الكورونا : وباء جائح وخيال جامح
(1)
جاء في لسان العرب أن الجائحة مشتقة من جَحَا ، وجَحا بالمكان أي أقام به، والجائح هو الجراد، ويقال جاحَ الشيء أي استأصله، وأجاحتهم واجتاحتهم أي استأصلت أشياءهم، والجائحة للشـدّة المجتاحة (للشيء أو للمال). ذلك في اللغة ، ولكن جائحة الكورونا فهي هذا الوباء المنتشر دون توقف ودون كوابح. فهو مع شدة اجتياحه الأرض، لكن يبقى هنالك أمران استعصيا على الناس إلى هذه الساعة.
أول الأمرين هو أنّ أصل هذا الوباء ومصدره الأول، ظلّ لغزاً يتجاذبه المتلاومون من كبار زعماء العالم. ذلك كبير الإدارة الأمريكية ترامب، يزأر في وجه زعيم الدولة الأكثر سكانا في العالم ، يتهمها بإخفاء سر بداية وباء الكورونا عندهم في مدينة "ووهان" الصينية. ثم لا تجد الصين ما تدفع به ذلك الاتهام، إلا بالطلب من منظمة الصحة العالمية لأن ترسل علماءها للتقصّي والتحقيق ، إن كان هنالك ما يثبت التهمة عليها. غير أن ذلك يحتاج لتحديد بداية زمنية، ليس الآن لأحدٍ أن يقول متى تنتهى هذه الجائحة، أو متى يتيسر أمر ذلك التحقيق المطلوب.
ثاني الأمرين هو عجز العلماء وأهل الاختصاص في كل معامل ومختبرات الغرب والشرق ، عن التوصل إلى لقاح ينهي هذا الوباء ويستأصله في انحاء الأرض. ومن وصل منهم أو كاد إلى الإمساك بخيط يفضي إلى صنع لقاح فعال، فإنه يجزم أن ذلك قد يستغرق أشهرا طوالا.
(2)
يفتح هذان الأمران أبواباً لتخرّسات تصدر من هنا أو هناك، ولكنها تبقى محض تخرّسات. ذلك الغموض الذي نتج عن عجز ظاهر، يغري بالجنوح للتفكير الغرائبي ، المفضي لطرائق للتفسير قد تجافي العلم تجافٍ بعيد، أوتدنو من الخيال دنوّاً جامحا. . ثمّة كاتبة أمريكية هي في الأصل عالمة إجتماع، ألفت كتاباً ممتعاً في شكل تقرير هو كالرواية ، عن جماعة من العلماء كلفهم زعماء كبار في العالم لدراسة أوضاع العالم وتحليل المخاطر المحدقة به ، ثم عليهم اقتراح الحلول الناجعة لتجاوز تلك الخاطر والألفية الثالثة على الأبواب. ذلك التقرير السري وتلكم الجماعة جميعها من خيال الكاتبة . إسمها سوزان جورج وهي من مواليد 1934م وعنوان الكتاب "تقرير لوقانو" وترجمه إلى العربية الكاتب السوري محمد مستجيرمصطفى بعنوان "مؤامرة الغرب الكبرى"، وصدر الكتاب في عام 1999، أي قبل نحو عقدين من الزمان. السيدة جورج تحمل جنسيتين أمريكيو و فرنسية، وقد تخصصت في السياسة والاجتماع وجل كتاباتها تدور حول العدالة غياب الاجتماعية على المستوى العالمي وتحديدا إسنهداف صناعة الفقر في العالم الثالث ونقص التنمية والديون، وبقية ملامح العالم الرأسمالي الجائر. تشغل الناشطة سوزان جورج حاليا منصب رئيس معهد المختص بالدراسات العابرة للقوميات في هولندا، وتعد أشرس المنتقدين لسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، وهما من منشئات اتفاقية "بريتون وودز" التي اعتمدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية لتنظيم الاقتصاد العالمي. .
(3)
نظرتْ عالمة السياسة والاجتماع إلى أحوال العالم وقدمتْ تحليلاً عن المخاطر التي يتعرّض لها العالم ، والتي أجملتها في تناقص الموارد الطبيعية والإستهلاك غير المرشد ، وتدهور البيئة الطبيعية ، والتباين بين أنماط الإستهلاك والانتاج بين عالم الفقراء وعالم الأغنياء ، أو بصريح العبارة التناقض المفجع بين الشمال والجنوب. المسئولية في ذلك تقع على نظام عالمي يفتقر إلى العدالة لث سكانه يعيشون حياة من الرفاهية وبقية الثلثين في فقر مدقع. . الموارد أكثرها عند الفقراء، وتصنيعها وانتاجها عند الأثرياء.
من ناحية أخرى ترى سوزان جورج أن تزايد السكان وفي القرن الحادي والعشرين ، سيشكل تحدياً متعاظما ، وأن عدد سكان العالم سيتضاعف من 4 مليارات عام 2000 ليصل إلى ثمانية مليارات في عام 2020م. لا يستقيم الوضع إلا بالتخلص من المليارات الأربعة يرى العلماء المميزون في العالم والمكلفون بوضع تقرير "لوقارنو" أن الطرف المتحكم في العالم ليس أمامه إلا السعي لاتباع إجراءات علاجية وأخرى وقائية، وليس من دافع أخلاقي يمنع ذلك طالما أن الهدف هو انقاذ العالم عبر إنقاص سكانه. .
جاء في ذلك التقرير أن اشعال الحروبات الأهلية والصراعات الإثنية في البلدان الفقيرة، وبيع الأسلحة الرخيصة الثمن لها، هي بعض هذه الإجراءات العلاجية لحل معضلة تزايد السكان بغير كوابح . أما الإجراءات الوقائية فلربما تبرز الحاجة لاحياء الأمراض والأوبئة القديمة التي كانت شائعة بين الفقراء . ستبرز في النهاية "ضرورة الموت" كعامل مطلوب لتحقيق التوازن وإنقاص سكان الأرض إلى النصف، قبل حلول العقد الثالث في الألفية الثالثة.
(4)
برغم الصورة الكئيبة التي رسمتها الناشطة الأكاديمية سوزان جورج (86عاما)، فإن متابعي طروحاتها يبدون إعجابا بعمقها وصدقيتها ، لكنهم يتساءلون على الدوام حول من هم جمهورها الذي تخاطبه هذه السيدة. لقد وضعت كتابها المثير للجدل "تقرير لوقارنو" على ألسنة علماء من صنع خيالها ، فيصعب أن يدرك القاريء إن كانت تخاطب زعماء سياسيين من المتحكمين في مصائر العالم ، أو سواهم من المتحكمين في إقتصاديات العالم ، أم لا هؤلاء ولا أولئك بل هي تطرح أفكارها للتأثير على الرأي العام لدى الشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها ؟
أوردت الدكتورة سوزان جورج تحليلاً رصيناً في كتابها "تقرير لوقارنو" ، له أسانيده ومرجعياته في إحصائيات حقيقية ودقيقة، صادرة من هيئات ووكالات الأمم المتحدة الرسمية، ومن مراكز دراسات وبحوث ذات أهلية ومصداقية.
(5)
لعلك أيها القاريء الكريم تقف مثلي وقفة جادة في الطرح الذي قدمته هذه السيدة ، ونشرته قبل نحو عقدين من الزمان . لقد ألمحت برؤية بنتها على تلكم الإحصائيات الدقيقة ، ولعل أهمها ما اتصل بالانفجار السكاني والأجندا المطلوبة لتحقيق عدالة سياسية واقتصادية وإجتماعية . طرحٌ جامح دون شك قد يفضي لانقاذ الغرب والعالم الرأسمالي من انهيارات محدقة ، لكنه يلمح بوضوح إلى ما ينطوي عليه ذلك من تضحيات بقيم أخلاقية وإنسانية لا تقبل التغييب. .
يقول المثل كذبَ المنجمون ولو صدقوا. هذه المرّة ، وجائحة الكورونا تمسك بخناق البشرية ، أقول : كذب العلماءُ وإن صدقوا. . !
jamalim@yahoo.com