النهاية (4/5): ما بين تمرد الجنرالات … و”فَريِّشَّة” المبادرات

 


 

 

حكى التاريخ في كتابه "غداً":
..ولم أشاهد منذ أول اجتماع بشري، منذ ما قبل تأسيس الدول وصناعة الدساتير والقوانين مثيلاً لما حدث في دولة كان يطلق عليها اسم السودان.
رأيت قائد جيشها يتمرد على قانون القوات المسلحة ويخون قسم تخرجه ضابطاً، وينتهك دستور الدولة ويغتصب سلطة الشعب التي أوكلت إليه حراستها !!.
وهذه لم تكن سابقة حصرية ينفرد بها جيش السودان. فقد سبقته في هذا المضمار جيوش في غيره من دول العالم الثالث، وفي دول العالم الثاني. وفي جيوش دول عاصرته. بل حدث من جيوش أعقبته وجاءت بعده فعلت هذا، وعلى ذات النمط. ولكن جيش السودان انفرد دون جيوش العالم بسابقة غير مسبوقة قبل.
فقد أعلن قائد الجيش ومن يحيطون به الحرب على الشعب !!.

(2)
- لم يطالب سلمياً بأراضٍ احتلتها دول مجاورة. كما لم ينشغل – مثلما تفعل كل الجيوش – بالإعداد لاستردادها بالقوة. بل سمح لجيوش الاحتلال أن تجري على أرضه وسماءه مناورات عسكرية !.
- لقد تقاعست قيادة جيش الدولة الرسمي، كما تقاعست أجهزة الدولة الأمنية على كثرتها تحت سلطة قائد الجيش، عن مهمتهما الرئيسية بحماية حدود البلاد وأمنها القومي، فغزتها واستباحتها مجموعات إثنية من بعض الدول المجاورة، وأعملت في أهلها تقتيلاً وتهجيراً قسرياً، واحتلت ديارهم.
- وترك حبل الفوضى الأمنية على غاربه، فاقتتلت المجموعات الإثنية المحلية، وغزت بعضها بعضاً، بدعم من جهات رسمية وشبه رسمية داخلية، وبعضها بدعم من مجموعات إثنية خارجية.
- كما تغاضى عن مخاطر وجود قوى مسلحة، خارج سلطة الدولة – التي نصب نفسه ملكاً عليها يتمتع بكافة سلطاتها السيادية، والتنفيذية، والتشريعية، والقضائية – ، بل قد تحالف معها بوثاق، وهي على وضعها القانوني، خارج سلطة الجيش. وأطلق لها حرية نهب موارد الدولة خارج ولاية سلطتها المالية. وترك لها حرية العبث بأمن الوطن والمواطنين، فانطلقت مسعورة تقتل وتهدد وتنهب وتغتصب نهاراً جهاراً، وتعيث فساداً بلا رقابة أو محاسبة.
- وأطلق يد العصابات الإجرامية من القتلة واللصوص الذين يجوبون الشوارع نهاراً ويقتحمون المحال التجارية والمنازل على مرأى ومسمع من أجهزة الدولة الجرارة.
والمؤسسة التي بيدها السلاح وشرعية استخدامه يقف ضباطها وجنودها الأحرار عاجزون، بحكم قوانينها الصارمة التي تُجرِّم التمرد، وعدم تنفيذ الأوامر حسب التراتبية العسكرية.
أدخل قائد الجيش المتمرد البلاد في نفق اللادولة، ثم جند كافة تشكيلاته، وكافة أجهزة الدولة المسلحة، وأعلن الحرب على الشعب – صاحب السلطة الحقيقي ومصدر الشرعية – الذي ينادي باستعادة الدولة وبالحرية والعدالة !!.

(3)
في مواجهة هذه القوى التي تستقوي بالسلاح للتنكيل بالثوار بالقتل خارج القانون، والتعذيب، واقتحام منازلهم واختطافهم دون تمييز جندري، وتدبر المكائد وتلفق التهم بالقتل زوراً بحق الشباب الثوار.
في مواجهة هذا الطوفان الجارف من الإجرام يتدفق سيل من المبادرات طرحتها القوى المدنية على اختلاف مواقعها من المسرح، واختلاف مواقفها مما يجري:
- بعضها هو نفسه جزء من الأزمة والمخطط الجهنمي، مثل الحركات المسلحة (بتاعت جوبا).
- وبعضها كالاتحادي يتماهى بالتبعية مع مخطط القوى المسلحة طمعاً في فتات السلطة.
- وبعضها (كراع جوا وكراع برا) مثل حزب الأمة.
- وبعضها انتهازي كالشيوعي يسعى لتجيير المد الثوري لصالحه، يرفع شعارات لجان المقاومة ويحاول الإيحاء بأنه من يقود الثورة وبأنه البطل في هذا المشهد، وكما قالت رباح الصادق المهدي بأن البطولة التي يدعيها البعض، (وفي الأغلب تعني الحزب الشيوعي) "يصنعها ويقتل فيها الثوار ويعلقون (تقصد من تعنيهم) على الدماءِ لافتاتهم (مجانا)" (1).

(4)
لقد اكتظت الساحة بالمبادرات وبدا الأمر أشبه بسوق (جايط) يزدحم بـ""الفريشة (مع الاعتذار إن كانوا يستشعرون في تشبيه السياسيين بهم إساءة أو استصغارا لهم)، الذين ينادي كل منهم بمبادرته/ بضاعته بأعلى ما يملك من صوت، وقد تراكمت المبادرات في السوق السياسية حتى وصل عدد المعروض منها حتى الآن (76) مبادرة عاطلة، فيما بلغ العدد الكلى للمبادرات المشاركة (32) ضمت قوى سياسية ومجتمعية وأكاديمية وأهلية وشخصيات قومية. حسب تصريح الكوز محمود زين العابدين مدير المركز الافريقى لدراسات الحوكمة والسلام والتحول، صاحب مبادرة التوافق ومهندسها،(2) لدى استعراضه وثيقة التوافق الوطني التي يقودها حزبا الأمة والاتحادي، بزعامة برمة والميرغني، وضمت في من ضمت جمع من الأحزاب والكيانات ومنظمات تابعة لتحالف الحرية والتغيير – الوطني وهلمجرا، من التابعين بغير إحسان.
المبادرة لم تحز على موافقة واستحسان البرهان والمكون العسكري والتابعين له فقط، بل هم من كانوا وراء صياغتها، فقد كانت آخر قشة يتعلقون بها من الغرق بعد أن أغلقت أمامهم كل الأبواب في الداخل، ولم يجدوا لهم نصيرا في الخارج، سوى من حرضوهم، وأوعزوا إليهم بالانقلاب، وهم لا يملكون في الداخل أيضاً في الداخل ظهيرا.
ومثلما نجحوا من قبل في تمزيق واختراق وشق صف الحاضنة السياسية الأولى بشقيها المدني والمسلح، بالتلويح بكرت السلطة، يحاولون اليوم وعبر طبخة هذه المبادرة الفاسدة، أو هي – كما وصفها الكاتب نجيب عبد الرحيم – "بيض في سلة مثقوبة"، أن يشقوا في غفلتهم مرة أخرى صف قوى الثورة والتغيير، ناسين أو متناسين، أن الكرة الآن أصبحت خالصة لقوى الثورة الحيَّة، وأن الجميع عدا شباب اللجان إنما هم مجرد كومبارس في المسرح، ولاعبون في دكة الاحتياط. وقد سبق وقلتها من قبل: " ينسى الكبار أن لاعب "الاحتياط" بالأمس، هو الآن "رأس الحربة" في فريق الثورة اليوم !. (3)
لقد قلتها من قبل، ولكنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصرّوا، واستكبروا استكبارا.

(5)
إزاء هذا الواقع لا أمل في فتح أفق لحل يجنب البلد الانهيار والتفكك والتلاشي، سوى إزاحة هذه القوى، مجتمعة، عن واجهة المشهد السوداني. وقد قلت من قبل أن إزالتهم واستعادة الدولة من بين أيديهم، واهم وغافل من يظن أنها عملية سهلة وبسيطة. لأنهم سيتشبثون بمواقعهم في السلطة مهما كان الثمن وبلغت التضحية.
والحل ؟؟.
كل المبادرات تجمع – ويتفق معهم حتى قائد الانقلاب نفسه – بأن الحل يكمن في توحُّد القوى السياسية والعبور بالمرحلة الانتقالية إلى الانتخابات.
وهذا حلٌّ، وفق معيطات الواقع، يبدو إما ساذجاً، أو مراوغاً ومزيفاً.
- أولاً: لأن المكون العسكري وحلفاءه في الحركات المسلحة لا يعنونه. فهم من مزق وحدة القوى السياسية بدءاً.
- وثانياً: لأن هذه القوى السياسية ذاتها، ممثلة في أحزابها السلطوية عاجزة بنيوياً عن التوحد. وقد فصلنا ذلك أكثر من مرة، وفي أكثر من موقع.
- ثالثاً: وهذا هو جوهر القضية، أن ما يجمع المكون العسكري وتابعيه مع القوى السياسية المدنية، هو أنهما يتصارعان لوراثة السلطة، دون مساس ببنية الدولة، أو تغييرها.
وإذن لم تبق سوى قوة واحدة مؤهلة للعب هذا الدور وإنجاز هذه المهمة الصعبة، وهي قوى الثورة الحيَّة، وعلى رأسها وفي مقدمة صفوفها لجان المقاومة.
والمعركة الحقيقية لهذه لقوى الشبابية تتمثل في إعادة تأسيس الدولة، فيما يسعى غيرهم لتدويرها وإعادة إنتاجها !.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
إذن كيف يدير الشباب وقوى الثورة الحيَّة معركتهم ؟.
وإنها لمعركة قاسية وطويلة لا شك.

ونواصل

مصادر وهوامش
(1) رباح الصادق المهدي، توقيع برمة وسخرية رشا، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ 20 أبريل, 2022. (نقلاً عن صفحة الاستاذة رباح على الفيس بوك).
(2) وهو كما وصفته رباح في كلمتها المشار إليها: " في سيرته عروقاً دساسة كثيرة: دباب، أمنجي، منسق خدمة وطنية، إنقاذي، وهلم جرا". المصدر السابق.
(3) حتى لا تضلُّ بوصلة اللجان: في استعادة ذاكرة الثورة (1/ 3)، سودانايل الرقمية، نشر بتاريخ: 04 كانون1/ديسمبر 2020.

izzeddin9@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء