الإمام الصادق المهدي رحمه الله كان أول من أدخل مفردة الدخان في القاموس السياسي السوداني، لذا اعتقدنا جازمين بأن ابنته المنصورة تجيد الدخان، غير أنها في القاهرة لم تحرق نفسها فقط بل حرقت ملايين الأفدنة من الأراضي السودانية على الملأ مباشرة وجعلتها مشاعة لكل من أراد أن يستوطن أو يقضم جزء من أراضي السودان المهملة في عهد حكومة حمدوك وجنرالات اللجنة الأمنية. ولربما لأنها لم تقرأ المادية التاريخية، ولا علم لها بالمشاعة الأولى فقد افترضت أن السودان ما زال في مرحلة تلك المشاعة ولم يدخل عالم سايكس بيكو وميثاق الأمم المتحدة الذي حدد ورسم حدود الدول ومنح أهلها حق السيادة عليها وعدم التعدي عليها من أي كائن كان. ظننا إثما بأن معسكر الوزراء الذي التأم في ضاحية سوبا لمدة ثلاثة أياما حسوما بلياليها كان القصد منه تنوير وتوعية الوزراء الجُدد بمهام وظائفهم، علما بأن معظمهم لم يتولى أي منصب حكومي من قبل، غير أن الجبل تمخض وولد فأرا سمي ببرنامج، لم يتعدى أفكارا مرسلة يمكن لأي سابل طريق يقرأ الصحف اليومية أن يأتي بمثله. وبما أننا لم نسمع من قبل بوزراء في مكان ما في العالم قد دخلوا معسكر في فندق أو حتى في منتجع (كامب ديفيد) فقد أيقنا بأن من أتى بهذه الفكرة العبقرية لا بد أن يكون من أنصار كرة القدم السودانية البائدة من عهد نوح، وربما كان قريب الصلة بجمال الوالي أو الكاردينال أو سوداكال أو هشام السوباط... لذا قلنا ربما جاءنا وزراء حمدوك بما عجز عنه الآخرون. فالله يضع سره في أضعف خلقه. في الغالب الأعم يكون الشخص المرشح لتولي منصب وزاري على قدر من الإلمام بابجديات مهام المنصب، وبالتالي لديه القدرة على رسم خطة عمل وتحديد اطارها الزمني مستعينا بموظفيه أو أقرانه أو من تولى المنصب قبله أو من أهل الخبرة في الشأن. وقد أبدع العقل الإداري ما أصبح يٌعرف بالرؤية والرسالة والهدفvision, mission & objective يتم على نسقها رسم الخطة على المدى القصير والمتوسط وما بعد ذلك. وقد عرف السودانيون سابقا ما يٌعرف بالحاضنة المهنية للوزراء التي كانت تتشكل تلقائيا في أماكن تجمع المهنيين في أنديتهم في جامعة الخرطوم ونادي الخريجين والجمعية البيطرية والجمعية الطبية، ودار نقابة المحامين بل وفي نادي الخرطوم، وهي الأماكن التي يرتادها أيضا الوزراء في الأمسيات لأنهم في الغالب يكونون جزءا منها. هنا يسمع الوزير من الأراء ما يساعده في أداء مهامه ويستمع أيضا للنقد الذي لا يسمعه في العادة من مرؤوسيه لخوفهم من غضبه، لذا لم يكن الأمر يحتاج لخلوة جماعية في فندق بل يحتاج لوزير مجلس وزراء في قامة محمد الحسن أحمد الحاج "سكوب" وزير شؤون مجلس الوزراء على عهد النميري، في دقته وانضباطه وعلمه ومهنيته العالية وشخصيته التي تجبرك على احترامه. فقد كان الرجل في البدء معلما. خطة الوزير بعد مناقشتها مع أهل الخبرة والدراية والمعرفة يتم تقديمها لمجلس الوزراء في اجتماعه العادي الذي يمكن أن يكون يوميا في مقره حتى تجاز كل خطط الوزراء. هذه الخطط مجتمعه هو ما يخرج به مجلس الوزراء من خطة عمل شاملة يستطيع أي وزير بعد ذلك أن يدافع عنها لأنه كان جزء من صانعيها. في الديمقراطيات الغربية يسأل الوزراء ورئيسهم عن الخطة التي أعلنوها أمام البرلمان وقت توليهم مناصبهم وعن ما أنجزوه منها في الفترة الزمنية المحددة. فاذا اردنا أن نسأل الوزراء الذين كانوا في المعسكر، عن ماذا نسألهم؟ وهذه الجليطة التي أتت بها وزيرة الخارجة من هو المسؤول عنها، وهي مسألة تهم الأمن القومي السوداني؟ هل هو رئيس الوزراء أم قحت أم المجلس السيادي أم الحركات المسلحة أم من؟ عندما تعتبر الوزيرة أن السودان مشاعة يمكن أن يستوطنه أي من مواطني دول الجوار، إذن لماذا حركنا الجيوش للفشقة؟ ولماذا جددنا الطلب للأمم المتحدة بخصوص حلايب طالما هي مشاعة؟ لا أشك لحظة أن جد الوزيرة السيد عبد الرحمن المهدي بما حدثنا عنه التاريخ من رفضه للوحدة مع مصر، قد تململ في مرقده مما قالته حفيدته. لقد كانت المحاصصة خطر حقيقيا على السودان لأنها جاءتنا بالنطيحة والمتردية والموقوذة وتركت رجال في قامة فاروق عبد الرحمن عيسى، وإبراهيم طه ايوب ومحمد المكي ابراهيم، والسفير نور الدين ساتي وغيرهم كُثر ممن خبروا دروب وشعاب الدبلوماسية حتى اصبحوا لا ينطقون إلا بالحديث الدبلوماسي. هذه الوزارة تولاها رجال فطاحل ليس أقلهم احمد خير والمحجوب ومنصور خالد، تركوا بصمات لنا ولأجيال قادمة نستفيد منها، هل رجعت الوزيرة لما كتبه هؤلاء الرجال في مذكراتهم أو في أضابير وزارة الخارجية؟ هل نصحها اجتماع المعسكر بما يجب قوله أو السكوت عنه، وهم يعرفون أنها ذاهبة لمصر؟ ألم يتم تحذيرها من كلام الونسات والكلام العابر للأوطان؟ حقيقة أن مأساتنا أكبر مما يتصوره العقل..