المسيح المحمدي في الأساطير والأديان القديمة والأديان الكتابية (5)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ)

الحلقة الخامسة

الخير والشر (ب)

خالد الحاج عبدالمحمود

الخير هو الأصل:

يمكن أن يُقال كتعريف إبتدائي، أن الخير هو كل ما يخدم حياة الحي، ويعينه على البقاء، والشر هو كل ما يهدد حياة الحي بالخطر، ويعمل على الألم وإنقاص الحياة.. وعديد من الفلاسفة اعتبروا أن اللذة هي الخير، والألم هو الشر.. وقد ظل الحي منذ أن كانت الحياة في الأرض، يعمل على طلب اللذة والفرار من الألم.. وعندما ظهر العقل، وظهر الإنسان المكلف، أخذت القضية أبعاداً أعمق وبدأ المفكرون والفلاسفة يتحدثون عن الطبيعة البشرية، أخَيِّرة هي أم شريرة؟ فمثلاً الفيلسوف جان جاك روسو، اشتهر بأنه يقول بأن الطبيعة الإنسانية خَيِّرة، فهو يرى بأن الإنسان هو خَيِّر بطبيعته، فبحكم تكوينه هو يتصرف بالانسجام مع الطبيعة، لقد زودته الطبيعة بالغرائز والرغبات، وفتحت أمامه مجالات اشباعها، فهو حين يشبعها تتحقق سعادته ويتحقق خيره، وفطرة الإنسان خَيِّرة طالما كانت في توافق مع الطبيعة، بخلاف إذا مستها يد المدنية، فإنها سوف تفسدها وتتلفها.. هذه نظرة مناقضة لفلسفة هوبز ونظرته التشاؤمية للطبيعة البشرية.. فهو يرى أن الطبيعة البشرية شريرة بطبعها ولا بد من قمعها.

الفلاسفة عموماً يبنون موقفهم من الطبيعة البشرية على واقع متغير.. ولا يوجد أي أساس موضوعي لتحديد ما هو أصيل، وما هو متغير، بالنسبة لهذه الطبيعة.. من المستحيل من حيث الواقع إعطاء. الأولوية للخير أو الشر.. لا بد من الثابت الوجودي، لترجيح جانب على الآخر.. وجميع الفلسفات الغربية، (بما فيها الفلسفة الماركسية وهي تمثل رأس الرمح في الفلسفة الغربية للجانب التطوري فيها واستخدامها للديالكتيك الهيغلي)، التي تتحدث عن الطبيعة البشرية، تتحدث عنها من منطلق النظرة للإنسان في ذاته، وحسب وجوده الفعلي، ودون ربط القضية بالوجود الكلي، والكون، وهذا ما يجعل نظرة هذه الفلسفات قاصرة بالضرورة، ولا تقوم على أي اساس موضوعي، يرجح جانب على جانب.. وبما أن الراجح في الفلسفات الغربية أنها مادية، فمن الطبيعي أن ترى هذه الفلسفات أن الطبيعة البشرية متغيرة بصورة مستمرة، بحيث يكون من المستحيل الحديث عن طبيعة بشرية ثابتة، ولا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فبحكم طبيعة هذه الفلسفات، مفهوم الطبيعة البشرية، مفهوم نسبي، يخضع للتغير والتبدل.. فالتاريخ عندهم، ما هو إلا عملية تحول دائمة للطبيعة البشرية.. الغالب على الفكر الغربي القول بعدم وجود طبيعة بشرية ثابتة، ولذلك لا يمكن وصف الطبيعة البشرية في أصلها، بأنها خَيِّرة أو شريرة، لأنه أساساً لا يوجد أصل ثابت يمكن أن يتم البناء عليه، ومع ذلك هنالك من المفكرين الغربيين من يرى أن الطبيعة البشرية خَيِّرة، ومن يرى أن الطبيعة البشرية شريرة، ولكن العبرة بالأساس الذي يبنون عليه نظرتهم، فطالما أن الثابت الوجودي غائب عندهم، فلا يمكن الحديث عن طبيعة إنسانية ثابتة.

رغم هذا، فإن النظرة الكلية، حسب الفلسفات والفكر العلمي ترجح جانب الشر في طبيعة الكون، والطبيعة البشرية.. وهذا الاعتقاد بالأساس يرجع إلى النظرة العلمية المادية للكون، التي ترى للكون نهاية، وأن للحياة نهاية.. فإذا كان الموت هو نهاية الحي، فلا مجال للحديث عن أن الكون بطبيعته خَيِّر، والإنسان بطبيعته خَيِّر.

هذه النظرة، على خلاف النظرة في الإسلام للكون، وللإنسان.. ففي الإسلام، الوجود مطلق، لا بداية له ولا نهاية، وبما أن الوجود مطلق، فكذلك وجود الإنسان هو الآخر مطلق، لأن طبيعة وجوده من طبيعة الوجود العام، ولا تختلف عنه.

هنالك اختلاف جذري بين أن يكون الوجود في جوهره واحداً، والحقيقة فيه واحدة، وبين أن يكون الوجود متعدداً، وليس فيه أي ثابت وجودي، وبالتالي ليس فيه حقيقة واحدة ثابتة، وطبيعة واحدة.. هذا الاختلاف، هو الاختلاف الأساسي بين الإسلام كما يقدمه الأستاذ محمود محمد طه، وبين الفلسفات، ونظرة العلم المادي التجريبي.. وهناك قضايا أساسية كثيرة، وهامة جدا تتعلق بتصور الوجود كوحدة، وتصوره كتعدد.. ومن هذه القضايا، قضية وجود غاية نهائية، أو عدم وجودها.. ووجود معنى كلي أو عدم وجوده.. والغائية الكونية، والهدف النهائي، أمران ضروريان للفرد.

بالنسبة للإسلام الوجود في حقيقته واحد، ولا تعدد إلا في مظهره.. ووحدة الوجود هذه هي جوهر التوحيد، والأساس الذي يقوم عليه كل شيء.. وحدة الوجود تعني: أنه ليس في الوجود في حقيقته سوى ذات الله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله.. والأسماء والصفات والأفعال، ليست أغيار للذات، وإنما هي مظهر لها.. هي ليست زائدة عن الذات، أو مضافة إليها، أو لاحقة بها، وإنما هي عند التناهي عين الذات.. فالذات الإلهية لا تتعدد ولا تقوم بالحوادث، ولا يلحق بها تغيير، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً.. فمثلاً إذا قلنا (الحي)، في حق الذات، فإن صفة الحياة ليست ملحقة أو مضافة للذات، بمعنى أنها لم تكن موجودة، ثم وجدت أو أضيفت، كما هي الحال بالنسبة للخلق.. فالصفات بالنسبة للذات، هي عين الذات، وقديمة قدمها.. فوجود الحقيقة ليس فيه تعدد، وإنما هو وجود واحد.. فالذات الإلهية مطلقة.. هي ليست مسبوقة بعدم، ولا ملحوقة بعدم.. وهي ليست مسبوقة بوجود غيرها معها، ولا مصحوبة بوجود غيرها، ولا هي ملحوقة بوجود غيرها.. فكل وجود يظهر بمظهر الغيرية والسوى، هو تجلي من تجلياتها، والتجليات لا تكون أغياراً.. من أجل ذلك، نهى الله تعالى أن نضرب له الأمثال، فهو يعلم ونحن لا نعلم، قال تعالى: "فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".

الموجودات في الكون الحادث، ليس لها وجود من ذاتها، وإنما وجودها من وجود الموجد الواحد.. بمعنى آخر، الأكوان ليست موجودة مع الله، وإنما هي موجودة بالله، ولا وجود لها من ذاتها.. وهذا هو مفهوم (القيومية).. الله تعالى هو قيوم السماوات والأرض، وما بينهما، فلا شيء غيره يمكن أن يقوم بذاته، ولو للحظة واحدة، وإنما كل شيء قيوميته به تعالى.. قوله: " اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". (القيوم)، يعني الذي تقوم به جميع الموجودات، فلا شيء من هذه الموجودات يستطيع أن يقوم بذاته، أو يتماسك بذاته ولو للحظة.. فالموجودات جميعها، وفي كل لحظة، قائمة بالله لا بذاتها، فلا وجود لها من ذاتها، وإنما وجودها من وجود موجدها -الله.. فالوجود واحد.. الموجودات حسب ظاهر وجودها لم تضف شيئاً إلى وجوده تعالى، ولم تغير شيئاً بالنسبة له.

لم يكن من الممكن للذات الإلهية أن تُعرَف لولا أنها تنزلت، أو ظهرت بخلقها.. فالعقل وسيلة المعرفة، لا يَعرِف المطلق لأنه محدود.. الله تعالى في ذاته واحد، والعقل لا يدرك المتعدد.. فمن أجل ذلك العقل لا يستطيع أن يعرف الله إلا في تنزلاته، ولا يعرف الله إلا بخلقه!!

معرفة الله تقع في مستويين: معرفة حقيقة، ومعرفة حق.. أما معرفة الحقيقة، فهي معرفة الذات، وهي مطلقة الكمال، ومطلقة الوجود، فلا يلحق بها نقص، أو عجز، أو محدودية، في أي صورة من الصور.. وهذه معرفة تمتنع عن العقل، لوحدتها وإطلاقها، كما ذكرنا.. الله تعالى في ذاته ليس له كفء أو ضد.. ولوجود الثنائية في عقولنا، فإنها لا تعرف إلا الأضداد، لذلك تمتنع في حقها معرفة الذات، وتنحصر معرفتها في التنزلات.. القلوب هي قوة الإدراك الوتري، فهي التي تعرف الله، ومعرفتها شهود!! والشهود معنى من الإدراك ليس فيه إحاطة، وتمتنع فيه الكيفية، لأن الكيفية تتعلق بإدراك العقول المحدودة.. ومن أجل ذلك الشهود علم ذوق، يتوقف على التجربة بصورة كلية.

مما تقدم يتضح أن الوجود يقع في مستويين: 1/ وجود حقيقة.. /2 وجود حق.. وجود الحقيقة هو الأصل، وكل ما يتعلق به هو أصل.. ووجود الحق هو فرع -تنزل من الأصل- وكل ما يتعلق به هو فرع.

ونحن هنا نذكر بعض الأصول والفروع الأساسية، من أجل توضيح أن الخير هو الأصل، والشر فرع.. والأصل دائما باقٍ لأنه يتعلق بالحقيقة الباقية.. والفرع دائما فانٍ.. ومعنى فانٍ أنه متحول نحو أصله.

1- أصل الأصول في الوجود هو المطلق _ الذات الإلهية.. وما المحدود -الخلق- إلا مظهر للمطلق، ووجوده وجود حق، والحق ضده الباطل.. أما وجود المطلق فهو وجود حقيقة، والحقيقة لا ضد لها.

2 - المطلق هو الثابت الوجودي الوحيد، وإليه مرجعية كل شيء في الوجود.. فكل ما عدا المطلق، ومن عداه، لا يقوم بذاته وإنما يقوم بالمطلق، ولذلك حاجته للمطلق حاجة تامة، ودائمة، لا مجال فيها للاستغناء.. وهذا هو جوهر الفرق بين الخالق والمخلوق.. أو الرب والعبد، وجوهر العلاقة بينهما.. الخالق في حالة استغناء تامة، فهو لا يحتاج لغيره.. والمخلوق في حالة حاجة للخالق تامة، مطلقة، وسرمدية.

3- بما أن المطلق كامل الوجود ولا يلحق به النقص، فالخير، والخير المطلق هو الأصل.. وما الشر إلا تنزل وفرع من الخير، والحكمة منه سوق المحدود إلى المطلق.. فالشر، وجميع جنود الشر، وظيفتهم الأساسية هي خدمة الخير الذين هم طرف منه.. من أجل ذلك، الشر في حقيقته خير، وموظف لخدمة الخير.

4- الوجود الحادث -وجود الخلق- متحرك: حركة حسية، وحركة معنوية، ولن ينفك.. وفي حركته هذه، هو يطلب غاية واحدة وأساسية، هي المطلق.. فالمحدود صدر من المطلق وإليه يعود.. وفي حالة الصدور خرجت الكثائف من اللطائف.. وفي حالة الورود تخرج اللطائف من الكثائف.. ولذلك الحركة في الوجود الحادث في جميع مستوياتها، وأشكالها، هي حركة من النقص إلى الكمال، والكمال المطلق.. ومن الشر إلى الخير المطلق.. ومن الجهل إلى العلم، والعلم المطلق.. ومن الحياة الناقصة إلى الحياة الكاملة، الكمال المطلق.. ومن الباطل إلى الحق.. ومن الحق إلى الحقيقة.. ومن القيد إلى الحرية.. فالسير إلى الله، هو سير إلى الخير المطلق.

5- خلق الله الإنسان في الملكوت، في أحسن تقويم "لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، ثم رُدَّ إلى أسفل سافلين.. أي أبعد نقطة عن الله.. وهذا هو أصل الشر.. الشر هو البعد عن الله.. والخير هو القرب من الله، هذا هو أصل الموضوع.. الله تعالى يسير الإنسان إليه، أي إلى الخير المطلق "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا".. من أجل ذلك مصير كل الخلائق إلى الخير المطلق، وهذا أمر حتمي، الله هو المتكفل به.. من أجل ذلك الآيات التي تتحدث عن الرجوع إلى الله كثيرة، منها مثلا: "إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ" و "إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ" و "يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ".. هذه الآيات هي أعظم بشارة، لأنها بشارة بإنتفاء الشر والصيرورة إلى الخير المطلق.. ولما كان المطلق لا إنتهاء له، فإن السير في الخير سير سرمدي، لا انتهاء له.

6- الإرادة الإلهية هي الأصل، فهي تقوم على الحقيقة، وهي مهيمنة على كل من عداها.. والإرادة البشرية هي فرع ومظهر، ومحاط بها من قبل الإرادة الإلهية.. الله تعالى هو الفاعل الحقيقي في الوجود، وكل من عداه هو فاعل مباشر وفعله محاط به من قبل الفاعل الحقيقي.. ففعل الفاعل المباشر ليس مغايراً لفعل الله، وإنما هو مظهر لهذا الفعل "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ"، " قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ".

7- القانون الذي يحكم الحركة في سيرها إلى الله، في جميع مستوياتها، ومجالاتها، وفي مختلف أشكالها، هو القانون الطبيعي، الذي تقوم عليه طبائع الأشياء في الوجود الحادث.. وهو الإرادة الإلهية التي تحدثنا.. والقانون الطبيعي يقوم على المعاوضة "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ".. بهذا القانون برزت المادة العضوية من المادة غير العضوية.. وبذلك أصبح عندنا ما يسمى بـ (إرادة الحياة).. وقانون هذه الإرادة هو طلب اللذة بكل سبيل، والفرار من الألم بكل سبيل.. وبفضل الله، ثم بفضل صراع الحياة الذي يقوم على قانون المعاوضة في الحقيقة برز الإنسان ببروز العقل المكلف.. وبظهور هذا العقل، ظهرت (إرادة الحرية) إلى جانب إرادة الحياة.. وببروز إرادة الحرية، ظهر مستوى جديد من الحياة، هو حياة الإنسان.. ولتوجيه هذه الحياة، والسير بها إلى الله، إلى الخير المطلق، جاء قانون المعاوضة في مستوى الشريعة -قانون الروح- وهو يقوم على شريعة الحلال والحرام، ويتوجه بخطابه إلى العقل، ليقيده ويوجهه، بقانون يحاول أن يصاقب قانون المعاوضة في الحقيقة.. وبظهور قانون المعاوضة في الشريعة، ظهرت القيم وظهرت الأخلاق.. ولقد ظل هذا القانون يتطور، بتطور الفرد البشري والمجتمع البشري.. وهو يستند في تطوره هذا على التعلم من خلال التجربة في الخطأ والصواب.. وحق الخطأ هذا، هو الميزة التي ميزت الإنسان على جميع خلق الله.. فالملائكة لا يعصون، ويفعلون ما يؤمرون، فقد ضربت عليهم الطاعة.. والأبالسة يعصون ولا يطيعون.. أما الإنسان فقد أعطي حق أن يعصي ويطيع، يخطيء ويصيب، وهذا هو كماله على جميع خلق الله.. فهو من خلال التجربة في الخطأ والصواب أصبح سيره إلى الله سيراً مطلقاً.. فالصواب هو أن يختار الله، والخطأ هو أن يختار غير الله.. والخطأ يستوجب العقوبة معاوضة له، وحكمة العقوبة هي أن تسوق الناس إلى الصواب من خلال التجربة.. ومن خلال الخطأ والصواب، أصبحت حياة الإنسان تقوم على الحرية، خلاف حياة الملائكة الذين ضربت عليهم الطاعة، وخلاف حياة الأبالسة الذين ضربت عليهم المعصية.. فالحرية هي أعلى قيم الحياة، وبها أصبحت حياة الإنسان أعظم من أي حياة أخرى.. حياة الإنسان هي غاية في ذاتها، وهي الحياة العليا.. أما حياة الحيوان، بمن فيهم البشر، هي الحياة الدنيا -من الدونية- وهي وسيلة لحياة الإنسان.. والإنسان، كمجتمع، لم يظهر في الوجود إلى اليوم، وإنما ظهر طلائعه من أنبياء الحقيقة.. والحديث عن ظهور المسيح المحمدي، هو حديث عن ظهور المجتمع الإنساني.. مجتمع (أمة المسلمين)، اخوان النبي صلى الله عليه وسلم.

ترجيح الخير على الشر في السلوك الإنساني، يظهر في الفضل الإلهي الذي جعل الخطيئة لا تكتب إلا إذا وقعت.. يقول الأستاذ محمود: ((كيف غفر لآدم؟ الجواب غفر له بإعطائه حق الخطأ . وهذا يعني أن حريته لم تصادر مصادرة أبدية فيقام عليه وصي إلى نهاية ذلك الأبد ، كما فعل بإبليس ، وإنما أذن له في استردادها ، وبدأ بممارسة ما يطيق منها ، فهو يعمل في ذلك بين الخطأ والصواب ، فكلما أحسن التصرف في الحرية التي لديه أوتي مزيدا منها ، وإن بدرت منه إساءة في التصرف تحمل نتيجة سوء تصرفه بعقوبة معاوضة ، ومقابلة للخطيئة ، يراد بها إلى شحذ قوى نفسه ، حتى تتأهل ، أكثر من ذي قبل ، لتحمل واجب الحرية في ذلك المستوى الذي بدر منها العجز عنه .. ثم إن هذه العقوبة يتجلى فيها اللطف الإلهي كما يليق به، فهو يجازي بالحسنة عشر أمثالها، وقد يضاعفها حتى تخرج عن الحصر، وهو لا يجازي بالسيئة إلا مثلها، وقد يعفو عنها، وقد يبدلها حسنة، وقد يضاعفها، بعد ذلك، أضعافا لا حد لها، فهو تبارك وتعالى يقول "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يَزْنُونَ، ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ، وَآمَنَ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" ولقد ألهم آدم كلمات فتلهمها، فكانت سببا إلى التوبة، فالمغفرة، "فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" ولقد كانت تلك الكلمات هي "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا، وَتَرْحَمْنَا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"..)).

وقد كتب ربك على نفسه الرحمة، وهي رحمة عامة تشمل كل مخلوق.. فكل مخلوق مرحوم.. والرحمة تقع في مستويين: الرحمة الرحمانية، والرحمة الرحيمية.. يقول تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ"، الرحمة التي وسعت كل شيء هي الرحمة الرحمانية، والعذاب طرف منها.. الرحمة التي تكتب للمتقين، هي الرحمة الرحيمية، وهي خالية من العذاب.. والعذاب في الرحمة الرحمانية وسيلة للسوق للطاعة، والسوق للرحمة الرحيمية.. يقول تعالى: "مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا".. فحكمة العذاب هو أن يسوقنا للإيمان والشكر فيتحول إلى ثواب.. فالعبرة، كل العبرة، للهداية، والله تعالى متكفل بهداية عبيده "إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ* وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ"، فمن لم يهتد في الأولى، لا بد أنه سيهتدي في الآخرة، فالله تعالى متكفل بهدايته.. وبالطبع العذاب سيكون وسيلة لهذه الهداية، فمن أراد أن يتفادى العذاب، فعليه أن يهتدي في الأولى، بالصورة التي تغنيه عن العذاب.. والعذاب منتهي بإنتهاء حكمته.. فالنار، رمز العذاب، منتهية "وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ، لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".. "كل شيء هالك" يعني صائر إلى العدم.. "إلا وجهه" تعني الوجه الذي يلي الله من الأشياء، وهذا هو المعنى القريب، والمعنى البعيد هو وجه الله.. والأشياء البعيدة عن الله تفنى بأسرع مما تفنى الأشياء القريبة.. وبالطبع النار بعيدة، ولذلك تفنى أسرع من الجنة.. والجنة جنتان، البعيد منها يفنى قبل القريب، وبفنائه يفضي إلى القريب.. وعن فناء النار يقول المعصوم: (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يُدْلِيَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، بِعِزَّتِكَ، وَمَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُ فِي فُضُولِ الْجَنَّةِ).. ويقول المعصوم: (إن جهنم تخلو حتى ينبت فيها الجرجير).

الصيرورة إلى الخير تقتضي الحديث عن إنتهاء الشر، وتجاوزه.. فقبل الدخول في الخير لا بد من تجاوز الشر، وهزيمته، وهزيمة أعوانه.. ورمز الشر الأكبر هو الشيطان.. والشيطان داخل النفس البشرية، وخارجها.. وشيطان
الداخل هو الأهم والأخطر، ولهزيمة الشيطان الخارجي، لا بد من هزيمة الشيطان الداخلي.. من أجل ذلك نحن سنتحدث في الحلقة القادمة عن الشيطان، كأكبر رمز للشر.

يتبع..

رفاعة

 

آراء