المشهد الداخلي لهروب قتلة غرانفيل من سجن كوبر العتيق-2-

 


 

 



asaadaltayib@gmail.com


(الحلقة الثانية)

عندما بدأت الشمس تدنو نحو مغيبها كانت نفس صديق قتلة غرانفيل تمتلئ بالأشجان وكان يفكر كثيرا فيما قالوه له في عصر اليوم يوم هروبهم الكبير، فقد قال له مهند قبل أن يغيب عنه مع رفاقه:
- إذا تم إعدامنا أو إذا حدث لنا أي مكروه آخر فستصلك من أحد إخواننا ذاكرة إلكترونية سجلنا فيها هنا سرا معلومات حساسة وأسرارا رهيبة وأحاديث مثيرة ثم هربناها أرجو حال وصولها إليك أن تنشر ما فيها في وسائل الإعلام بالطريقة التي تراها مناسبة فنحن نثق بك، ولكن لا تفعل ذلك قبل موتنا أو نجاتنا، وداعا يا صديقي.
- حسنا غدا الجمعة دعونا نصلي معا ودعك من الأحاديث المتشائمة تفاءل بالخير تجده الصلاة معنا غدا، إتفقنا؟ فقال له وهو يضع فوق وجهه إبتسامة لم يجد لها ذلك الصديق تفسيرا إلا عندما ضرب الخبر المثير أذنه في تلك الليلة التي لم ينم فيها أحد:
- إنشاء الله إنشاء الله.
ما أعرفه عن صديقهم هذا أنه يشاركهم أفكارهم ولكنه يختلف معهم في شأن العنف ويعد اللجوء إليه خطأ في المنهج وكثيرا ما كان يناقشهم في هذا الشأن. صار صديقهم صديقي فقد كان أحد أعضاء مجموعتنا في السجن لذا كنت قريبا منه فضلا عن أنه موظف بنكي سابق وأنا كذلك وكلانا محبوس إلى حين السداد. قسمنا أكبر أقسام السجن ويسمى قسم الرحمة سأصفه لكم لاحقا بشكلأ دق به حوالي مائة وسبعون نزيلا وحائطه الشرقي مشترك مع القسم (جيم) حيث يقبع قتلة غرانفيل ويتوسط ذلك الحائط باب حديدي متين وقديم وكأنه من العهود الرومانية السحيقة لا تصل عبره الأصوات إلا إذا كانت صائحة وهو الباب الذي يستعمله قتلة غرانفيل في خروجهم ودخولهم ولا أحد غيرهم يعبر هذا الباب عدا (النبطشية) الذين يأتون لهم بالطعام أو شيخ السجن الذي يمر مع لجان التمام صباح مساء. أنبأت الصافرة عن موعد التمام المسائي فانتظم النزلاء لعملية العد فجلسنا (خمسات) في صفوف كل صف يتشكل من خمس نزلاء لتسهيل عملية العد التي تتكرر صباح مساء، والتمام قيد يقلق السجناء غير أن الإدارة ما كانت تمانع أن يجلس النزلاء على مقاعدهم بدلا عن الجلوس على الأرض ما ينم على المحافظة على كرامتهم وهذا أمر جيد. بعد إنتهاء التمام المسائي كنا نشعر بالإرتياح حيث يحدث ما يعرف ب (قفل السجن) حيث يتم إغلاق أبواب السجن الداخلية المختلفة والكثيرة بأقفال محكمة فتتوقف حالة تجوال السجناء بين أقسام السجن المختلفة وينتهي هاجس التفتيش الذي يتم أحيانا، وعادة لا يتم إلا أثناء النهار وبصورة مفاجئة كما أنه بعد قفل السجن لا يدخل السجانون إلى داخل الأقسام إلا لأسباب قوية كمرض أحد النزلاء أو حدوث مشاجرة وهذا الدخول الإستثنائي لا يكون إلا عبر لجنة إدارية عليه يقل إحساس النزلاء بالسجن بالمساء والليل ويتصرفون في هذا الوقت بحرية أكبر فيتخلصون من ملابس السجن (البردلوبة) ويتحلقون حول طاولات الطعام فعادة ما يتناول السجناء غداءهم في المساء بعد أن يكونوا قد قضوا جزءا من نهارهم في إعداده، البعض كان يفضل تمضية المساء وقضاء الليل في فناء القسم الواسع الذي يخففون حرارته برش المياه على أرضيته الترابية المستوية فهذا السجن يحتفظ في الصيف بالحرارة رغم إيغال الليل فتخرج الأسرة وينتظم فيها الفرش والملاءات النظيفة ويخرجون حافظات الثلج وبعض المأكولات الخفيفة كالزبادي وقد يصنعون في ذلك الليل (الشعيرية) و المشروبات كالحليب والمياه الغازية ويصطحبون أدوات الشاي والقهوة ثم تبدأ بعض الأيادي تدخل إلى المخابئ السرية حيث يخبئون هواتفهم النقالة المهربة بمهارة وإحكام لتبدأ المهاتفات مع الأصدقاء والأهل والزوجات والأبناء والأمهات والآباء فتسقط كثير من الدموع، كنت في ذلك الوقت أنظر إلى صديقي وصديقهم فأراه كمن يحمل هما ولم تكن عيناه في ذلك المساء كما تعودت أن أراهما ولم أشأ أن أسأله فقد قدرت أن حالة من حالات الأسى قد إنتابته كما تحدث كثيرا لهؤلاء النزلاء وكما تحدث لي أنا شخصيا أحيانا ولكني لم أخمن أبدا أن تفكيرا عميقا كان يسيطر عليه حول أصدقائه وأعضاء تنظيمة قتلة غرانفيل ولكنه حدثني بذلك بعد وقت، عندما إقتربت الساعة من الثامنة بدأت حركة دؤوبة تنتظم القسم فأغلب النزلاء يبحثون عن أماكن مناسبة أمام التلفازات كان هناك حوالي ستة تلفازات داخل القسم فقد كان في تلك الليلة يقام حدث رياضي مهم يترقبه أغلب السودانيون وينقل مباشرة على التلفاز وهو لقاء فريقي القمة الهلال والمريخ فأخذ المزاح والتحدي يأخذ مكانه بين مشجعي الفريقين من النزلاء، كان صديقي وصديقهم مريخيا وكنت هلاليا وكلانا لم يكن متعصبا لفريقه ولكن كان لابد لنا من ركوب الموجة فقد كانت المشاعر التي أنتجها لقاء القمة الوشيك تسيطر على الجميع فأخذت أمازحه وأتحداه بما يناسب تهذيبه وعمق إحترامه لنفسه وكنت أعلم أن نتيجة المباراة مهما كانت فلن تغضبه ولهذا الأمر قصة فرغم أن صديقي مريخيا إلا أن أكبر أبنائه وهو صبي لطيف هلاليا متعصبا لم يره والده لخمس أو ستة سنوات خلت فهو باق إلى حين السداد ولا يريد لإبنه أن يعرف أنه في السجن ولكنه كان حريصا على محادثته يوميا وقطعا إذا إنهزم المريخ فسيكون إبنه سعيدا وهذا أمر يفرحه وإذا إنهزم الهلال فهذا سيرضي مشاعر الولاء التي يكنها للمريخ. لم تأذن صافرةحكم اللقاء ببداية المباراة فحسب إنما أذنت أيضا لساعة الصفر للهروب الكبير فقد إختار قتلة غرانفيل توقيتا عبقريا لتنفيذ هروبهم بعد أن تخلصوا من أغلالهم ومن ذقونهم وبدأؤوا يلوجون  أنابيب الصرف الصحي. يتبع.

 

آراء