النهاية (5/6): والحل لسهولته، أقرب للاستحالة !!
عز الدين صغيرون
1 May, 2022
1 May, 2022
حسنا لقد تم إسقاط وثيقة التوافق، وفشلت حيلة اختراق القوى المدنية لفك عزلة الانقلابين المستحكمة، بعد ان تنصل منها جميع الموقعون عليها. ولا أري كيف غاب عن ذهن من وقعوا ثم تنصلوا، أن الفكرة من أساسها محكوم عليها بالموت وبالفشل، لأنها "ردة"، وعودة إلى طريق جربه الناس وكان حصاده الواقع الذي نعيشه اليوم ؟!.
ألا يبدو لك ذلك غريباً؟!!.
(2)
ولكن، حتى فشل هذه المبادرة التي ولدت ميتة لا يضيف شيئاً، عدا أن يؤكد ما هو مؤكد.
ولكنه في سياق الإجابة على السؤال: كيف يدير الشباب وقوى الثورة الحيَّة معركتهم ؟. الذي بطرحه اختتمنا الحلقة السابقة من هذا الحديث. وأوضحنا فيه بأن: " المعركة الحقيقية لهذه لقوى الشبابية تتمثل في إعادة تأسيس الدولة، فيما يسعى غيرهم لتدويرها وإعادة إنتاجها"(1).
والحال، أن سقوط مبادرة الوفاق الوطني وتنصل الموقعين عليها يؤكد حقيقتان، ويرسخ نتيجة منطقية:
• الحقيقة الأولى هي: حيرة، وضعف، وارتباك، وتخبط المكون العسكري، ومن تحالفوا معه في الانقلاب من القوى السياسية المدنية والحركات التي وقعت معه اتفاق جوبا.
• الحقيقة الثانية هي: تأرجح رؤى ومواقف بعض القوى السياسية الحزبية وما يسمى بالشخصيات الوطنية!، وتذبذبها ما بين خيار الشراكة مع لجنة الإنقاذ الأمنية، وما بين اقتلاعها، واستعادة الدولة من ثَّم.
الأمر بهذا الوضوح:
إنهما معا يسعيان لتدوير وإعادة إنتاج النظام الذي دفع الشعب السوداني ثمناً غالياً من أرواح ودماء بنيه وبناته من أجل اقتلاعه واستعادة دولته منهم.
وبالتالي: هؤلاء يمثلون القوى المضادة لمشروع التغيير وتأسيس الدولة الحديثة.
إنهم القوى المحافظة (قوى الأمر الواقع)، التي تدافع عن النظام البائد والدولة القديمة لارتباط مصالحها باستمراره إلى الأبد.
أما النتيجة المنطقية لذلك فهي:
أن أمام الشباب وقوى الثورة الحيَّة تحديان. أو قل، أمامهما سانحتان، لإنجاح الثورة وتحقيق أهدافها.
أحدهما تحدٍ سياسي حزبي، والآخر سياسي على المستوى العام.
(3)
نتحدث عن أولهما
ما من شك أن شابات وشباب لجان مقاومة الأحياء لا يمثلون كتلة متماثلة لا على المستوى الإثني، ولا على المستوى الطبقي، ولا على المستوى الثقافي ... الخ. وبالتالي فإنهم متعددو الانتماءات الصغرى (الإثنية ، الدينية، القبلية ...الخ) ويقيناً يوجد بينهم الكثيرون ممن لهم تجارب سياسية وينتمون لأحزاب سياسية – تقليدية سواء أن كانت أو حديثة، أحزابهم هذه – ، وبالتالي هم ملتزمون برؤية أحزابهم وسياساتها ومواقفها من الأحداث.
ولكنهم مع ذلك يشكلون كتلة حرجة. بل وكتلة حاسمة في إدارة وتحديد مسارات الصراع السياسي الآن، وربما يكون الكاتب مامون التلب أبلغ من عبر عن مدى وعمق تأثير كتلتهم حين أطلق عليها "حكومة لجان المقاومة السودانية". فهي التي حكمت، حين "اختفت ملامح الدولة بالعجز عن تكوين حكومة حتَّى، وعدم وجود قوَّة في الأرض سوى قوّة السلاح من ناحية، والسلميّة من ناحيةٍ أخرى".
لقد اختفت معالم الجسم السياسي للدولة (فلا وجود لسلطات تنفيذية أو تشريعية أو قضائية مستقلة) ولم يتبق لها من الاحتضار سوى عرق واحد ينبض، هو نبض شبابها الحي في الشارع.
ينبهنا التلب مشكوراً إلى أن هؤلاء الشباب، من الجنسين، يحكمون السودان فعليّاً، " بدايةً بجداولهم التي تُحدّد حركة السير في المدن، وفي الخرطوم تُغلِق الكباري، تؤجِّز للبعثات الدبلوماسيّة والأجانب، وتُطلق طلاب المدارس قبل موعدهم في الواحدة ظهراً، بل أحياناً، بتضامن الأساتذة والأستاذات، يُلغى اليوم كاملاً.
"في هذه المدّة وقع حدث دوليّ كذلك، إذ أصبحت الأمم المتحدة نفسها تخاطب قيادة هذه الحكومة وترد عليها القواعد عبر منصّات نُصبت في تقاطعات الشوارع الكبرى. لأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة تتعامل، رسميّاً، مع أجسامٍ امتلكت شرعيّتها – كحكومة فعليّة – من فعل المقاومة وحده" (2).
(4)
ما الذي جعل منهم كتلة لا تقهر، بهذا التماسك وبهذه الصلابة ؟.
إنه الحلم.
وهو حلم قديم، رآه وهو في قمة وعيه، ويقظة حسه الوطني، علي عبد اللطيف ورفاقه في جمعيتي "الإتحاد" و "اللواء الأبيض" ورتل من الشهداء من الضباط والجنود السودانيين. وتواصلت رؤية الحلم في وعي الأجيال التي تعاقبت مروراً بأكتوبر 1964 وأبريل 1985 حيث تبلور فيها شعار: مليون شهيد لوطن جديد. إلى أن نهض الحلم ذاته في ذاكرة هذا الجيل، والذي استطاع بوعي استثنائي أن يحدد ملامح هذا الحلم في دولة الحرية والسلام والعدالة، دولة المواطنة، المدنية.
إذن فإن التحدي / الفرصة أمام شباب الأحزاب أن ينشطوا داخل أحزابهم لترسيخ هذا الوعي الجديد، والعمل مع الكبار بهذا الفهم، وتوسيع مواعين المشاركة في القرار الحزبي الذي ينبغي أن يعبر عن رأي القاعدة. وذلك لن يتحقق إلا أصبحوا داخل أحزابهم قوى ضغط قاعدية
عليهم باختصار أن يستغلوا قوتهم الضاغطة داخل الحزبب ليشاركوا في القرار الحزبي، لا أن يتحكموا ويسيطروا على القرار الحزبي، بل أن يكنوا شركاء في اتخاذه بالحوار والإقناع.
فهذه هي الديمقراطية التي تفتقدها الأحزاب السياسية، ولكنها تجيد التغني بها. وهذه هي الوسيلة الوحيدة للإصلاح الحزبي، وتأسيس الديمقراطية داخل هذه الأحزاب المحنطة، المتخشبة.
فالأحزاب ضرورة لا غنى عنها في أي دولة بنظام ديمقراطي، لكن هذا يعني بالضرورة أن تكون الأحزاب ذاتها مؤسسة ديمقراطية.
(5)
أما التحدي/ الفرصة الثاني والذي وصفناه بالسياسي العام فهو تنظيمي، بشكل من الأشكال.
فإلى جانب مواصلة الضغط السياسي السلمي في الفضاء العام، والذي يحتاج إلى مزيد من التشبيك للتعبئة وبرمجة المسيرات مع اللجان في كل البلاد.
فعلى العاصمة/ المركز أن لا تحتكر منفردة تحديد مناسبات وبرامج المسيرات، وإن كانت تلعب دور المنسق لأسباب تقنية موضوعية. تأكيداً وترسيخاً لفكرة ومبدأ اللامركزية.
فعلى سبيل المثال. إذا رأت أي لجنة في منطقة من مناطق السودان ضرورة تنظيم مسيرة لمناسبة أو حدث له علاقة بأهداف الثورة (دعماً لترس الشمال، أو احتجاجاً على مجزرة كرينك، أوو مساندة لمحاكم الثوار في عطبرة كأمثلة)، ينبغي التنسيق مع لجان العاصمة/ كمركز تنسيقي مع بقية الولايات لتحديد المسيرة وتوحيد الشعارات.
لكن، ما ربما يكون أهم من ذلك، هو تنظيم الاتصال والتواصل بين الشباب في كل مناطقهم بالسودان، وإدارة الحوار بحب وشفافية بينهم وتبادل الرؤى والأفكار حول مستقبل السودان، وتبني المبادرات الاجتماعية والثقافية الخلاقة والبدء في عملية بناء السودان الجديد. وكما يقال فإن المستقبل يبدأ الآن.
(6)
أتدري ما الفرق بين هذه الثورة والثورتين السابقتين في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 ؟.
ثم الفرق بين قوى الثورة الشبابية وبين المكونين العسكري والمدني/ الأحزاب؟.
ثورة الشباب اليوم عينها على الدولة.
بينما عين ثوار الأمس، والمكونين الحاليين على الفكرة التي تتأسس عليها الدولة، وليس الدولة بحد ذاتها.
الشباب ينظرون إلى الدولة كـ"ماعون" يسع الجميع، ويجد الجميع فيه أنفسهم.
ماعون يجد فيه كل سوداني حاجته من الحرية والأمن والسلام والعدل والعيش الكريم.
بينما في أذهان غيرهم من العسكر وأعضاء النادي السيادي، فإن الدولة مجرد ظل يطابق الفكرة التي في أذهانهم.
الفكرة التي في الأذهان هي المثال الذي ينبغي أن تجسده الدولة في الواقع عياناً.
ماهية الدولة تسبق وجود الدولة.
هل رأيت خطلاً أكثر من ذلك ؟!!.
هذا ما ينبغي أن يفكر فيه الجميع.
ولن يعيبنا أن نتعلم من صغارنا إنما العيب، كل العيب، أن نغلق عقولنا ولا نتعلم.
أتدري لماذا لازم الفشل النخب السياسية والفكرية العربية في أن تقيم حتى اليوم دولتها المستقرة والمستدامة؟.
إنه نفس السبب: هوية الدولة تسبق وجودها.
ولأن لكل إنسان صورته الخاصة لهوية الدولة التي تعبر عن هويته الصغرى (دينية، إثنية، جهوية، أيديولوجية فكرية سياسية) أياً كانت هويته الصغرى، فإن الصراع بين الصور والرؤى لن ينتهي.
وإذا حدث وانتصرت أي هوية صغرى، فإن الصراع بينها وبين الرؤى الأخرى سينهك الدولة ويفت من عضدها ويضعفها، لتنهار من الداخل، دونما حاجة لعدو يغزوها من الخارج.
(7)
حسناً.
إذا فهم الجميع هذا، وهو فيما أظن واضح لا يتغالط فيه اثنان. فإن الحل للمشكل السوداني، الذي لا حل غيره، هو، أن يتوافق الجميع على خيار: الدولة أولاً.
الدولة. ليس "قبلها" فكرة أو أيديولوجيا.
الدولة. وليس "معها" أي صورة أو تصور.
ولتبق الأفكار والأيديولوجيات والصور في رؤوس أصحابها. تخرج لتتصارع سلمياً/ ديمقراطياً في ساحة دولة مكتملة الأركان وقد استوفت كل اشتراطات واستحقاقات الدولة المستدامة المستقرة التي يتمتع فيها الجميع بالحرية المسؤولة والعدالة والفرص المتساوية
على الورق ونظرياً يبدو هذا الأمر منطقياً وسهلاً وممكنا. بينما على واقع ما عليه الحال الآن على الأرض يبدو صعباً وشاقاً، إن لم نقل مستحيلاً، بالنظر إلى تكلفته العالية.
لماذا هذا الحل رغم بساطته وبداهته وسهولته يبدو أقرب للاستحالة، ما يجعلنا نردد المقولة المتداولة: هذا أو الطوفان، بالنظر غلى ضرورته القصوى كخيار أوحد لا بديل له سواه ..فالنهاية؟!.
وما الذي يعترضه، وسيناريوهاته المحتملة؟.
نواصل.
مصادر وهوامش
(1) النهاية 4/ 5،: ما بين تمرد الجنرالات و"فَريِّشَّة" المبادرات،
(2) حكومة لجان المقاومة الانتقاليَّة، بقلم: مأمون التلب، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ 13 ديسمبر, 2021.
izzeddin9@gmail.com