المشهد الداخلي لهروب قتلة غرانفيل من سجن من كوبر العتيق -4- بقلم: أسعد الطيب العباسي

 


 

 




(الحلقة الرابعة)
بقلم: أسعد الطيب العباسي
asaadaltayib@gmail.com

كان ذلك العامل قد وشى بصديقنا ونقل لإدارة القسم الداخلية بأن أحد قتلة غرانفيل قد إستدعاه بواسطته بالأمس ودار بينهما حديث لم يسمعه، وعندما إستدعت الإدارة الداخلية صديقنا بسبب هذه الوشاية سألوه:
- ماذا كنت تقول لنزلاء القسم (جيم)؟
- كلفني أحدهم بأن أتصل بأولاده لأنبههم كي لا يحضروا لزيارته لأن الزيارة لن تكون متاحة بسبب التنفيذ على ناس سوبا.
- أيوه أمبارح كان عندنا شغل تقيل، لكن الجماعة ديل ما نادو زول غيرك ليه؟ وللا عشان عندك دقن زيهم؟!
- أبدا يا حضرة الصول بس لأني صديقهم وبثقوا بي وهم لا يمكن أن يعطوا شخص آخر رقم هاتف خاص بأسرتهم.
- طيب عشان تاني ما ينادوك وما تمشي ليهم حا أنقلك هسه لى قسم تاني.
بالفعل تم نقل ذلك الصديق إلى قسم آخر بالسجن ملاصق لقسم الرحمة ولكنه كان صغير الحجم ويسمى قسم (المدرسة) وهذا ما فسر لنا غياب صديقنا عنا في ذلك اليوم حتى جاءنا مخفورا في اليوم التالي لأخذ أغراضه لقسمه الجديد.
النقل من قسم إلى آخر ليس بالأمر السهل على نفس النزيل بل يعد أقرب للعقوبة فما أقسى أن تعزل شخصا عن زملائه وتدمر عشرة إمتدت لشهور أو سنوات ليبدأ في نسج علاقات جديدة مع نزلاء لا يعرفهم جيدا ولكن صديقنا إستطاع أن يقنع أحد الضباط بأنه لم يرتكب خطأ حتى يتم نقله إلى قسم آخر وبعد أربعة أيام عاد إلينا ذلك الصديق عاد إلى مجموعته ومكانه القديم والفرحة لا تسعه ولكن هذه الحادثة كان لها ما بعدها حينما اكتمل الهروب الكبير والمثير لقتلة الدبلماسي الأمريكي غرانفيل وسائقه السوداني عبدالرحمن. شغلت تلك الرؤى والذكريات صديقنا عن متابعة أحداث المباراة التي كانت تجري على وطيس حام، ولكن هناك ما قطع حبل أفكاره وتتابع ذكرياته مع بداية الشوط الثاني للمباراة عندما صرخ بعض النزلاء صرخة رجل
واحد: قووون..قوون يا سلام عليك يا غزال يا أسمر. وتداخلت بعد ذلك جمل كثيرة على شاكلة: شفتا بالله هيثم مصطفى جدعا ليهو كيف، شايف مهند الطاهر ختاها كيف.
الهدف أثلج صدور الأهلة وأطلق ألسنتهم بالفرح وآهات السعادة، بينما أصاب الوجوم أصحاب القبيلة الحمراء بين النزلاء فهم يدركون أنهم سيظلوا ولأيام طويلة محل تندر الأهلة إن إنتهت المباراة بهزيمتهم غير أن الصمت كان يصحبه الأمل في التعادل. في ذلك الوقت كان قتلة غرانفيل يحاولون هزيمة ذلك الظلام الأسود الذي كان يقبع داخل تجويف أنبوب الصرف الصحي المؤدي إلى خارج السجن ببطارية صغيرة كان يخنقها الظلام كانوا يسيرون ببطء خلف بعضهم محتفظين بمسافة قصيرة جدا بين بعضهم البعض كان يتقدمهم أميرهم عبد الباسط غير أن الأجواء داخل الأنبوب كانت خانقة وساخنة كسخونة المباراة الدائرة في ذلك الوقت والسائرة إلى إنتهاء ولكن لابد من صنعاء وإن طال السفر، وعندما قطع الرفاق الأربعة المسافة التي تبلغ حوالي ثلاثون متر من نقطة إنطلاقهم المثير الذي عبر بهم بالضبط خلف حائط السجن الشمالي تحت الأرض بدأووا في رفع غطاء المنهول الواقع بين الحائط وغرفة بيع تذاكر الزيارة القريبة من شارع الأسفلت بنحو عشرة أمتار. الأسفلت قادم من داخلا مدينة الخرطوم بحري ومتجه نحو حلة كوكو مارا في إتجاه الشرق تحت كوبري بري الذي يدنو كثيرا من السجن، كان العرق يغطيهم تماما عندما وصلوا لتلك النقطة وما زال الظلام دامسا وعندما إرتفع الغطاء الذي كان يفصل بينهم وبين الحرية والهواء كانت الكرة ترتفع عالية في الهواء من حارس فرقة الهلال إلى ناحية المهاجم مدثر كاريكا فاستقبلها ببراعة وانطلق بها ناحية مرمى المريخ ثم أطلقها لتستقر في شباك المريخ هدفا ثانيا جاء في آخر دقيقة من عمر المباراة. في ذلك الوقت كان الرفاق الأربعة يستقرون داخل سيارة كانت تنتظرهم قرب شارع الأسفلت ومع إنطلاقتها أطلق الحكم صافرة نهاية المبارة المقامة في أستاد المريخ فأطلق الأهلة من النزلاء صيحات مجلجلة: العار العار في عقر الدار النار النار جوه الدار، وهم يجوبون القسم ويدورون فيه ويقرعون على ما في أيديهم من أشياء بتناغم، وكان التلفاز في ذلك الوقت ينقل فرحة الاعبين الأهلة وهم يهنئون بعضهم البعض ويزيلون العرق عن وجوههم بعد أن هزموا خصما شرسا وفرقة مهابة لا يستهان بها، وفي داخل تلك السيارة كان الرفاق الأربعة يمسحون عرقهم أيضا ويهنئون بعضهم البعض بعد أن هزموا حوائط متينة وتحصينات محكمة ونفذوا أخطر وأجرأ عملية هروب عرفتها السجون السودانية في كل تاريخها بل تضاهي أشهر عمليات الهروب العالمية بموجب خطة محكمة وعمل دؤوب لم يفقدوا خلاله حذرهم على مدى ثمانية أشهر. كان صديقهم في ذلك الوقت يتلقى مهاتفة من إبنه المسرور بالفوز مداعبا والده المريخي بلطف وتهذيب ولكنه إضطر لقطع مكالمة إبنه عندما ألصق أحدهم فمه على أذنه وهمس له بإشاعة خطيرة تفيد بأن أحد محبوسي القسم (جيم) قد إنتحر فدخول ضابط وقوة صغيرة وهم يهرولون في مثل هذا الوقت تجاه القسم (جيم) ينبئ بأمر غير عادي فران الصمت على جميع النزلاء أهلة ومريخاب ولكن توالت الإشاعات بعد ذلك وتحول المشهد الداخلي إلى فيلم رعب وتوغل إلى أعمق حالات الإثارة. يتبع.

 

آراء