام النميري، فيما بعد مصالحة عام 1977، عندما استقدموا بنك فيصل وبنك إسلامي آخر، وفتحوا أبواب القروض الحسنة والميسرة لكوادرهم وتمويل المشاريع المشبوهة – مثل تخزين وتهريب الذرة للدول المجاورة - التى أضرت بالإقتصاد وقادت لمجاعة 1983/1984 في دارفور وشمال كردفان، وأنه شخصياً بني قصره بالمنشية من هذه المصادر، وأثرى كماأثرى أبناؤه وهم ما زالوا في شرخ الشباب، بل عرفوا بممارسات الرفاهية الباشوية مثل إقتناء خيول السباق المستوردة من دبي.
2. الترابي شخصياً من أثرياء النظام منذ أول أيامه، ولقد حكي لنا المحامي الكويتي صاحب المكتب الفرعي بأبو ظبي أن مكتبه في الخرطوم هو الذى أبرم صفقة المزرعة الكويتية لتربية الدواجن بسوبا التى اشتراها الترابي في مطلع التسعينات بمليوني دولار، ولقد تم تحويل المبلغ للمحامي في الكويت من مصرف موجود بلندن. ولقد استخدم الترابي نفوذه لتكون المزرعة من نصيبه بذلك الثمن البخس بينما كانت قيمتها خمسة أضعاف ذلك المبلغ على الأقل.
3. عندما أدلي الترابي بهذه التصريحات كان خارج السلطة، جالساً في بيته بالمنشية بعد ثلاثة سنوات بسجون البشير؛ فهي شهادة مجروحة to say the least.

إن المأساة ليست في الفساد المالي الذى ولغت فيه شراذم الإخوان المسلمين الجاثمة على صدر البلاد منذ 1989، ولكن في صمت الشعب السوداني بعدما كل ما استثمره فيه الإنجليز من مؤسسية وتعليم وتجربة نقابية وحزبية ومعرفة بالقوانين والدساتير المتحضرة، وبعد كل نضالات ما بعد الاستقلال – ضد الطغمة العبودية، ثم النميرية، وفلول الأحزاب التى حاولت أن تنتصر للطبقة الكمبرادورية الصاعدة على حساب الكادحين، والتى استرسلت في تهميش الجنوب والغرب ولم تأت ببرنامج لرتق اللحمة الوطنية وإنصاف المناطق المهمشة. ولشد ما استغربت من ذلك المبلغ – 120 مليون دولار – الذى وجد في حافلة مخزنة داحل حوش بقرية في أطراف الخرطوم، وقالت لنا الصحف بالإجماع أن ذلك المبلغ خاص بعبد الغفار الشريف الموقوف رهن التحقيق، كما أخبرتنا الصحف في نفس اليوم إن المتهم قد اعترف بملكيته لمائة سيارة وأكثر من سبعين قطعة أرض ومزرعة بالعاصمة المثلثة. وكان هذا المبلغ كافياً لدفع فاتورة المواد البترولية التى قال وزير المالية المبعد أنها كانت في عرض 107 مليون دولار. ثم شيئاً فشيئاً توارى عبد الغفار الشريف عن شاشات الأخبار وصفحات الصحف ومجالس الأنس؛ وتمت إعادته للقوات النظامية، وحوكم بسبع سنوات، ولم يرد أي ذكر لتلك المستمسكات أو الدولارات التى وجدت داخل سيارة نقل.
وفي حقيقة الأمر، نوعية الفساد المذكور أعلاه سوف يستمر طالما ظل مثل هذا النظام متحكماً في أمر البلاد، مثله مثل نظام موقابي في زمبابوي: قبضة أمنية محكمة، وبطش مستمر بالخصوم السياسيين، وتزوير لإرادة الحركة النقابية (التى دجنها وجلس فوقها طبيب أسنان من كوادر الإسلاميين إسمه غندور، كوفئ بتعيينه وزيراً للخارجية بعد ذلك، ثم أحيل للتقاعد ليستمتع باستثماراته وجامعاته ومستشفياته ومعامله وقصوره)، واستنصار بالرهط والأقارب كما فعل الخليفة عبد الله.
وكما جلس موقابي حتى جاوز التسعين، كما جلس بوتفليقة الذي يحكم بلاده من السرير الأبيض منذ عدة سنوات، فإن البلاد التى تستذل نفسها وتركن للدعة وموت الهمة، يحكمها أشخاص سايكوباثيون معطوبون، وفي عالم اليوم المعقد والمتشابك، سوف تجد مثل هذه الأنظمة الشيطانية من يصيد في الماء العكر، مثل دولة الصين التى تدعي أنها غير معنية بالسياسة الداخلية للدول المتلقية لدعمها وقروضها. وهكذا، فقد وجدت الصين ضالتها في النظام السوداني الذي يبحث عن كفيل، بينما تبحث الصين عن مساحات معتبرة بوسط القارة السوداء، "تتوهط" عليها وتبيض وتفرخ ثم ترسل إشعاع نفوذها لباقي أركان القارة، لتحل مكان الدول الغربية – خاصة الولايات المتحدة - التى كانت موجودة هاهنا منذ مطلع القرن التاس عشر. إن الصين تتطلع لقيادة العالم إقتصادياً، ومن ثم سياسياً، ومن يعينها على ذلك مثل الأنظمة المفلسة مادياً وأدبياً، وعلى رأسها زمبابوي والسودان؟ لقد بلغت الاستثمارات الصينية في السودان 3 مليار دولار منذ عام 1999، وهي أكبر مساهم في الشركات الوطنية السودانية العاملة في مجال النفط – تمتلك 65 % من أسهمها؛ وهي الممول الرئيسي للجيش والمليشيات الموالية بالأسلحة والعتاد. ولقد سمعتم بالوديعة التى تكفلت بها الصين مؤخرا – أظنها ملياري دولار، ومثلها قرضاً. وباختصار، كلما دخل نظام الإخوانجية إلى غرفة الإنعاش، كلما هرعت الصين لضخ دم جديد في شراييينه. وعندما نلتفت لبلادنا ذات يوم سنجد أنها قد تورطت في التزامات مالية لا تكفي ثلاثة أجيال قادمة لتسويتها والتخلص من أعبائها. إنه نظام مدمر وفاسد ومفسد للبيئة وللحياة بأثر رجعي ومستقبلي.
إن الدول الناجحة من حولنا، رواندا وكينيا وإثيوبيا وغانا، بالإضافة لدول البريكس – جنوب إفريقيا والبرازيل والهند، تقدمت بخطوات واسعة نحو التقدم الحضاري عن طريق النمو الإقتصادي المطرد، من حسن لأحسن، وبالإعتماد على الذات، في بيئة من الحرية وكفالة حقوق الإنسان والقضاء النزيه. وبدون ذلك لن يتوقف الفساد، وسوف تتكاثر الأزمات الإقتصادية وكل دواعي التخلف من ترد لصحة البيئة وأوبئة فتاكة. لا مفر من العودة للنقابات الحرة المستقلة وجمعيات النفع العام والقضاء النزيه المحايد والصحافة غير المرتشية والسلطة التشريعية المنتخبة تحت أجواء الحرية والشفافية، وجعل الأمر شورى بين أبناء الوطن كلهم، وليس الإخوان المسلمين وحدهم المنضوين تحت الحزب الحاكم - المؤتمر الوطني.
باختصار، لا حاضر ولا مستقبل للسودان إلا بذهاب النظام الراهن وإحلاله بديمقراطية كاملة الدسم.
والسلام.
الفاضل عباس محمد علي
26 سبتمبر 2018


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء