المكيدة الإخوانية الجديدة

 


 

 

بسم الله الر حمن الرحيم

أمعنت النظر في الاحتفال العسكري لكوريا الشمالية بالسبت، حيث خطب كيم جونق أون الزعيم اليافع ذو الباروكة (المقنطرة) كأنها تاج غرنوك....أمام مئات الآلاف من جنده المدججين والمطأطئين لرؤوسهم والصامتين كأن  على رؤسهم الطير، أو كأنهم في طابور الراحل الأستاذ الريّح الليثي الصباحي بمدني الأهلية الوسطى في مطلع الخمسينات، فأدركت السر في عجرفة وغطرسة وطاؤوسية واستمرارية هذا النوع من الطغاة، وهو:-

1.    قوات أمن نظامية وغير نظامية ذات قيادة عمودية التراتبية ومحكمة الضبط  ومنصاعة تماماً للزعيم الرئيس؛ وإذا بدرت شائبة من طاقمها، مهما كانت تافهة، فإن الردع فوري وحاسم حتى يرعوى الباقون، مثل رئيس هيئة الأركان التسعيني الهرم الذي ضبط غافياً بحضرة الزعيم أون فأمر بإعدامه فوراً، وتم استخدام مدفع مضاد للطائرات لتنفيذ تلك العقوبة.

2.    البربوقاندا.

وتذكرت الرئيس السوداني بعد أن تخلص من كل التحالفات المدنية التي أتت به للسلطة وأبقته فيها لنيف وعقدين من الزمان، وفجأة انقلب عليها وتمنطق بالزي العسكري، وجاء بإبن دفعته بالكلية الحربية وبسلاح المظلات الفريق بكري حسن صالح، نائباً أولاً، واتكأ علي القوات المسلحة وأمن الدولة والمليشيات التابعة له سنداً أساسياً للنظام. ولكنه في نفس الوقت لم ينس البربوقاندا، ومن هذا المنطلق دعا  لمؤتمر السبت، نفس يوم الإحتفال الكوري، وتداعى إليه كل منعرجة ونطيحة وما أكل السبع؛ ولقد اكتفى الرئيس بهذا النوع من البشر لأن العملية برمتها مجرد "علاقات عامة" لا أكثر ولا أقل، جزءاً من برنامج البربوقاندا الذي ما انفك يجدّد الحياة في أوصال النظام. أما رأي المعارضة والوطنيين الموضوعيين مثل د. الواثق كمير والكتاب الإسفيريين والمغتربين المدمنين للماوس  وللمداخلات الإلكترونية المتوالية مثل قواديس الساقية... فهي لا تلامس حلمة أذن النظام  الذى يتظاهر بأنه لم يسمع بها.

وعلى كل حال، قضيت ساعات طويلة نهار السبت أتابع ما سمي بمؤتمر الحوار الوطني، عملاً بوصية الزعيم الراحل محمد أحمد المرضي: إذا رأيت شقاً في الجدار فاتبعه حتى ترى ما وراءه؛ فاستمعت لكلمة البشير الهادئة الملساء الترويجية، حتى كدت أن أنسى حقيقته: أليس هو نفس الشخص الذي فتك بالجنوبيين ولا زال يفتك بأهل دارفور والنوبة  والإنقسنا؟ أليس هو نفس الشخص الذي قال في القضارف قبل بضعة شهور أنه لن تكون هناك شريعة (مدغمسة) بعد اليوم، إنما (شريعة بطريقة الحجاج بن يوسف)؟

ويبدو أن البشير هذا يجيد شيئاً واحداً وهو (لكل مقام مقال)؛ فتجده اليوم بقاعة الصداقة يتحدث  حديث القائد المنفتح على جماهيره والمرتبط بهمومها وأشواقها وتطلعاتها، وذلك عندما قال في آخر الجلسة: "إن الشورة لا تأتي إلا بالخير...إلخ"؛ و لكنه قد يذهب في صبيحة اليوم التالي لافتتاح مسجد بأرض البطانة، أو لمناسبة من هذا القبيل بديار الجعليين، حيث ينصب له مسرح "العرضة"، فيرقص ويخطب أمام تلك الجماهير كقس بن ساعدة أو أبي العباس السفاح، ويتنمر ويستأسد ويزمجر ويهدد  يتوعد خصومه بالثبور وعظائم الأمور، ويسخر من مجلس الأمن ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومن كل الساعين للتوفيق بين الخصماء السودانيين. ولو أخذنا حديث البشير اليوم مأخذ الجد، وأنطلى علينا مشهده الناعم وهو يدير الجلسة بما يشبه الأريحية  والمرونة، كيف نطرد من الذاكرة إرثاً يمتد لست وعشرين سنة من نقض العهود وقلب ظهر المجن لحلفاء الأمس - بل لأولياء النعمة مثل الترابي و ع ع محمد طه اللذين لفظهما لفظ النواة، ونكل بشيخه الترابي حتى (جابه فى القاطر)؟؟ كيف ننسى الالتزام في اتفاقية نيفاشا بتطبيق البنود الخاصة بحقوق الإنسان، بل تضمينها في الدستور المؤقت، ثم تجاهل هذا الموضوع تماماً حتى يومنا هذا؟؟ كل ما في الأمر أن الطغمة الحاكمة، أو قاعها الصخري المستدام منذ 30 يونيو 1989، رضع ثم فطم على سحر إسمه المؤتمرات، منذ المؤتمر الإقتصادي بعد شهر من استيلائهم على السلطة، حتى مؤتمر اليوم؛ وهي سيناريوهات يسبقونها ويلحقونها برازماتاز وضجيج إعلامي مدوي، ويستقطبون إليها ضعاف النفوس والجالسين على رصيف السلطة بانتظار الفتات، كحلية و بهارات تزين حفنة من الكوادر القديمة المضمونة - على الرغم من تهميشها النسبي في عملية توزيع الغنائم؛ ويتم إعداد الأجندة بصورة ذكية  وثعلبية بحيث يظن الكثيرون أنهم سيجدون فيها ما يصادف هواهم، ثم تضبط عملية المناقشة والمداخلات بعقلية استخباراتية ماهرة وصارمة، ويتم التضييق والحصر فى فرص المداخلات بدعوى الزمن. وعادة ما يتم إغراق المؤتمر بمئات المشاركين الذين لو وزعت عليهم الفرص بالتساوي لن يجد أي منهم أكثر من دقيقة أو دقيقتين ليدلي بدلوه؛ وأخيراً يخرج المؤتمر بمقررات وتوصيات وإعلان معد سلفاً.

    ولقد تقدم عبد الرحمن الصادق المهدي بإقتراح بتكوين لجنة تذهب للخارج و(تحنّس) الرافضين أن يعدلوا موقفهم ويلحقوا بأوكازيون الحوار الذى سيستمر لثلاثة شهور، وقد أيده علي مهدي الممثل، وأجازه رئيس الجلسة؛ وهو في الحقيقة ذريعة يرضي بها عبد الرحمن ضميره: إذ كيف يقبل لنفسه أن يكون جزءاً  من نظام سجن وشرد أباه  وكسر يد شقيقته ووضعها وأخواتها في السجن عدة مرات. هذا الموقف هبط بعبد الرحمن في عين أهل السودان، كما شكك في موقف أبيه: كأن المسألة توزيع للأدوار، مثلما فعل صهرهم حسن الترابي ليلة الإنقلاب المشؤوم حينما اتفق مع البشير: يذهب أحدهما للقصر الجمهوري ويذهب الآخر إلى سجن كوبر. ولا ينطوي الإقتراح على شيء جديد، سوى المزيد من السفريات والبير ديام والفنادق للوفود، ولقد جاء في صحف السبت أن مصاريف الوفود الرسمية السودانية فاقت الثمانية مليارات من الجنيهات خلال الشهرين المنصرمين؛ وهؤلاء الناس يتعاملون مع المال العام بمبدأ (جلداً ما جلدك جر فوقه الشوك) و (دار أبوك إذا خربت شيل ليك منها شلية).

    و لما جاء الرئيس للكلمة التي اختتم بها جلسات اليوم، كان آخر ما نطق به هو الآيات الكريمات: "والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وتواصوا بالحق. وتواصوا بالصبر."، مستخدماً الرمزية التي تجيدها عصبة القاع الصخري الإخوانية الجالسة على صدر السودانيين لفترة الست وعشرين سنة المنصرمة: إذ من المعروف جداً أن هذه السورة هي المانترا التي يبدأ ويختم بها الإخوان المسلمون اجتماعات "الأسرة" وكل الفعاليات الخاصة بهم، ولقد حرص البشير على وضع هذا التوقيع عند نهاية الجلسة متناسياً أن هناك أصحاب ديانات أخرى وسط الحضور، كأنما يريد أن يذكر الجميع أنهم في الحقيقة داخل جحر الثعالب، وعليهم أن ينصاعوا لقوانين الثعالب و بروتوكالاتهم.

    وأذكر أن السيد الصادق المهدي كان قد مر بأبوظبي مباشرة بعد توقيع اتفاقية جيبوتي 1999 التي فارق بموجبها حزب الأمة التجمع الوطني الديمقراطي وعاد لحضن  الإخوان المسلمين شريكاً في السلطة السيادية والتنفيذية والتشريعية.
    وأقيمت ندوة بهذه المناسبة بالنادي السوداني تحدث فيها السيد الصادق مدافعاً باستماتة عن الصلح الذي تم، وكانت لدي مداخلة قلت فيها: ( أرى يا سيد الصادق أنكم مقدمون على وكر الثعالب، ومن يدخل هناك فسيرضخ لقوانين الثعالب، وإلا فسوف يتعرض للمرمطة و البهدلة). و لقد رد علي السيد الصادق رداً أضحك الجمهور، إذ قال: (نحن نقول تور... و الأخ الفاضل يقول احلبوه!) و حتى الآن لم أفهم تلك العبارة تماماً، ولا لماذا ضحك الجمهور. مهما يكن من أمر، يبدو أن من يضحك أخيراً يضحك كثيراً.

    إن المسألة لا تحتاج لوفود تقوم وأخرى تجلس، إنما لمطلوبات محددة جأرت بها المعارضة كثيراُ، وأصبحت مألوفة لدرجة بعيدة:

-    إطلاق الحريات وإلغاء القوانين القمعية و إفراغ السجون من المعتقلين السياسيين.

-    وقف إطلاق النار و فتح الممرات الآمنة للإغاثات.

-    تكوين حكومة قومية للفترة الانتقالية التي ستكل بالدستور الجديد وبالانتخابات النيابية والرئاسية....الخ.

و يمكن أن يتم إعلان هذه القرارات اليوم، بلا حاجة لتلك الوفود، وللمؤتمر الحالي نفسه. أما إذا انحصر الأمر في الوساطات والجودية، فذلك يعني محاولة الاتفاق على مسائل غير مبدئية، كأننا بصدد صفقة بيع أو شراء تكتنفها المجابدة والتى واللتيا والقسم بالطلاق.

إذا كنا فعلاً جادين في المحاولة للخروج من النفق الراهن، وفي درء الفتن والتشظى  والصوملة المحدقة بالبلاد، يتعين علينا أن نكون واضحين و مباشرين في تحديد الداء ووصف الدواء. إن الجميع متفقون على كنه الأزمة التي حلت بالبلاد، والتي جاءت نتاجاً تراكمياً لربع قرن من أسلوب الحكم الخاطئ، إذ أراد الإخوان المسلمون أن يطبقوا شرع الله بالطريقة التي تروق لهم وحدهم، والتي اتضح أنها مجرد عملية تمكين سلطوي واقتصادي لهم ولرهطهم وأقربائهم، وفي سبيل ذلك ضحوا بالوطن ومصالح الوطن، فذهب الجنوب بقضّه وقضيضه، وتكاد أن تلحق به دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق؛ وغادر المستثمرون النزيهون البلاد، وحل محلهم زمر وعصابات من السماسرة العرب  والمصريين شركاء اللصوص الكبار بالمؤتمر الوطني؛ ولقد تم تدمير مشروع الجزيرة  والسكة حديد والخطوط الجوية والبحرية والنيلية، والزراعة الآلية والتعليم والخدمات الصحية، ولم يبق من مظاهر الدولة شيء سوى الشراذم الحاملة للسلاح التي تحرس النظام، تماماً كفلول معمر القذافي.

أما وصف الدواء، فيكمن في جملة واحدة: زوال النظام الراهن، إما باستقالة يتقدم بها البشير عبر التلفزيون، أو بثورة شعبية على غرار أكتوبر 1964 وأبريل 1985. ومن ثم يجلس الجميع حول مائدة مستديرة لكي يتفقوا على الحكومة الانتقالية المحايدة، وبرنامجها وسقفها الزمني، وعلى الإجراءات المصاحبة لها، وهي إلغاء القوانين المقيدة للحريات... الخ.

هذا ما يدور في خلد غالبية الوطنيين السودانيين، ولقد حدثت نقلات تاريخية مثل هذه من قبل - في أكتوبر وأبريل المذكورتين، ولكن الجيش كان دائماً هو العامل الحاسم الذي يظهر في اللحظات الأخيرة. و كذا الحال في ثورة مصر بآخر يونيو 2013. ونحن كذلك نتعشم بأن تكون هنالك بقايا من جيش السودان.... تتدخل في اللحظة المناسبة، بعد هبة الجماهير، لتنقذ بلادها من هؤلاء الشياطين المسمون بالإخوان المسلمين.


و السلام

 <fdil.abbas@gmail.com>;

 

آراء