المجتمع الدولي، كذبة الايديولوجيا وايديولوجيا الكذب (1/2)

 


 

 

يكثر الحديث عن المجتمع الدولي في خطاب قوى الحرية والتغيير (قحت)، وانضمت إليهم مجموعات اخرى - في تسويق مشروع التسوية الخائب- مع قتلة اللجنة الامنية للنظام الدكتاتور المخلوع الساقط عمر البشير. ويُطرَح تدخل المجتمع الدولي كفعلٍ للخير العميم، ينبع من احاسيس صديقة ومتعاطفة مع النزوع نحو الديمقراطية والدولة المدنية، الذي تنادى بها الثورة المجيدة؛ وتهدف لإزالة العوائق المتمثلة فيما يسمى بالأزمة السياسية... الخ
في خطاب قحت والأخرين، يترك تحديد المجتمع الدولي على العواهن. وهي عواهن تعفيهم من تحديد دول بعينها نشطت وبتركيز، تواقت مع نهوض حركة المعارضة الباسلة، تلك الحركة التي جرت في سياق مستقر ومتطور، تقًوى وشدَ بأسه ليسقط نظام الكيزان الفاشي، وينفتح الباب واسعا لتطور البلد في درب الحكم المدني الديمقراطي المضاء، يعد بالتطور الاقتصادي السياسي والاجتماعي والثقافي ... الخ.
نشطت تلك الدول المحددة، دول الترويكا (أمريكا وبريطانيا والنرويج، يضاف إليها ما يسمى بالأصدقاء، وهم الامارات والسعودية، يضاف إليهم بشكل مستقر فرنسا والمانيا، وغير مستقر دولا اخرى مثل كندا وسويسرا، ولحق بها بيرتيز بعد سقوط الدكتاتور، ودخوله للسودان، لينضم إلى مشروع الترويكا، الذي تعدل قليلا ليستوعب سقوط الدكتاتور، فقد استهدفه اصلا مشروع الهبوط الناعم، وينطلق لمشروع التسوية، ثم لتتحدد ملامحه اخيرا في وثيقة الاتفاق الاطارى وما ارتبط بها من اتفاقات متواترة.
الترويكا ليست المجتمع الدولي، حتى وبعد اضافة فولكر بيرتيز، فهي، ولاتزال - ليست المجتمع الدولي. كما أن مباركة الاتحاد الأوربي للاطارى، لن يجعل منه حصيلة اشتراك " المجتمع الدولي" في انتاجه، حتى عندما تشترك في مباركته اليابان وكوريا الجنوبية، فكل الذي تكلفه ذلك – عند هذه الاخيرة- خطابا معتادا ماسخا في لغته ومراميه، اصدره مكتب صغير مرتبط بالشئون الافريقية لوزارة الخارجية. فهذا " المجتمع الدولي" المتكرر في خطاب "قحت" والأخرين لا يضم الصين مثلا، ولا روسيا، ولا سنغافورا، ولا البرازيل، ولا ساحل العاج، ولا الهند، لا السنغال... الخ ...الخ. انه الترويكا، زائدا من يسمون بالأصدقاء، يحضرون اجتماعا سنويا عندما تتيسر ظروفهم. انها الترويكا اذن، بعض جمع من الدول الإمبريالية، ضمت إليها إمبريالية استبدالية تعمل في محيطها الإقليمي كالإمارات والسعودية.
مفهوم المجتمع الدولي:
لنتناول الان مفهوم المجتمع الدولي، ونتعرف سريعا على تعقيده وسيرة تغيره. بعض التعريفات الممكنة المتداولة للمجتمع الدولي تُحدد انه اجتماع مجموعة من الدول (كما في حالة منظمة الامم المتحدة)، او مجموعة من الدول الخائضة في قضايا العلاقات الدولية والتعاون الدولي/ الإقليمي (مثل مجموعة الدول الاوربية، البركس، الاتحاد الأفريقي، رابطة جنوب اسيا للتعاون الإقليمي، اسيان، مجموعة دول الأنديز، التحالف البوليفاري للأميركتين.. الخ) ترتبط بشكل مؤسسي لخدمة اهداف تحددها وثائقها التأسيسية. تعريف اخر للمجتمع الدولي يضم المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة الدولية، او المنظمات غير الحكومية والتي تعمل على المستوى الدولي، مثل اوكسفام، امنستى انترناشونال، اطباء بلا حدود ... الخ. يمكن أن يتم التعريف للمجتمع الدولي بناء على ما يسمى القيم المشتركة التي ترفعها بعض المنظمات او المؤسسات التي تربط بينها تلك القيم مثلما في تجربة منظمة دول عدم الانحياز.
يمكن ملاحظة التداخل وكذلك التمايز بين القانوني والسياسي في انتاج التعريف او تحديد هوية المجتمع الدولي. فالقانوني – إذا تناولنا اجتماع دول العالم (193 دولة) في منظمة الامم المتحدة، نجده يقوم بشكل أساسي على بنية قانونية مؤسسية هي ميثاق او دستور الامم المتحدة. ووفقا للميثاق تنتشر المنظمة (ووكالاتها وبرامجها المتخصصة المختلفة) في كل ارجاء العالم، تعمل في مهام اساسية، مثل حفظ حقوق الانسان، وصيانة السلام، تقديم البرامج لمحاربة الفقر والجهل والمرض، محاربة الارهاب ونزع الالغام... الخ. هذا هو التعريف القانوني للمنظمة، وهو كما هو واضح من نوعية المهام ونوع تجارب تطبيقها، تتجاوز البنية القانونية، لتمشى وتتطبق في المجال السياسي الذي لا يحدده القانون وانما المصالح (الاقتصادية، السياسية والسياسية الجغرافية، ومصالح توازن القوة والمصالح العسكرية.. الخ) وتراتبية بنية القوى على المستوى الدولي.
المدخل السياسي – بما هو واقعي موضوعي – يتناول وجود المجتمع الدولي في حالته المرتبطة بالمصالح، والسياسات الاستراتيجية والتكتيكية المعبرة عن، والعاملة على تنفيذ تلك المصالح. وهي مصالح اقتصادية سياسية وعسكرية، تقسم العالم إلى مناطق نفوذ وسيطرة، يتنازعها الصراع، تؤكد السعي لنيل تلك المصالح بوسائل هي من نوع المصالح نفسها، قد تكون اعفاء الديون، او تقديم المنح والقروض، او بشن الحرب بوسائل مباشرة او غير مباشرة متعددة. وبالتالي ينحى تعريف المجتمع الدولي إلى اعتبار هذه الحقائق ويتجه إلى تسمية المجتمع الدولي في حالة خضوعه لما يسمى بالقوى العظمى. فهي التي تحدد ملامح هذا المجتمع الدولي وحركته وطرائق وجوده. تجلب دوافع ومساعي تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، تعَدد مكونات المجتمع الدولي، وتجلب الصراع، ونشؤ التحالفات الجديدة، فتتعدد مكونات المجتمع الدولي. في الستينيات من القرن المنقض، اُعتبِر المجتمع الدولي بنية مكونة من ثلاث معسكرات. المجتمع الغربي الرأسمالي، والمجتمع الدولي الاشتراكي، ومجتمع دول عدم الانحياز. والاخيرة هي بنية دولية تضم في عضويتها الان 120 دولة و17 من الدول بوضع مراقب، كما تضم 10 منظمات دولية (مثل رابطة دول جنوب شرق اسيا، الاتحاد الأفريقي، جامعة الدول العربية، الكومنويلث، مجلس السلام العالمي...الخ). بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ونهاية حقبة الحرب الباردة مطلع التسعينيات، وقيام تكتلات إقليمية واقتصادية جديدة، واصلت الحركة الدعوة إلى التعاون الدولي، والتعددية، وحق تقرير المصير، والوقوف ضد عدم المساواة في النظام الاقتصادي العالمي، لكنها فقدت بعضاً من أهميتها وفاعليتها. فقد تغيرت الخريطة السياسية والاقتصادية الدولية، نمت بعض عضويتها الى دول صناعية متقدمة شكلت تكتلات اقتصادية إقليمية (مثل الصين، الهند، اندونيسيا)، واختلفت – بدرجة او اخرى- الصراعات والتحديات التي تواجهها.
يتعدد المجتمع الدولي ويختلف في تكويناته واهدافه. ليس هناك سببا الا نضم بعض المنظمات الخاصة – ولكنها دولية لا تزال – إلى صيغة التعريف كمجتمع دولي. مثلا اجتماع بيلدربيرج، وهو مؤتمر سرى سنوي تأسس في 1954، لإقامة حوار بين اروبا الغربية وامريكا الشمالية. وهو سرى لأنه لا يصدر وثيقة تعريفية او تصريح صحفي لأي مؤتمر، ولا وثائق للمخرجات او التوصيات والاتفاقات النهائية. مهمة المنظمة بناء قبول جماعي عالمي لحرية السوق وفقا لنموذج الرأسمالية الغربية ومصالحها على المستوى العالمي. تتكون عضويتها من كباتن واساطين الصناعة، ومالكي/ات ومديري/ات البنوك الكبرى وكبار الأكاديميين/ات من الجامعات المرموقة، يتراوح عددهم بين ال 120 إلى 150. يمكن للمشاركين استخدام المعرفة والاتفاقات التي تم التوصل إليها بدون نسبها للمؤتمر او أحد المشاركين/ات، ويسمى هذا ب “قانون شاتم هاوس".
يمكن أن نضيف منظمة مشابهة، لا يمكن الحديث عن المجتمع الدولي بدون ذكرها، وهي منتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum) (دافوس) تبلغ عضوية المنظمة الالف شخص يضمون بعض رؤساء الدول وبعض الوزراء والسفراء، وأكبر اغنياء العالم الرأسمالي، افرادا وشركات، مثل مايكروسوفت، أي بي إم، ايكيا، ايكرسون، وهواوى، ومديرة صندوق النقد الدولي، ودونالد ترمب. وجولدمان ساش، وبنك أمريكا، امازون، شيفرون، فايزر.. الخ من الشركات التي تتجاوز دورة رأسمالها ال 5 بليون دولار في السنة (رسوم العضوية السنوية 52 ألف دولار للفرد، رسوم الحضور للمؤتمر تبلغ 19 ألف دولار، يكلف السكن والاعاشة بجانب رسوم الحضور للاجتماع ما يقارب الثلاثة ارباع مليون دولار) لم يحضر هؤلاء للعب الجولف او التزحلق على الجليد، وانما اتوا لتقرير مصير العالم الاقتصادي والمالي والسياسي. لقد أعلن بايدن نهاية رأسمالية حاملي الاسهم (shareholders) وابتداء رأسمالية اصحاب المصلحة الرأسمالية (stakeholders)، وهي فكرة كلاوس شواب (أحد واهم مؤسسي المنتدى) التي تجعل من كبرى الشركات الرأسمالية مجلس امناء على المجتمع الدولي، وتعمل لحلحة المشاكل الاجتماعية والبيئية للمجتمع الإنساني (شيء كالفكرة الايديولوجية الخاصة بالمسئولية الاجتماعية للمؤسسة الرأسمالية
)
المجتمع الدولي -في حقيقته - يشير إلى بنية دولية عالمية، يكونها عدد محدود من الدول، تقرر في شئون العالم. لا تتطابق منظمة الامم المتحدة مع المصطلح، وتخفق في استحقاق الاسم والدور. يتناول الادب السياسي نقدا مجيدا للمنظمة الدولية من عدد من أطراف المجتمع الدولي، ولعدد من جوانب تكوين واداء المنظمة، مثل ادائها السياسي، والايديولوجيا والتحيزات الايديولوجية، وديمقراطية التمثيل والقدرة على تنفيذ قراراتها.. الخ. فمثلا، تم تناول حصر تكوين مجلس الامن من الدول النووية الخمسة، وسطوة الفيتو، في ضمان سيادة هذه الدول على القرار الذي تتخذه الجمعية العمومية، فضلا على قدرة الفيتو في تعطيل مهام الامم المتحدة وواجباتها تجاه قضايا السلام وحقوق الانسان. لم تنجُ الامم المتحدة من اتهامات الفساد في جوانب عديدة من عمل بعض منظماتها (مثلا برنامج البترول مقابل الغذاء في العراق). بعض النقد تناول حتى جدوى المنظمة في تنفيذ مبادئها الرئيسية في حفظ السلام والامن الدوليين. فبوجود الاعتراض باستخدام الفيتو، لا تستطيع المنظمة سوى مراقبة الاوضاع وتقديم التقارير بشأنها مع قليل من التأسف والشجب. عديد من الدراسات ربطت بين وصول قوات حفظ السلام في مناطق الحروب/النزاعات وارتفاع حالات الاغتصاب للنساء والاطفال وانتشار الدعارة (موزمبيق، كوسوفو... الخ) .ليست منظمة الامم المتحدة هي المجتمع الدولي، ولا الدول الصفوة فيها هي المجتمع الدولي، فالأخيرة هي كذلك في السياقات خارج المنظمة وفى سياق الايديولوجيا والسياسة.
المجتمع الدولي كإمبريالية:
صحيح تقدير قوى الحرية والتغيير وجمع الاطاريين في اشارتهم إلى الترويكا باعتبارها المجتمع الدولي، باعتبار قدرة عضويتها (منفردين و/او مجتمعين) على رسم الاستراتيجيات الدولية والاقليمية التي تحدد مصالحها الاستراتيجية في امتلاك البلد/ العالم وثرواته وكل موارده، باعتبارها ملكية وسوق خاصة بها، وذلك باستخدام القهر والاستغلال والحرب (والعصى والجزرة). تاريخ دول الترويكا القريب يجعل منها بنية إمبريالية، فهي نفس القوى الدولية التي انخرطت في استعمار اجزاء واسعة من العالم، انتجت لنا مجتمعا دوليا اخر – بعد نهاية حقبة الاستعمار الكلاسيكي - اصطلح على تسميته بدول العالم الثالث/ الدول النامية /الجنوب الكوني. تجربة التنظير المتكئ على الماركسية أنتج مدرسة التبعية (جنتر فرانك، رودنى) والتي حددت أن حالة التخلف الاقتصادي للمستعمرات السابقة، هي نتيجة مباشرة لعمليات التوسع الرأسمالي والالحاق لتك البلدان ببنية النظام الرأسمالي العالمي. لم تكن المسالة مجرد الحاق، وانما كانت – وفقا لرودنى – عملية نشطة مستهدفة لخلق بنية تخلف، من خلال عمليات استخراج الموارد الطبيعية واستنزاف قوى العمل، للفائدة الحصرية لدول المتروبول، وعلى حساب نتائج وخيمة على البنى الاقتصادية والمجتمعية والسياسية للمستعمرة. وفكرة جنتر فرانك أن التخلف كان عملية سياسية واعية قصدها المتروبول الاستعماري. وان مصدر التخلف ليس بسبب نقص المقدرات للدول المستعمرة، وانما بعملية الالحاق والخضوع القسري للنظام الرأسمالي الأوربي، كموردين للموارد ومصدر للعمل الرخيص (او المجان)؛ وهي العملية التي حرمت دول العالم الثالث من فرصة تسويق مواردهم بصورة تنافس، وبأي درجة، الدول الاستعمارية.
لا يمكن فصل نشؤ العالم الثالث/النامية/الجنوب وبنية التخلف والتبعية عن نشؤ البنية الرأسمالية العولمية وسيرة القهر الاستعماري. أن الدمج البنيوي الهيكلي القسري للمستعمرات في النظام الرأسمالي العولمى، غيًرَ، وبشكل عميق ومستمر البنى الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية والثقافية.. الخ، واسكنها بنى التخلف والخضوع والتبعية، ولازالت بعض صفوتنا تسمى دول الترويكا والدول الأوروبية (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، والنرويج والمانيا) المجتمع الدولي كمجموعة من اولاد وبنات الحلال، قاصدين للخير. سيغمروننا بالمنح والقروض التي تدفع بالنمو الاقتصادي، ولكن ليس بالتطور الاقتصادي (وهما مختلفان)، فالنمو (ريعي) تحدده احتياجات راس المال الأجنبي والسوق الأجنبي، وليس احتياجات السوق المحلى واوليات تنميته ( Stavrianos, L.S. 1981.39 Global Rift: The Third World Comes of Age )
فالمنح والقروض تبنى البنية الريعية للاقتصاد السوداني، تجعلها مؤهلة لسرقة مواردنا وفوائض الاقتصاد، وتتركنا في البيئة المتخلفة التابعة. هي منح وقروض تعيد ترتيب بنية جغرافيا عدم التكافؤ والقهر. (انظر مثلا برنامج ثمرات القادم من البنك الدولي، يمنح الفرد 5 دولارات في الشهر، وهو نفسه البنك الدولي الذي حدد مستوى دخل الفرد (في الدول الفقيرة) الذي يعيش تحت مستوى خط الفقر ب 1.9 دولار في الشهر. أي أن 5 دولار تستطيع أن تنقذك من العيش تحت خط الفقر المدقع ليومين ونصف فقط؛ فرحت به حكومة قحت وحمدوك، وسمت البرنامج ثمرات!
يمكن القول إن المجتمع الدولي مقولة متحركة، تفضح مرامي واهداف من يطلقها. فقحت وقوى الاتفاق الاطارى، تقصره على الترويكا واخواتها، الذين حضر ممثلوها إلى الخرطوم لفرض ارادتهم في قبول وتنفيذ الاتفاق الاطارى. ولنطرح السؤال، والذي هو جائز الان، هل أمريكا وبريطانيا وفرنسا والمانيا والاتحاد الأوربي (يمثل البقية)، هل هي دول تعكس سياساتها القديمة والحديثة انحيازا لرغائب التغيير في بلدانها – دع عنك في السودان- هل ترغب وتدعم تحولا ديمقراطيا ينتج دولة مدنية ديمقراطية، تنادى باستقلال قرارها وسيادتها الوطنية على مواردها، وسياساتها الخارجية، وسائر اسباب وجودها؟

isamabd.halim@gmail.com

 

آراء