المثقفين وسقوط الأقنعة

 


 

 

عاطف عبدالله
08/05/2024

كلّما أسعى له في هذا المقال هو تبيان الحقيقة، لأن الحقيقة هي الضوء الذي يهدد عرش خفافيش الظلام، فأشد ما يخاف الكذاب هو نور الحقيقة، اسوقها هنا لأذكر أصحاب الذاكرة السمكية، سريعو النسيان، وأولئك الذين تم غسل أدمغتهم بالأكاذيب وإعلام التضليل، والمخدرين اللائي يتم التلاعب بهم والدفع بهم في أتون الاستعداء والعداء لمن يقف معهم ويناصر قضاياهم ويضحي بالغالي والنفيس من أجلهم.
تحدثت في مقال سابق عن سقوط المثقفاتية، وكيف أن هناك من باع قناعاته وما له من معرفة وثقافة لمن يدفع أكثر فصار يتلون كالحرباء، يجعل من الباطل حقاً ويحول الحق إلى باطل، بما لهم من أساليب ومكر في الكتابة، يصطحبون ما متفق عليه من أفكار ومعتقدات وأهداف ويضيفوا عليها كلمة أو جملة، تغير المعنى 190 درجة، يستشهدون بالأطهار والشهداء الخالدون في وجدان الأمة، الذين لا يمكنهم الرد عليهم، ليثبتوا خطلهم، وينشروا ضلالتهم، أنهم يكتبون ما يمليه عليهم المشتري، أي كان، يمجدون الثورة ويكفرون رموزها، يرفعون شعاراتها و يبخسون القوى السياسية التي تطالب بها، يعزون انتكاسات الثورة وفشلها في تحقيق أهدافها إلى المكون المدني الذي لا حول له ولا قوة، فنجد الهجوم على حمدوك وقحط وتقدم، مستقلين أن معظم الشباب المنتفض تفتح وعيه في ظل حكم الإنقاذ، ولم يتآلف سوى مع حكم الحزب الواحد ... يطالب بالديمقراطية ولا يعلم بأن الديمقراطية تعني التعددية والحزبية وأنه لا ديمقراطية دون أحزاب وطنية، حرة، مستقلة، مولودة من رحم الحركة الوطنية، والصراع الطبقي، وليست أحزاب متوالية مشوهة نشأت في أحضان الأجهزة الأمنية والمخابرات.
أحزاب تحالف الحرية والتغيير، التي هي أحزاب السودان، شئنا أم أبينا، من دونها لا ديمقراطية، ولا ديمقراطية، تعني لا حرية ولا سلام ولا عدالة، وحالة أحزابنا تفضح الصورة العامة لحال البلد بعد الثورة، تلك الأحزاب، وعلى الرغم من استهدافها طوال ثلاث عقود من حكم دولة الفساد والاستبداد، وعلى الرغم مما تعانيه من انقسامات واختراقات، وقيادات أكل الدهر عليها وشرب، معظمهم تم تتدجينه، مع كل ذلك، ظلت صامدة في قواعدها تقاتل حتى تصل بالسفينة المعطوبة إلى بر الأمان، تلك السفينة التي ترجل البعض منها وهي تصارع عباب البحر، مهرولا مهزوماً، أو سابحا أو منتحراً لا فرق ... إلا أن معظمهم ظل ممسكين بالدفة على الرغْم مما يتعرضوا له من هجوم وشيطنة وعسف.
إن معاداة تلك الأحزاب، خاصة من قبل شباب لجان المقاومة لا يمثل حلّاً، وهو بأي حال نشاط يخدم أجندة الفلول والإسلامويين المعادين، بطبيعة تكوينهم الثقافي والأيديولوجي، للديمقراطية والتعددية، والحل الوحيد، في رأيي هو أن ينخرطوا في تلك الأحزاب حسب ما يناسبهم من طرح وفكر وبرنامج ويعملوا من داخلها لتصحيح سياساتها وممارسة الديمقراطية في أروقتها حتى ويأتوا بالقيادات التي تلبي تطلعاتهم في سودان حر معافي، له القدرة على استغلال موارده الاستغلال الأسلم، وتوزيع خيراته بين جميع مكوناته الإثنية والثقافية بعدالة وإنصاف.
من غير المنصف أن نشمل كل من يعادي الأحزاب السودانية في تحالف الحرية والتغيير أو تقدم ونوصمه بالخيانة، وأنا هنا لا زلت أتحدث عن المثقفين، الأدباء والشعراء والمفكرين من الكتاب، هناك مثقفين لهم موقف من قحت وتقدم وهم ليس ممن تنطبق عليهم التهمة ببيع ضمائرهم وتسخير أقلامهم وثقافتهم وشهرتهم لمن يدفع أولئك معرفون لكل سابلة الساحة السياسية السودانية، أكبر من ذلك، ولكن، بوعي أو دون وعي، يخدمون أجندة خصومهم الحقيقيين، ويعملون على تحطيم المركب، وهي في منتصف البحر، بدلاً من المساعدة على إصلاحها وترميمها لتصل بالجميع إلى بر الأمان ومن ثم العمل على تغييرها بعد ذلك بالديمقراطية وصندوق الانتخابات الذي هو خيارها الوحيد.
"قحت" أو "تقدم" ليسوا منزلون، أو فوق النقد، فهم أجسام سياسية تمثل معظم الخريطة الجيوسياسية السودانية التي تنادت قبل إسقاط البشير وشكلت فيما بينها أكبر تحالف سياسي في تاريخ السودان الحديث، ووقعت على إعلان الحرية والتغيير، وكانت في البدء مشكلة من المكونات السياسية التالية: تجمع المهنيين، الجبهة الثورية، وتحالف قوى الإجماع الوطني وكتلة الاتحادي المعارض وقوى نداء السودان، وهي كما نرى تحالف من عدة تحالفات ضمت منظمات وأحزاب وحركات تمثل كافة ألوان الطيف السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أبرزها حزب الأمة القومي، والاتحادي والشيوعي والبعثي والناصري وحزب المؤتمر السوداني، بالإضافة إلى تجمع المهنيين السودانيين، الذي يضم العديد من الأكاديميين من مهندسين وأطباء وأساتذة جامعات، والذي تشكل ليمثل "خيرة أبناء المجتمع لإيجاد بديل للنقابات الرسمية التي كان يسيطر عليها النظام المدحور، وشكل أفضل قيادة للشارع، بتكتيك عال، ووعي ثوري يندر تكراره، سعياً لتغيير النظام السياسي بوسائل سلمية.
وقد تشكل ذلك الطيف السياسي من الحركات والأحزاب ذات الأيديولوجيات المختلفة، يمينية ويسارية، قومية، ووطنية، شيوعية ورأسمالية، مسلحة وسلمية، وغير ذلك بهدف تحقيق أهداف سامية أبرزها: الحوار والحل السياسي الشامل، وتأسيس دولة المواطنة والديمقراطية، وحلّ الأزمة السودانية حلا جذريا مستداما عن طريق عقد مؤتمر دستوري.
تلك هي مكونات قحت، التي يشهر عليها الفلول أسنة رماح هذه الحرب العبثية، ويتم على لسان بعض المثقفين شيطنتها، وتعمل الآلة الإعلامية الجهنمية الإسلاموية على اختصارها في عدة أفراد منهم عمر الدقير، ورباح الصادق، وخالد سلك، وياسر عرمان، وحمدوك، وتصورهم للرأي العام، كأنهم كائن واحد، وليسوا يمثلون كيانات ذات إيديولوجيات وطوائف مختلفة ومصالح وطبقات متناحرة، لكن الآلة الإعلامية للكيزان تأخذ الجزء وترمي به الكل، وتوجز الكل في ذلك الواحد، تصوير قحت كحزب سياسي يمثل الحاضنة السياسية للدعم السريع، تسهيلاً لدمغه بالخيانة والعمالة واتهامه بالارتماء في أحضان أعداء الوطن والسفارات الأجنبية تمهيداً لتوجيه التهم الجزافية إليه، ومن ثم محاكمته، والتخلص منه نهائياً على أن يكون عظة وعبرة لكل من تسوّل له نفسه بالوقوف في وجه طاغوت دولة الفساد والاستبداد، بعد استرداد عرشها.
هناك مثقفون لهم موقف سلبي تجاه تحالف "تقدم"، وهذا أمر مشروع، بل ومطلوب، فكل من يتصدر للعمل العام يدرك أن هناك رقابة شعبية، حرة، ومستقلة، قادرة أن تعبر عن مواقفها، و"تقدم" في حاجة للنقد والتوجيه، فهم، سواء كأحزاب، أو منظمات مجتمع مدني، أو نشطاء سياسيين، ليسوا معصومين من الخطأ، والميول والهوى، فهم ليسوا على قلب رجل واحد، لأنهم يمثلون أيديولوجيات ومصالح طبقية مختلفة.
تلك المواقف السلبية مبررة، لكن يجب أن تتم بوعي، وألا تخدم أجندة القوى المعادية للثورة. أولئك المثقفين لا يمكن أن نوصمهم بالخيانة، وبيع شرف الكلمة التي اؤتمنوا عليها لمجرد نقدهم أو حتى رفضهم ومعاداتهم لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم" التي تتحرك على كافة الأصعدة، داخليا وخارجيا، لحشد الدعم لوقف الحرب ... يتهمها الجيش (المؤدلج) والفلول بأنها واجهة للدعم السريع وهو ما ينفيه الواقع، والحقيقة، لكن المتسبب لا تعجزه الذريعة، فهم يتنصلون من السلام، وتسديد فاتورته، لا أكثر.
أن يكون للمثقفين موقف ضد الدعم السريع، فهذا مفهوم ومبرر، خاصة بعد الانتهاكات الجسيمة التي قاموا بها خلال هذه الحرب العبثية، من اغتصاب، وقتل، وحرق، وسلب، وتدمير للمدن والقرى التي اكتسحتها، لكن موقفهم من تقدم وقحت يحتاج إلى توضيح أكثر، أدرك أن من بينهم أقلام ليست للبيع، منهم أمير الرواية السودانية، وأيقونتها عبد العزيز بركة ساكن، الذي له موقف أعلنه منذ بداية الحرب وهو انحيازه لطرف الجيش، ليس لأنه الخيار الأمثل، بل فقط لأن انتصار الطرف الثاني (الدعم السريع) يعني محو السودان الذي نعرفه الآن من الخارطة، فالدعم السريع، حسبما يرى بركة ساكن، يمثلون الخطر الحقيقي الذي يجب أن تتحالف مع الشيطان لدحره.
أنا على ثقة بأن بركة ساكن يعلم جيداً بأن الجماعات الإسلاموية لا تقل خطراً عن الجنجويد فهم يفوقون سوء الظن العريض، فهم من خطط وربى وكبر الدعم السريع، ولهم مليشيات ودواعش تتبعهم، لا تقل فظاعة عن الدعم السريع، وهم من خططوا ودبروا وصنعوا وكبروا كل هذا المسوخ التي تعج بها الساحة السياسية السودانية، من مليشيات ظل إلى مليشيات شمس، من الرويبضات التوافه، من (الخبراء الإستراطيجيون) إلى ووعاظ السلاطين، مانحي وصفات القتل والذبح والتنكيل والاغتصاب، مفتيي هذا الزمن الخدّعات، الذي يصدق فيه الكاذب، ويكذب فيه الصادق، ويؤتمن فيه الخائن، ويُخوّن فيه الأمين.
كما ذكرت فإن قحت، أو تقدم، أو أي من مكونات المجتمع المدني، ليسوا فوق النقد، لكن التماهي مع شعارات الإسلامويين وتطابق المواقف معهم، هو الشيء الذي يجب أن يوضع في الحسبان، فبركة ساكن والإسلامويين خطان متوازيان لا يلتقيان، لا هم يطيقونه، لا هو يطيقهم، لكم دينكم ولي دين، وكذلك المثقفين الماركسيين والشيوعيين وكافة أهل اليسار، يجب أن يتم تصحيح الشعارات والمواقف التي تخدم خصومهم الحقيقيين، وأن يكون نقدهم لقحت موضوعي، وليعلموا، شاؤوا أم أبو، أن تحالف قحت لن ينصلح حاله بمواقفهم الحالية منه، بل سيسوء ويتردى ويتشظى أكثر، ويجب عليهم الانخراط فيها، وفي أحزابها ومكوناتها، والعمل وفق القاعدة الماركسية، التي تنادي بالاهتمام بالأساسيات ومن ثم الثانويات، والأساسي الآن وقف الحرب، ومحاكمة مشعليها، ونزع فتيل الحرب الأهلية القبلية والجهوية التي نذرت بوادرها، ومن ثم الجلوس للتفاكر كيف يحكم السودان.

atifgassim@gmail.com

 

آراء