المجتمع المدني ولجان المقاومة … آمال كذوبة وعذرية مؤقتة

 


 

 

يتشكل المجتمع المدني من كل "الفاعِليّات الحية" Active dynamics التي تملأ الفراغ بين الأسرة والدولة، والتي يكون الإنتماء اليها انتماءً حراً غير مشروط بتبعات الولاءات الأولية، فكل ما هو غير حكومة، وكل ما هو غير مؤسس على روابط الدم يمكن أن يُعتبر جزءاً من تلك الفاعِليّات النشطة. حتى وإن أغرقت في في النزعات اليمينية Rightist drifts ، إن كانت دينية أو شعبوية... وربما يثير هذا المدخل جدلاً حقيقياً حول ما هو المجتمع المدني، ذلك أن الكثير من علماء الإجتماع السياسي يعتبرون المجتمع المدني حمّال أوجه، وقابل مبدئياً أن يعني أي شيء لأي شخص.... لذلك ينحو الكثير منهم لتحديد ما هو ليس مجتمع مدني What is civil society is not بدلاً إجهاد النفس وإغراقها في جدل لا نهائي حول ما هو المجتمع المدني. فالواضح أن الحكومة وكافة أدواتها هي ليست المجتمع المدني. كما واضح أيضاً أن الأسرة والقبيلة لا يمكن شمولهما في دائرة المجتمع المدني رغم أنهما يشكلان النواة الأولية له، بيد أنهما لا يتخذان صبغته المعبر عنها بالفاعِليّة النشطة.
فعادةً ما يتركز النقاش حول ما إذا كانت الأحزاب السياسية تُعتبر جزءاً من المجتمع المدني ، لاسيما في ظل حالات خيبة الأمل في تجارب الأحزاب في بلدان تتعثر فيها التجارب الديمقراطية كالسودان. أو بلدان فقدت الثقة تماماً في التركيبات السياسية فيها بما في ذلك الأحزاب كما في لبنان. وعلى ذكر حالة لبنان يمكن لفت الإنتباه الي انتخابات ٢٠٢٢ التي إنتهت مؤخراً والتي فاز فيها المجتمع المدني ببعض المقاعد النيابية، مما يعد محطة مهمة للتأمل في جدوى خوض المجتمع المدني بهذا التوصيف للمعمعان الانتخابي.. ومقارنته مع أسس ومعايير الليبرالية التعددية القاضية بتنافس الأحزاب السياسية وفق رؤى أيدولوجية وبرامج سياسية. وهنا عند هذه النقطة ينكشف الغطاء بين الآمال الكذوبة والطموحات المشروعة. حيث يطغى السؤال الأساسي كيف يمكن أن يخوض المجتمع المدني معركة انتخابية في ضؤ غياب ما يوحد رؤيته أيدولوجياً وسياسياً؟! فالمجتمع المدني عملياً يمكن أن يمثل اليمين بكل تفريعاته. كما أنه بالمقابل يمكن وفي نفس الوقت أن يمثل اليسار بكل تشكيلاته. ولن يصيبه في ذلك منقصة اللهم إلا عند الأعلى صوتاً أو الأقدر على الاحتجاج عند الإقتضاء. بمعنى أن يكون اليسار على سبيل المثال الأعلى صوتاً وينكر وجود مجتمع مدني يمثل اليمين. أو العكس بالعكس.
مهما يكن من أمر، تظل حالة خوض المجتمع المدني في لبنان بهذا المسمي الفضفاض حمّال الأوجه محل نقاش بل ونقد ذلك أن المجتمع المدني لا يمكن أن يؤسس هوية سياسية تُخاض على أساسه انتخابات... وقد يبدو ذلك جلياً فيما صاغه الكاتب اللبناني غسان سعود والذي عبر بصورة ساخرة عن تلك "العِنّة السياسية" التي تميز المجتمع المدني في الأتون السياسي حيث أكد في مقال له بعنوان (أطماع المجتمع المدني في لبنان وأنانيته ومراهقته) بالقول :( بموازاة داخل الحزب الواحد بالنسبة لتيار المستقبل والقوات اللبنانية والكتائب والمشاركة بين بعضهم البعض تتفجر معارك حقيقية داخل ما يُوصف بالمجتمع المدني. مجتمع مدني مؤيد للتحالف مع البيوتات السياسية التي توارثت المقاعد النيابية منذ أكثر من 100 عام ، ومجتمع مدني يرفض التحالف مع هؤلاء. مجتمع مدني يريد تحرير لبنان من " الاحتلال الإيراني" عنواناً للمعركة . ومجتمع مدني لا يحمل أي خارطة طريق لحل أزمة واحدة من أزمات البلد الكثيرة. مجتمع مدني ممول من الخليج والسفارة الأمريكية ضد مجتمع مدني ممول من خليج آخر ومن الاستخبارات الفرنسية.)
خلاصة القول إن التعويل سياسياً على المجتمع المدني سيرهقه من أمره صُعوداً بتحميله تبعات أجندة لا يقوى على حملها، بل لم يُخلق لها، ولا تناسبه من حيث التركيب ولا الفاعِليّة. فأقصى ما يمكن أن يضطلع به المجتمع المدني سياسياً هو أن يخوض معارك مناصرة Advocacy لقضايا مجتمعية يؤمن بها ويحَمِل السياسيين على الاقتناع بها لتبنيها. أما كأن يخوض من أجل ذلك في المعترك السياسي وفي إنتخابات، فتلك هي الآمال الكذوبة... والأمر نفسه قد ينطبق وإن بصورة أقل حدة على واقع لجان المقاومة في السودان فهي ورغم خوضها غمار المعترك السياسي لكنها لم تتشكل بحيث تكون كياناً سياسياً يقوى على الصمود في المعتركات السياسية دون أن تواجه التشرزم والانقسام عند طرح القضايا السياسية الأكثر تفصيلا ً والحاحاً مثل قضايا الدين والدولة. والتوجهات والخيارات الاقتصادية. والعلاقات الخارجية وكافة القضايا المؤسسة على رؤى أيدولوجية. فهي أي لجان المقاومة الي هذه اللحظة الراهنة لا تعدو أن تكون كيان تَجمّع عفوياً يُعبر عن حالة رفض جيلي عميق وحاد للممارسات السياسية الحزبية والتدخلات العسكرية. هذا إن تم اعفاؤها أو غض الطرف عن غائلة الاختراق الحزبي. فهي في لحظتها الراهنة تتسم بالطهر والنقاء والعذرية الثورية ... عذرية لن تلبث أن تنفض حال الإقبال على ممارسة السياسة الواقعية Real politics بكل مايكتنفها من "لؤم" وما يستلزمها من "ثعالبية" وما تقتضيه من تحالفات وما تجره من تأرجحات بين الثابت والمتحول في المعركة اللامتناهية من أجل النفوذ والمحافظة عليه.
د.محمد عبد الحميد

 

آراء