النور حمد: نعيش أزمة فكرية طاحنة ونقتات فتاتا فكريا لا يسمن ولا يغني من جوع .. حوار صلاح شعيب

 


 

 

حوار مع النخب (1): الدكتور النور حمد لـ"الأحداث":

  

رزء السودان منذ فجر الحركة الوطنية بضعف القيادات

 

لقد قطعت قوى المعارضة شوطا كبيرا في مسيرة الخروج من المراهقة إلى النضج

 

تم قفل الأبواب منذ الاستقلال على الأجيال الجديدة في سائر المجالات

  

حوار: صلاح شعيب

  

كيف تقرأ المستقبل السوداني على ضوء مجريات الواقع السياسي، هل هناك ما يدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بالوصول إلى حل للإشكال المجتمعي السوداني التاريخي؟

  

أنا متفائل وأظنني سوف أبقى متفائلا. فقديما قيل: ((ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل)). وقيل أيضا: ((تفاءلوا بالخير تجدوه)). غير أن تفاؤلي لا يقوم على مجرد التمني أو التهويم الحالم وإنما على إيمان روحي عميق بغلبة الخير على الشر في نهاية المطاف. فالإنسان مفطور على الخير وما الشر سوى عارض طارئ سببه الجهل وقصور الرؤية. نعم، حالة الواقع السوداني الراهنة حالة شديدة التعقيد وشديدة الاحتقان، وربما ترسل بالكثيرين إلى حافة اليأس. غير أن الدخول في مرحلة اليأس يمثل في حد ذاته بشارة بدنو وقت الفرج.. ورد في القرآن الكريم: ((حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبُوا، جاءهم نصرنا)). من الخطأ أن نعتمد على صورة الواقع المتشكل وحدها حين نحاول رسم صورة المستقبل. فاعتمادنا في رسم صورة المستقبل على صورة الواقع ربما قادنا إلى اليأس والقنوط. وصورة المستقبل صورة تسهم في رسمها عناصر بعضها نستصحبه من تجارب الماضي وبعضها الآخر يأتي من المستقبل. هكذا قال الأستاذ، محمود محمد طه، الرجل صاحب البصيرة. ذكر ذلك حين أشار إلى كارل ماركس ناعيا عليه ظنه أن مستقبل البشرية سوف يكون بالضرورة امتدادا لصورة ماضيها، فقرر أن العنف سوف يبقى على الدوام لازمة من لوازم التغيير. باختصار شديد، أنطلق في تفاؤلي بشأن السودان وبشأن الكوكب بشكل عام من إيمان عميق بالبشارات القرآنية وبإنسان السودان الذي لا ينفك يفيق من غفواته ويخرج من الرماد فتيا كطائر الفينيق الأسطوري.

 

"....................................................."

 

الكون والحياة الإنسانية على ظهر هذا الكوكب لا تمثلان ظاهرة عشوائية. الكون والحياة الإنسانية على ظهر كوكب الأرض تمثلان كلا متكاملا ظل يسعى إلى التوازن على الدوام. وهذا الكل بالغ توازنه وسلامه لكونهما قدره المقدور. المظالم والعنف والعسف والضيم اختلالات طارئة سببها جهل الناس بما ينفعهم. بل قل تحديدا سببهها جهل القلة الأنانية التي ظلت متحكمة في مفاصل السلطة والثروة عبر التاريخ الإنساني بالغائية المشرجة في بنية الكون. وينطبق هذا الحال على سائر النخب الممسكة على مفاصل السلطة والثروة في أرجاء الأرض التي يجمع بينها الجهل بالله والجهل بالإنسان. ولا أريد أن يفهم من حديثي هذا أن الرسم البياني لتطور الحياة الإنسانية قد كان صاعدا على الدوام، أو أنه سوف يظل صاعدا على الدوام من غير أية  انحناءات . فالتاريخ يقول إن البشرية قد دخلت عبر تاريخها في غياهب شديدة الظلمات، ولكنها ما لبثت أن خرجت منها. فالرسم البياني للنمو الروحي للإنسان على ظهر الأرض قد ينزل هنا وهناك، غير أنه في عموم أمره يبقى صاعدا. بعض هذه الهبطات ربما استمر لقرون. وفي حالتنا السودانية فإن التراجع الكبير الذي أصاب العلوم والفهوم وأصاب الحيلة والقدرات هو الذي قذف بنا في هذا التيه الطويل الذي أعقب سقوط الحضارة النوبية في كرمة ومروي واستمر يسم حياتنا بميسمه حتى اليوم. وأعود إلى الإجابة على سؤالك بشكل مباشر فأقول: نحن الآن في السودان أقرب من أي وقت مضى إلى الخروج من حالة الغيبوبة التي ظلت تلفنا!! نحن في نهايات مرحلة المخاض السابقة لميلاد أمتنا. فأمتنا لم تولد بعد. ولكنها على وشك أن تولد. ويوم تولد فإنها لن تولد طفلة صغيرة غريرة، وإنما سوف تولد غادة ناضجة، كاملة العقل، كاملة الجسد، كاملة الروح. لدينا موروث روحي عظيم لم يتم تفعيله بعد. هذا الموروث الروحي ينتظمنا جميعا من أقصى جنوب البلاد وحتى أقصى شمالها ومن أقصى شرقها حتى أقصى غربها. هذا الموروث الروحي ينتشر فينا عبر حواجز اللون واللغة والعقيدة والإثنية. إن هويتنا لهي هذا الروح الجامع الذي ينتظمنا وراء تخوم العقيدة الضيق، غير أننا عنه عمون.

 

"......................................................"

 

هناك مسارع في حياة الأمم وقد دخلنا نحن السودانيين نطاق المسارع في تاريخينا. الأمور أخذت تسير بوتائر متسارعة. وقد أخذت بعض جيوب الظلام في التعرض للضوء الباهر. أستطيع أن أقول مثلا إن اغتيال الأستاذ محمود محمد طه قد أوصد باب القتل بسبب الرأي في السودان، وإلى الأبد. كما أستطيع أن أقول إن حقبة "بيوت الأشباح" المظلمة قد أغلقت فصل ملف تعذيب الخصوم السياسيين في السودان، أو كادت. أيضا، أنهت حرب الجنوب ومن بعدها حروب دارفور رعونات الدولة المركزية التي كانت تظن أن بوسعها إخضاع كل أهل المطالب بقوة السلاح. ومن يراقب بدقة يرى الآن أنه لم يبق للدولة المركزية السودانية سوى ملاذات الحيلة والمكر والمكيدة. هذه الملاذات المؤقتة سكنت الدولة السودانية القائمة الآن مستنقعها منذ حين. ولكن هذا المستنقع سوف لن يطيب ولن يتسع لها طويلا. لسوف يجف هذا المستنقع وستجد نفسها مضطرة إلى الخروج منه. فقد تزحزت أبواب الحيل والمكائد والمكر للانغلاق هي الأخرى أيضا. انغلقت أبواب الكيد والمكر والحيلة في وجه أمريكا، أكبر قوة على وجه البسيطة، فما بالك بحكومة السودان المسكينة!

   

".............................................."

 

كل ما كان بالأمس غارقا في حنادس الظلام، سوف يصبح ملقى اليوم في باحات الوضح وعلى قارعة الطريق. قال الشيخ عبد الغني النابلسي: ((وجهنا الغيب غسلنا عنه وسخ الغير بماء الوضح)). و"الغير" في المصطلح الصوفي هو "ما سوى الله". فالقهر والمظالم وإيثار الذات بالسلطة والثروة كلها من وسخ "الغير" الذي أخذ يُغسل الآن بشتى الوسائل والسبل. و"الغير" يعني أيضا على المستوى السلوكي العملي، الاستقلال بالإرادة الحادثة عن الإرادة القديمة، والظن الجاهل بأن خيوط اللعبة جميعها في أيدينا. أو قل، "الغير" هو الاندفاع بالقوة الغاشمة لرسم صورة الواقع التي تشتهيها عقولنا الصغيرة ببصرها الكليل الذي لا يقدر على أن يرى ما تريده الإرادة الحكيمة القديمة وهي تسوق الإنسان من حيث هو إلى جنان كماله ومجده وعزه. الحراك السياسي الجاري الآن يدل في كل تشعباته وتقاطعاته على أن الأمور قد أصبحت تسير بوتيرة بالغة السرعة. نحن نمر بنهايات الفجر الكاذب لميلاد أمتنا ولسوف يغمرنا قريبا جدا ضوء فجر ميلادها الصادق.

  

ما هي تصوراتكم لحل أزمة دارفور، وكيف يمكن الوصول إلى سلام دائم؟

  

تصوري لحل أزمة دارفور هو أن يلقي الجميع السلاح، وأن يجدوا ويجتهدوا في أمر المفاوضات. ويجب ألا ننسى أبدا أن ما تخربه الحرب في خمس سنين يحتاج إرجاعه إلى حاله القديم إلى خمسين سنة. هذه حقيقة يجب أن يأخذها في الاعتبار كل من يتجه إلى حمل السلاح.. فبالنزاع المسلح يخسر الجميع بلا استثناء. ويستوى في الخسران في هذه الحلقة الشريرة الدولة المركزية والذين ثاروا عليها. الذين يحملون السلاح من الثوار والذين يهللون لهم من كارهي الدولة المركزية ومبغضيها عليهم أن يعرفوا مبلغ قذارة السياسة الدولية. وأن يعوا الأجندة الخفية والمآرب الإستراتيجية للقوى الكبرى التي استراتيجيات قرنية لا تحيد عنها أبدا. كل حركة مسلحة معارضة في أي بلد من البلدان امتلكت سلاحا فهي إنما امتلكته لكونها قد أصبحت جزءا من مخطط أجنبي لا تمسك في يدها بكل خيوطه. الجهات الدولية والإقليمية التي توفر السلاح للحركات المسلحة في كل البلدان لا تمنحه لها من منطلق إيمانها بحرية الشعوب وحبها لخير الإنسان ولكرامته. هي تمنحه لها وبكل هذا السخاء لأن النزاع الذي يقوم في البقعة المعينة يخدم بعضا من أجندتها واستراتيجياتها في تلك البقعة.. ألم يتحدث المحافظون الجدد ببجاحة شديدة وعلى رؤوس الأشهاد عن "الفوضى الخلاقة"؟ حين استنكر أهل الإنقاذ على خليل إبراهيم غزوه للعاصمة قادما من جهة تشاد، ذكَّر البعض أهل الإنقاذ بأنهم قد سبق لهم أن غزوا عاصمة بلادهم قادمين من جهة ليبيا. وهكذا كما تدين تدان!! وهاهو السيد مهدي إبراهيم يخبرنا في برنامج ((مراجعات)) الذي يبثه تلفزيون النيل الأزرق أنهم أقاموا المعسكرات في إثيوبيا وكانوا يتلقون السلاح من الدولة الإثيوبية ومن غيرها استعدادا لتهريب السلاح والرجال إلى الخرطوم لإسقاط نظام جعفر نميري. هل فكر هؤلاء في الفاتورة التي يتوجب عليهم دفعها من عرض الوطن للذين أعانوهم؟

 

تمر بالأمم ظروف تجعل من حمل السلاح في وجه الدولة المركزية أمرا مبررا. ويجب ألا ننسى أن الدولة المركزية السودانية الراهنة قد سبق أن وجهت الدعوة لأهل الأطراف إلى حمل السلاح ضدها حين قالت إنها لن تفاوض ولن تعتبر إلا من حمل السلاح؟ إذن كل الذي فعلته الحركات المسلحة في دارفور وفي الشرق هو أنها استجابت لتلك الدعوة. ولكن، مبلغ ما يقود إليه السلاح في نهاية المطاف هو أن يقود أطراف النزاع لكي يجلسوا إلى طاولة المفاوضات. وحسنا أن الدولة المركزية قد وعت الدرس وأصبحت تؤكد وبكثرة أن الحرب لن تحل النزاعات، وأنه لا نصر عسكري حاسم في مثل هذه الصراعات.

 

لا شك أن تجارب من وقعوا اتفاقات مع الحكومة من قبل لم تكن تجارب سارة. فالحكومة الحالية حكومة مخاتلة وقد نجحت في جعل كثير من الموقعين معها مجرد ديكورات في السيرك الكبير الذي تديره. ثوار دارفور الذين لم يوقعوا حتى الآن أصبحوا واعين بالذي جرى لسابقيهم من الثوار الموقعين. وهذا علم نافع يساعد في زحزحة أبواب الحيل والمكر أكثر في وجهة الانغلاق. الشاهد أنه في كل هذه المناورات المرهقة تزهق أرواح بريئة ويضيع زمن عزيز ومال كثير كان الأجدى إنفاقه في التعمير وفي تحسين حياة المواطنين وإنهاء حياة المعسكرات وما يتعلق بها من ثقافة ولغة وأدبيات كريهة مهينة لكرامة البلاد ولكرامة إنسان البلاد. إنه لأمر مهين جدا أن تجعل الدولة والثائرين ضدها أرض البلاد مرتعا للمنظمات الأجنبية لتجوس في أرجائها بالسنين وتجلس كمن لا يريد الخروج. نحن نماثل من يفقع عينه بأصبعه. الرأسمالية الغربية وخاصة في نسختها الأمريكية لا تقدم الغوث والزكاة لفاقدي المأوي والتأمين الصحي في مدنها، ممن يفترشون الأرصفة ويلتحفون ورق الصحف في زمهرير الشتاء الغارس، فلماذا تقدمه للنازحين في أصقاع السودان؟ علينا أن نفكر ألف مرة قبل أن نتجه إلى تسخين النزاعات الداخلية التي تتداعى لأن تعطي الآخرين ذرائع التدخل في بلادنا. عموما، تمثل اللحظة الراهنة في نظري اللحظة السيكولوجية الأنسب لتوقيع اتفاق بين الدولة المركزية وثوار دارفور به تقف الأعمال العسكرية ويتم به إغلاق هذا الفصل المحزن في مسلسل كروب البلاد والعباد. لنجلس لنفكر كيف نخرج بشعبنا في دارفور من هذا الوضع المأساوي غير المسبوق. ولابد لكلمة إلى الثوار، إن كانوا ثوار حقيقيين، وهي أن يحرصوا على ألا يقعوا في ما تعده لهم الدولة المركزية من مصائد الدعة والمخصصات والوجاهة. فحين يصلون إلى المقاعد التي كثر تخصيصها مؤخرا للقادمين من الأطراف عليهم أن يبدأوا عملا آخر في الجهاد المدني متضامين مع غيرهم من طالبي التغيير. فإن نجحوا في ذلك فهذا ما نتمنى، وإن ذابوا في جسد السلطة وابتلعتهم المخصصات وامتصهم بريق الوجاهة فالسلم والاستقرار النسبي الذي سوف يحدث هو أيضا خير وبركة، والله خير منهم أجمعين لشعب السودان الصابر المرابط.

 

"......................................"

 

الانتخابات الآن على الأبواب. ينبغي أن يدخل الجميع ويبدأوا بهدوء وتؤدة في تفكيك دولة الحزب الواحد ودولة الصوت الواحد القائمة الآن. فإن هم فشلوا في هذه المرة، وهذا هو الأرجح عندي إذ ليس هناك وقت كاف، فإن فرصتهم في النجاح في المرات القادمات سوف تكون أكبر من سابقاتها. جاء الوقت لبلورة مظلة كبيرة جامعة تنبثق منها كتلة معارضة قوية تستخدم صندوق الاقتراع للحد من تجاوزات السلطة الراهنة السياسي منها والاقتصادي والتشريعي. فإذا فشلت القوى المعارضة في تكوين هذه المظلة العريضة القادرة على تعديل توجهات الحكومة عن طريق صندوق الاقتراع نتيجة للمطامع الشخصية والتشرذم، فالحكومة الراهنة أولى بحكم البلاد و"تستاهل" كما تجري العبارة الشعبية! ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)). أمالنا فيم ما درجنا على تسميتها بـ "المعارضة" عبر حقبة ما بعد الاستقلال كانت أمالا خائبة دوما. وارجو أن نكون على وشك أن ندخل بالعمل المعارض أرضا جديدة تبدأ فيها المعارضة من أجل البناء لا من أجل الهدم.

 

"........................................."

 

لقد قطعت قوى المعارضة شوطا كبيرا في مسيرة الخروج من المراهقة إلى النضج مقارنة بما كان عليه حالها أيام القاهرة وأسمره في عقد التسعينات. لقد اختفت شعارات إسقاط نظام الإنقاذ عسكريا. وانتهت من بعده شعارات الانتفاضة المدعومة بالسلاح. كما أن الحزب الشيوعي قد خرج من التخفي إلى العلن فخفت بريق دعاويه. أيضا، توقف العمل السياسي المعارض من الخارج وعادت الأغلبية إلى الداخل، باستثناء بعض من حركات دارفور التي توشك الآن على العودة إلى الداخل فيما تشير إليه محادثات الدوحة الجارية الآن، ودخول المندوب الأمريكي في الصورة. فرغم كل صور المعاناة وصور الاحتقان الماثلة للعيان الآن، نحن الآن في وضع أفضل من الأوضاع التي سبقت وهو أقرب جميع أوضاعنا السابقة إلى المخرج. لقد خرجنا أو كدنا أن نخرج من الدائرة الشريرة غير المنتجة التي تمثلت في انقلاب عسكري، فانتفاضة، فانقلاب عسكري، فانتفاضة، والبلد تغرق في الوحل، وفي العزلة، وفي العوز، وفي قلة الحيلة، وفي التآكل والتفتت. وصلنا بفضل الله الآن إلى مفترق الطرق ولم تعد أمامنا الكثير من الفرص: فإما مسار جديد نخرج به من هذا التيه الطويل، وإما الهاوية، وظني أن البلاد سوف تتخذ لنفسها مسارا جديدا.

  

هل ترى أي غياب في القيادة السياسية الوطنية المجمع عليها والقادرة على وضع التصورات الفكرية لما ينبغي أن يكون عليه واقع الدولة السودانية؟

       

لست ممن يحلمون ببطل شامل يملك عصا سحرية يضرب بها قلب الظلام فتنبجس منه ينابيع النور. قال الأستاذ محمود محمد طه: ((ليس هناك رجل من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين)). فضمان الحرية هو استعداد الأفراد على السهر عليها وكما قيل قديما ما ضاع حق وراءه مطالب. ومع ذلك، لقد كان لكثير من الأمم التي عرفت كيف تدير أمورها إدارة حسنة آباء مؤسسون. كان لأمريكا مثلا آباؤها المؤسسون. وفي التجارب الحديثة يُعتبر مهاتير محمد واحدا من أبرز مؤسسي نهضة ماليزيا الحديثة. ولابد لي أيضا أن أورد هنا قول الأستاذ محمود محمد طه: ((الشعب السوداني شعب عملاق يتقدمه أقزام!!)). لقد رزء السودان منذ فجر الحركة الوطنية بضعف القيادات. يحاول الكثيرون اليوم أن يجعلوا من السيد، إسماعيل الأزهري والسيد، محمد أحمد محجوب ومن رصفائهم من أجيال الحركة الوطنية آباء مؤسسين، وأن يخلقوا منهم أيقونات منها تستمد الأمة طاقتها وقوة دفعها. نريد أن نخلق لهم هذه الهالة الكبيرة مع أن ما أنجزوه في نطاق الرؤية ووضع الأسس الصحيحة للمسيرة كان بالغ الضآلة وشابه الكثير من الضمور. لم يكن لهؤلاء القادة الأوائل سوى فضل رفع العلم. ورفع العلم لا معنى له إن لم يعقبه استقرار ونماء مضطرد ووعود حبلى برخاء قادم أكيد. ما ارتكبه هؤلاء القادة الأوائل من أخطاء في حق البلاد أثناء إدارتهم لأمورها قبيل وبعد الاستقلال لينتقص كثيرا من فضيلة رفعهم للعلم وإعلانهم للاستقلال. حين تقارن هؤلاء الذين نريد أن نجعل منهم آباء مؤسسين بمن عاصروهم من آباء مؤسسين مثل غاندي ونهرو مثلا، يتضح لنا قصر قاماتهم وبشكل جلي. لم تصمد ديمقراطيتنا الأولى بعد إعلان الاستقلال سوى عامين!! من كانوا في السلطة هم الذين سلموها إلى العسكر كيدا في معارضيهم!! ضلع الأزهري والصادق المهدي في مؤامرة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان. كان السيد خضر حمد القطب الاتحادي وعضو مجلس السيادة الأسبق من المؤيدين لمحكمة الردة التي حكمت بردة الأستاذ محمود محمد طه في عام 1967. نحن لم ننقد تاريخنا السياسي نقدا شافيا بعد، ولا نزال نعيش في غمرة التمجيد الفج لتاريخنا وفي صناعة أصنام بشرية لا تستحق منا رهق العبادة. نحن لا نقبل النقد وننفر ممن يجترح فعل النقد. أطول فترات الحكم عقب الاستقلال في السودان كانت لعسكريين: (عبود 6 سنوات، نميري 16 سنة، والبشير 20 سنة، قابلة للزيادة). جاء هؤلاء القادة من المؤسسة العسكرية ووضعوا أيديهم على مقاليد الأمور في البلاد بقوة السلاح. وجميعهم جاء بلا تجربة سياسية تذكر!    

 

أيضا أضرت الطائفية بالحراك السياسي السوداني أبلغ الضرر. أنظر إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي وأنظر إلى حزب الأمة وهما حزبان جاوزا من العمر الستين عاما، فماذا تجد؟ فهل جسد هذان الحزبان عبر تاريخهما شيئا غير مصالح الأسرتين الطائفيتين اللتين أسستاهما؟ نعم هناك أزمة قيادة في السودان وهناك تشبث مريع بالكرسي. هذا التشبث ظل يقفل الباب أمام ميلاد قادة جدد، وميلاد أفكار جديدة. السيد، الصادق المهدي ظل رئيسا لحزب الأمة منذ الستينات، وهو لم يكتف بالقيادة السياسية وإنما أضاف إليها "الإمامية" أيضا!. والسيد، محمد عثمان الميرغني ظل رئيسا للحزب الاتحادي الديمقراطي منذ الستينات. والشيخ، حسن الترابي ظل زعيما للإخوان المسلمين ولجبهة الميثاق الإسلامي، وللجبهة القومية الإسلامية، وللمؤتمر الشعبي، وكلها أسماء لشيء واحد، منذ الستينات أيضا. والسيد، محمد إبراهيم نقد ظل سكرتيرا عاما للحزب الشيوعي السوداني منذ إعدام الأستاذ، عبد الخالق محجوب في بداية السبعينات من القرن الماضي. في بلادنا تشبث غريب بالكرسي! ويتعدى هذا النوع من التشبث بالكرسي قادة الأحزاب السياسية ليشمل كثيرين غيرهم في أجهزة الدولة المختلفة. فهناك الإعلاميين الذين عملوا مع جميع العهود، والتشكيليين الذين رسموا ونظَّروا لجميع العهود، والمغنين وشعراء الأغنية الذين غنوا ولمعوا لشعبهم جميع العهود، والإداريون الرياضيون الذين لا يتزحزحون عن مواقعهم، وكل أولئك يرون في أنفسهم رجالا لكل المواسم، وقس على ذلك. الشاهد أن من يصل إلى الموقع الأعلى في أي مجال من المجالات يدس السلم عن الآخرين! وهذا ضرب من عبادة الذات ومن شح النفس مريع!

  

"....................................................."

  

لقد تم قفل الأبواب منذ الاستقلال على الأجيال الجديدة في سائر المجالات. بلادنا يقبض على مفاصلها ومنذ زمن بعيد متوسطو المواهب ولهولاء عداء طبيعي مع أهل المواهب الحقيقية. قال الأستاذ محمود محمد طه، إن العالم لم يحكمه العلماء إلى الآن، وإنما حكمه أواسط الناس. فقط تصور معي بلدا مليئا بالعلماء كالولايات المتحدة الأمريكية، ثم يصبح حاكمه ولثمان سنوات متصلات شخص مثل جورج دبليو بوش! السياسة في العالم لها منطقها الخاص بها، وهو منطق معوج مخالف لطبائع الأشياء. قادتنا في السودان يفترضون في أنفسهم الخلود دائما. كان الرئيس الأسبق، جعفر محمد نميري يردد في كل لقاءاته الشهرية المسماة "بين الشعب والقائد": هذه العبارة: ((مواطني الثوار الأحرار. أحييكم بتحية ثورة مايو الظافرة المنتصرة دوما بإذن الله)). قادتنا لا يعرفون شيئا اسمه التقاعد، ولا يفكرون فيه. كما أنهم لا  يعرفون شيئا اسمه تفريخ قيادات جديدة! ولكن لا ضير! فالسوس الذي أكل منسأة سليمان يأكل الآن منسآت قادتنا الصم العمي، ولسوف يسقطون. القائد الحقيقي المتجرد ذو الذكاء الروحي يملك في داخله صوتا يهتف فيه في اللحظة الحاسمة بأن يترجل ويخلي السرج لغيره. ولكن يبدو أن أمثال هؤلاء في بلادنا أندر من الكبريت الأحمر! لابد من اعتماد الديمقراطية والتوعية المستمرة كآلية لإزاحة مثل هؤلاء ممن لا يطيقون مغادرة الكرسي فلا هم يفعلون خيرا ولا هم يفسحون المجال لسواهم لفعل الخير!

 

نعم نحن نعيش أزمة فكرية طاحنة. نحن نقتات فتاتا فكريا لا يسمن ولا يغني من جوع. إنتاجنا المعرفي كما وكيفا لا يكاد يذكر. نحن نردد القديم البالي في كل شيء، حتى في الغناء، ألا ترانا شيبا وشبابا نتمايل طربا لأغاني صيغت كلماتها وألحانها في ثلاثينات القرن الماضي! الأمة التي تعجز عن رسم صورة مستقبلها ترتد إلى الماضي وتقع في أحضانه وتموت غير مأسوف عليها. المتشددون من أهل الإنقاذ الذين يروجون للخطاب الديني المتشدد وينشطون في حظر الرأي الآخر ومصادرته، ويتفنون في أساليب "الرقابة القبلية" يراهنون في حقيقة الأمر على الجهل بالله وعلى العمى في مواجهة العلم بالله والبصر الحديد. إنهم يراهنون على الماضي من أجل قتل صورة المستقبل وهذا يمتنع في طبائع الأشياء. إنهم يعطلون عجلة التحولات ويؤخرون عقارب الساعة. المستقبل اليوم يصنع نفسه بنفسه بعيدا عن قبضة السلطة في سائر البلدان. إن الأرض اليوم تميد من تحت أقدام الحكام المستبدين من كل صنف، وهم لا يشعرون.

 

ط...................................................."

 

يقتضي التغيير شجاعة كبيرة لم يملكها قادتنا في يوم من الأيام. قادتنا قوم موسوسون مصابون ببارانويا عويصة، تجعلهم ينفقون على حماية أنظمتهم أكثر مما ينفقون على أي شيء آخر. بلغت الدولة البوليسية في السودان على عهد جعفر نميري شأوا غير مسبوق. وجاء أهل الإنقاذ فقالوا لجعفر نميري ورهطه: "انتو بتعرفوا شنو؟".. الإنفاق على الجيش وعلى الشرطة وعلى أجهزة الأمن بلغ حدا خرافيا. علاوة على ذلك لا تنفك السلطة منخرطة في شراء الأفراد ممن تظن فيهم العون على تثبيت دعائم النظام. وحين يجد الجد تجد السلطة أن حارسها الحقيقي هو شعبها ذي الحس الوطني السليم الذي كانت عاكفة على تحصين نفسها ضده. إنه الشعب العظيم الذي لا يخلط بين حرصه على سلامة ترابه وبين تأذيه ممن يحكمونه. فهو رغم تأذيه الطويل من سياسات حكومة الإنقاذ مثلا وقف معها وقوات خليل إبراهيم تجوس في شوارع أم درمان. تلك القوات التي لم يستطع إيقاف تقدمها، وهي تقطع ما يزيد عن الألف كيلومتر، كل أولئك الذين اشتراهم النظام ظنا منه أنهم درعه وسنده. وفي عهد جعفر نميري وقف الشعب مع جعفر نميري حين جاءت المعارضة آنذاك من ليبيا محاولة إسقاط نظامه بقوة السلاح. وقد كان الحاكمون اليوم جزءا من تلك المعارضة التي جاءت من ليبيا.. هذا الشعب ذي الحس الوطني السليم يستحق قادة أفضل، دون أدنى شك، ولسوف يجدهم، طال الزمن أم قصر.

  

منتدى )الأحداث الفكري( "1"

  

الدكتور النور حمد لـ"الأحداث": (2ـ3)

  

يجب ألا يتم استخدام الانفصال من جانب الجنوبيين في النكاية بأهل الإنقاذ

 

الاثنية والجهوية من علامات تضعضع الشعور القومي

 

قواعد الأحزاب ليس لها ذنب في أزمات الأحزاب. والمشكلة في القيادات

 

فكرة "السودان الجديد" التي جاء بها جون قرنق نيرة ولكن بلا آليات

 

حوار: صلاح شعيب

  

الانتخابات القادمة في فبراير 2010، هل تستطيع أن تحدث تغييرات جوهرية في طبيعة العمل السياسي الحكومي والمعارض، خصوصا إذا دخلت قوى المعارضة في تحالف ضد المؤتمر الوطني؟

  

بلغ عدد الأحزاب التي سجلت حوالي اثنان وخمسين حزبا. وهذا يدل على مبلغ تباين الرؤى عندنا ومبلغ التشرذم. الديمقراطيات الراسخات تكون فيها الأحزاب قليلة عادة. نحن نعيش مخاض تكوين أمتنا كما ذكرت قبلا، ولذلك لم تنضج لدينا الرؤى السياسية بعد. الأحزاب الكبرى ليست جاهزة للانتخابات وهي لم تكن جاهزة لأي انتخابات في يوم من الأيام بالمعنى الحقيقي للجاهزية. كل شيء لدى هذه الأحزاب لحظي ومرتجل. فهي أحزاب هلامية وبنيتها التنظيمية والإدارية ضعيفة جدا. ولقد فقدت هذه الأحزاب في العشرين سنة الماضية أراض كثيرة. من وُلد يوم أن جاءت الإنقاذ أصبح عمره الآن عشرين عاما. هذا الجيل لا يعرف هذه الأحزاب. ونجد من الناحية الأخرى أن حزب المؤتمر الوطني هو الحزب الأكثر تنظيما وتغلغلا في القواعد الشعبية، والأكثر جاهزية والأوفر مالا بحكم جلوس أهله في سدة الحكم لعشرين سنة. ولا ننسى أن حزب المؤتمر الوطني قد جر إلى التحالف معه بعضا من قيادات حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي إضافة إلى بعض القيادات الجنوبية. كل هذه العوامل تقوي من فرص المؤتمر الوطني وتضعف من فرص الآخرين.

 

فيما أرى ينبغي ألا تدخل القوى المعارضة هذه الانتخابات بآمال عراض. يجب ألا تظن الأحزاب المعارضة أن لحظة تفكيك نظام الإنقاذ قد أذنت. سيكون هذا وهم كبير. الأحجى عندي أن تدخل القوى المعارضة إلى الانتخابات بنية إطلاق ركلة البداية في تأسيس العمل الديمقراطي في البلاد برؤية جديدة وممارسة نظيفة جديدة. فمسار إصلاح الأمور لن يكون بالقصر الذي يتصورون. الأمور لن تأتي أكلها بمثل هذا الارتجال وهذه العجلة. لقد كان أمل الكثيرين معقودا على الحركة الشعبية أن تصبح الرابط بين القوى المعارضة. لكن الحركة الشعبية ظهرت بقامة أدني بكثير مما توقعه منها الناس. كما ظلت الحركة الشعبية تتحرك تحركات غامضة وتبعث برسائل متنافرة. ولا يوجد لدي يقين راسخ، حتى هذه اللحظة، ما إذا كان توجهها للانتخابات توجها حقيقيا أم مجرد تبديد للوقت في انتظار الاستفتاء.

  

وماذا عن فكرة تفكيك الإنقاذ ديمقراطيا؟

  

ليس من المهم عندي أن يتفكك نظام الإنقاذ الآن نتيجة لما تسفر عنه هذه الانتخابات، وإنما المهم عندي أن يبدأ المسار الديمقراطي الصحيح. فلو دخلت إلى البرلمان أعداد كبيرة من قوى المعارضة وكان لهذه القوى برنامج مشترك مبني على توجهات أصيلة تستهدف ترسيخ الممارسة الديمقراطية السليمة وجر الأمور إلى دائرة الوضح والشفافية، فإن أمورا كثيرة يمكن أن تتغير، وهذا هو المهم. أنا أومن بالإصلاح الوئيد عن طريق التوليف والحوار، والتسويات وانتهاج أسلوب الموازنات، وليس بقلب الطاولة رأسا على عقب. وقلب الطاولة رأسا على عقب فيما أرى، لم يعد ممكنا، ومن الخير أنه لم يعد ممكنا. من الخير ألا تجد قوى المعارضة القائمة الآن طريقها ميسرا إلى سدة الحكم. لابد لهذه القوى أن تدفع ثمن الوصول إلى السلطة. من ذلك الثمن، تنظيم نفسها وخلق مؤسسات حزبية حقيقية متغلغلة في الريف تعتمد نهجا ديمقراطيا حقيقيا في تصعيد القيادات. كما عليها تقريب وجهات النظر فيما بينها بإدارة حوار يقود إلى أن يصبح ما يجمع بينها أكثر مما يفرق. عموما هذه القوى في حالتها الراهنة قوى بلا برامج واضحة وبلا آليات واضحة أيضا وربما لا يجمع بينها سوى مقت الإنقاذ، وليس هذا بكاف فيما أرى.

  

ولكن نحتاج إلى هذه القوى لخلق معادلة في العمل البرلماني؟

  

نعم ما نحتاجه الآن قيام برلمان جديد مكان المجلس الوطني الحالي الخاضع بحكم تكوينه إلى إملاءات السلطة القائمة التي صنعته لنفسها بنفسها وبعناية شديدة. ما نحتاجه هو برلمان جديد يمكن أن يشرع لما يحفظ وحدة البلاد دون التفريط في الحفاظ على التنوع والخصوصية. برلمان يكون رقيبا على السلطة التنفيذية وراعيا لممارسة إعلامية حرة تمكن الإعلام من القيام بدور السلطة الرابعة. برلمان قادر على المراقبة والمحاسبة وإغلاق الثغرات في وجوه المفسدين. وأهم من ذلك أن يستمر العمل التنموي وجذب الاستثمارات إلى البلاد ودمج البلاد من جديد في المجتمع الدولي وإخراج المواطنين من حالة الضنك التي يعيشونها إلى ما هو أفضل منها..

 

تأمل حكومة الإنقاذ فيما أحسب أن تتمكن من احتواء كل هذا الحراك الكبير الدائر الآن ووضع كل ما يتمخض عنه في جيبها الخاص. وتلك خطة غير حصيفة إن هي فكرت على المدى الطويل وربما حتى على المدى المتوسط. مثل هذه الخطط ربما أطالت من بقاء النظام هونا ما في الحالة التي يحبها لنفسه، ولكنها ضارة بأحوال البلاد وبالنظام نفسه على المدى الطويل. كثير من أهل الإنقاذ مؤدلجون غير أنهم يعرفون كيف يحنون رؤوسهم للعواصف حين تهب. لقد أتقنوا لعبة حني الرؤوس للعاصفة هذه واجتازوا بها مآزق كثيرة في العشرين سنة الماضية. فهم ما أن تمر العاصفة حتى يشرعوا في وضع كل شيء في سلة القديم القائم أصلا. من المؤسف أنهم يسيرون على نهج أنظمة أخرى كثيرة مدمرة لروح الإنسان قاتلة لروح المبادرة والمبادأة فيه. وهي أنظمة تعج بها منطقتنا العربية! إن أهل الإنقاذ لا يؤمنون بغير بقاء حزب واحد في السلطة هو حزبهم. ما يدخلون فيه من شراكات ليس سوى مناورات لشراء وقت فيه يدبرون وسائل لتدجين الشريك ووضعه في الجيب. هذه الحيل توشك على النفاد الآن. على أهل الإنقاذ أن يعرفوا أن لكل أجل كتاب ولقد آن أوان الخروج من مرحلة الانفراد بالسلطة إلى مرحلة خلق إطار حقيقي للمشاركة الواسعة. يوشك الاحتقان الآن أن يبلغ درجة الانفجار. من الغباء الشديد أن يظنوا أن الانفجار لم يعد ممكنا.. يقول المثل: ((يُؤتى الحَذِرُ من مأمنه)).

  

الاستفتاء على تقرير المصير: إلى أي مدى يمكنك التفاؤل بنتيجته فيما خص وحدة السودان، وإذا قدر للجنوب الانفصال هل تتوقع أن تموت فكرة (السودان الجديد) التي دعا إليها الزعيم السوداني الراحل جون قرنق؟

  

لقد تصرفت الحركة الشعبية إزاء هذا الأمر المفصلي بغموض شديد. وبطبعة الحال فإن الحركة الشعبية لا تمثل كل شعب الجنوب، ولكنها بلا شك تمثل التنظيم الأكبر والأخطر تأثيرا ضمن التنظيمات الجنوبية. ولقد سبق أن ذكرت أن الرسائل التي ظلت الحركة الشعبية تبعث بها في هذا الصدد، رسائل غامضة ومتضاربة. رغبتي مثل معظم الشماليين هي أن يبقى البلد موحدا. هذا أفضل لنا كشماليين، وأفضل للجنوبيين، فيما أرى، ولغيرهم من أهل الأطراف الذين يفكرون في الانفصال. كما هو أفضل للبلد بشكل عام. السودان قطر غني بالموارد ولا يستثني منه في غنى الموارد أي جزء تقريبا. من المحزن جدا أن يتفتت قطر ذي طاقات هائلة وواعد كهذا. هذا وقت التجمعات الكبيرة لا وقت الشراذم. ولعل الأزمة العالمية الجديدة قد أشارت إلى ضرورة نشوء تجمعات اقتصادية إقليمية كبيرة وإلى ضرورة مراجعة فكرة السوق الكوكبية الواحدة المفتوحة التي لا تخدم غير الكبار. يجب ألا نتطلع إلى بقاء السودان موحدا وحسب وإنما لنمدد فكرة الوحدة لتشمل ما سبق أن أسماه الأستاذ الراحل، محمد أبو القاسم حاج حمد بـ "كونفدرالية القرن الإفريقي". لا أريد أن أقوم بدور الناصح للإخوة الجنوبيين، خاصة وأن حق تقرير المصير  قد أصبح في أيديهم. كل ما أرجوه وأتمناه أن يعمل القادة الجنوبيون في الدعاية للوحدة، وأن تعمل حكومة الشمال في جعل الوحدة جاذبة بأفضل مما تعمل الآن. حكومة الإنقاذ الحالية تنقصها الشجاعة وينقصها الصدق، وقد جعلها ذلك تدمن حيل المناورة وكسب الوقت الذي يضيع الوقت في حقيقة الأمر.

  

ولكن هناك أصوات جنوبية تطالب بالإنفصال وبعضها تتوقع حدوثه لا محالة؟

  

موضوع الانفصال يجب ألا يتم استخدامه من جانب الجنوبيين في النكاية بأهل الإنقاذ، أو للثأر من أهل الشمال في جملتهم نتيجة للمظالم التاريخية. القادة الكبار لا يتصرفون على هذا النحو. الإنقاذ نظام حكم لا يمثل سوى قبيل واحد من السودانيين. أقول هذا رغم دعاوي الإنقاذ بأن لديها "حكومة وحدة وطنية" لا ينفك إعلامها المدجن يتغني بها. فالسودان ليس ملكا للإنقاذيين ولا هو مرهون لحالة الجهل الطويلة التي فرخت مختلف صنوف المظالم. فغالبية أهل الشمال أنفسهم يقعون في زمرة المظاليم. لا يجب أن يخلط أحد، شماليا كان أم جنوبيا، بين الإنقاذ وبين السودان ككيان شامل يمثل متشكلا تاريخيا له ماض وله حاضر وله مستقبل. أنا لا أزال متفائلا بأن الوحدة سوف تكون الخيار، ولا أملك إلا أن أتفاءل. ولن أكف عن التفاؤل حتى يجيء الاستفتاء بغير خيار الوحدة.

  

وهل ستنتهي فكرة السودان الجديد إذا حدث الإنفصال؟

  

فكرة "السودان الجديد" التي جاء بها القائد الراحل جون قرنق فكرة نيرة وقد كانت منذ أن خرجت إلى الملأ فكرة بلا آليات.. كما أن هذه الفكرة فقدت الكثير من فرصها في التبلور بالموت المفاجيء للقائد جون قرنق. الاستقبال الذي جرى لجون قرنق في الساحة الخضراء في الخرطوم حين عودته، استقبال لم يتفق لسوداني قط! وقد حاول الإعلام الحكومي تجاهل ذلك الاستقبال والتقليل من صورته للمشاهدين البعيدين عن موقع الحدث. غير أنه فشل في تلك المحاولة وأظهر الإنقاذيين بالكثير من نذارة الحظ في النبل وكرم النفس. لقد زلزل ذلك الاستقبال أركان النظام القائم وقدم قراءة جلية لحكومة الإنقاذ للكيفية التي يرى بها السودانيون جنوبيون وشماليون الراحل جون قرنق. غير أن الحركة الشعبية تلكأت في جني ثمار ذلك الاستفتاء الشعبي غير المسبوق. ضاعت قوة الدفع وخمدت، وضاعت اللحظة السيكولوجية. خلاصة الأمر، لو انفصل الجنوب عن الشمال، لا قدر الله، فإن الأمور سوف تدخل جميعها في نفق مظلم جديد. ووقتها لكن تكون فكرة "السودان الجديد" هي المتضرر الوحيد.

  

هل أضعف بروز التيارات والأفكار (الإثنية أو الجهوية) إلى سطح العمل السياسي الهمة القومية في كل مناحي الحياة، وهل ترون أن هذه التيارات والأفكار ستختفي في حال الوصول إلى سلام دائم في كل أنحاء القطر عبر تسوية قومية؟

  

الاثنية والجهوية من علامات تضعضع الشعور القومي. الناس يحتاجون شيئا ينتمون إليه ويرتكزون إليه. وحين تكون الدولة المركزية دولة اقصائية، طاردة لغير ذوي الولاء، كدولة الإنقاذ الحالية، يرتد الناس على أعقابهم فيرتمون في أحضان الإثنية والجهوية. التسوية القومية ضرورية كقاعدة للحل. ولا تمثل التسوية القومية حلا في حد ذاتها.. لابد من التعليم العادل    equitable education الذي يعيد لكل سوداني مكانته واعتباره وفرصته المساوية في تحقيق الرفاه وتحقيق كرامته الإنسانية، بغض النظر عن دينه، أو عرقه، أو لغته، أو جندره،  أو طبقته الاجتماعية. ولابد من اللامركزية التي تتيح للأقاليم حرية حقيقية في اتخاذ القرار. أيضا، لابد من الاقتصاد القوي الذي يخلق فرصا للعمل ويعيد إلى الناس الأمل الذي فُقد. ولابد من الإعلام المستقل الذي يعطي الثقافات والاثنيات والجهات حظها من الظهور عبره، والتعبير عن هومها، وإدارة الحوار الحر حول شؤونها. لقد فقد الناس الأمل في حياة كريمة في السودان، فيمموا شطر المهاجر المختلفة. يئس من تحقيق عيش كريم في السودان حتى المهنيون من أهل لتأهيل العالي جدا، فما بالك بغير ذوي التأهيل أصلا؟ يوجد اليوم سودانيون في كل بقاع الأرض تقريبا وهم يمثلون كل شرائح المجتمع السوداني تقريبا وتلك كارثة قومية فظيعة.

 

فكر الأحزاب والتنظيمات السياسية: هل يتحمل نتيجة الفشل السياسي، أم أن قواعد هذه الأحزاب تتحمل أسباب ضمور هذه الأحزاب ما أدى إلى فشل قياداتها؟

  

لم يكن لتنظيماتنا وأحزابنا فكر يذكر وذلك من أسباب فشلنا السياسي. لقد كان العمل السياسي عبر حقب الديمقراطية عندنا مجرد احتراب على كراسي الحكم. لم يكن هناك إيمان حقيقي بالديمقراطية. فبالنظر إلى قضية حل الحزب الشيوعي والتهريج السياسي الذي صاحبها يتضح قصر قامات قادتنا من الآباء المؤسسين. لقد طورت الحركة السياسية السودانية أسوأ أساليب المعارضة. هذه الأساليب السيئة في المعارضة لا تزال تعيش بيننا إلى اليوم. المعارضة عندنا هي تجريد الحكومة ـ أي حكومة ـ من أي فضيلة! لقد ظللنا لا نعرف من أساليب المعارضة سوى النزوع إلى الإبدال الكلي. أي، لابد من كنس النظام القائم بالكلية وإحلال نظام جديد محله بالكلية. هذا بعض من الأثر السيئ للأفكار الثورية الأيديولوجية التي سادت في القرن العشرين. يستوى في احتضان هذا النوع من الأفكار اليسار الشيوعي والعروبي والتيارات الدينية التي انبثقت من عباءة حركة الإخوان المسلمين في مصر ومن بينها حركة الإخوان المسلمين السودانية عبر مسمياتها المختلفة. نحن نوشك أن نخرج من اعتناق هذه النزعة الإستئصالية غير العملية في أسلوب المعارضة، لنصبح أكثر براغماتية، وأكثر قدرة على انتهاج أساليب التسويات وعلى إدارة فن التنازلات. ومع ذلك يبقى الضعف الفكري والرؤيوي لدينا  قائما. لابد لنا من رؤية كلية تحكم تحركنا. لقد أنهارت الشيوعية وأصبحت أثرا بعد عين. ومرحلة القطبية الأحادية التي أعقبتها قد بدأت الآن في الترنح. هنا تلزمنا رؤية جديدة. أهل الإنقاذ يظنون أن لديهم رؤية إسلامية. غير أنني لا أرى أنهم يملكون شيئا، إلى اليوم، سوى فكر حركة الإخوان المسلمين المصرية. تلزمنا دراسة التجربة الماليزية. فماليزيا بلد يشبه السودان في التركيب الإثني وفي تعدد الديانات. استهدفت ماليزيا تحقيق شيء من الاستقلال عن المنظومة الغربية ونجحت في ذلك. أنشأت ماليزيا قاعدة صناعية واسعة واستثمرت في التعليم الذي دعم إنتاجها الصناعي والزراعي. أيضا كتبت ماليزيا القوانين التي تضبط العمل وتضمن الشفافية. كما دربت ماليزيا الكوادر الإدارية ذات الكفاءة العالية وذات الانضباط المهني والقدرة على التطوير والتيسير والتبسيط. استهدفت ماليزيا الجهل والفقر والمرض وسط القطاعات العريضة من شعبها، ونجحت في ذلك. كما احتفظت ماليزيا بحياة مدينية متوازنة لا تشدد فيها ولا إباحية، مما جعل منها بلدا جاذبا للسياحة. أيضا، أصبحت ماليزيا بلدا جاذبا لطالبي العلم بما أنشأته من مؤسسات أكاديمية مواكبة لما يجري في مجال التعليم على المستوى الكوكبي.

 

تحدث الأستاذ محمود محمد طه عن الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية في جهاز حكومي واحد في مقاربة جريئة غير مسبوقة صدع بها في خمسينات القرن الماضي. وتحدث عن نزعة اشتراكية تقوم على التعاونيات لا عن طريق رأسمالية الدولة الاشتراكية. لم تلق هذه المقاربة حظها من الدراسة ومن التأمل حتى وسط الأكاديميين والاختصاصيين بسبب التخويف الديني والغوغائية والسوقية التي قوبل بها فكر الرجل. وتحدث عن ضرورة تطوير التشريع الإسلامي حتى يتسنى إقامة دستور وإقامة دولة تكفل الحقوق لمواطنيها سواء بسواء على أساس المواطنة، والمواطنة وحدها. كما تحدث عن الديمقراطية وعن اللامركزية وعن الفيدرالية. لم يجد كتابه المدهش "أسس دستور السودان" الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1954 أي اهتمام إلى اليوم، سوى من المفكر الجريء منصور خالد. تم قتل الأستاذ محمود محمد طه وتم وأد فكره، بل وتمت سرقة الكثير من أفكاره على رؤوس الأشهاد دون الإشارة إليه لا من قريب ولا من بعيد!

  

قواعد الأحزاب ليس لها ذنب في أزمات الأحزاب. المشكلة في القيادات التي لم تهتم بتوعية هذه القواعد ولم تهتم بالارتقاء بحياة مؤيديها سكنا ومعاشا وصحة وتعليما ووعيا. لقد كانت أحزابنا ترسل المرشحين من الخرطوم ليخوضوا الانتخابات في دوائر انتخابية بعيدة عن المركز لم يسبق لهم أن رأوها. وحين يفوزون لا يعودون إليها إلا حين تحين الانتخابات القادمة!

 

 

منتدى )الأحداث الفكري( "1"

 

الدكتور النور حمد لـ"الأحداث":(3ـ3)

  

لو أردت أن أختار هوية لجعلت هويتي "العدل". فالإسلام في فهمي هو "العدل" بأكثر من أي شيء آخر

  

تحول اليساريون من داعمين للأممية الماركسية إلى داعمين وناشطين في منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الغربية

  

جميعنا ضحايا لوضع معقد لا تزال تحدياته ماثلة أمامنا

  

نحن لا ندرك إدراكا عميقا أن كثيرا من مكوناتنا قد تم طمسها

  

حوار: صلاح شعيب

  

هل ترى أن هناك أزمة في فهم الهوية السودانية ؟

  

ظللت منذ أمد، ربما امتد لما يقارب العقدين من الزمان، دائم التفكير في سؤال الهوية وفي الكيفية التي ظل يُعالج في إطارها. وكلما أوغلت في التفكير فيه، وزاد إطلاعي على مساهمات المساهمين فيه، كلما ازددت حيرة في أمره! وأبدأ فأقول أن سؤال الهوية فيما يبدو لي قد أُخرج من إطاره وأنه قد تم تسخينه بأكثر مما يجب في مضمار معارك الكسب السياسي حتى التهب وأحدث هذه الاحتقانات الشديدة التي أخذت تتفاقم يوما بعد يوم. ولربما صح أن يستخدم المرء في شأن ما جاءنا من هذا النوع من إثارة مشكل الهوية، ما جاء في المجاز السوداني الذي يحكيه المثل الشعبي الشهير الذي يقول: ((جابوه فزعة بقى وجعة)).

 

نشأ موضوع الهوية في المباحث المعاصرة أصلا لمواجهة عقيدة المركزية الأوروبية التي كانت وما زالت تحاول صياغة باقي العالم على صورتها. فالفكر الأوروبي والرؤية الأوربية للكون وللحياة وللإنسان قد مثلت عند دعاتها الحد القاطع في الفكر الإنساني الذي لا يملك باقي العالم سوى الاستظلال بمظلته في نهاية المطاف. فلكي تنمو أمة ما فكريا، أو ثقافيا، أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، ترى لمركزية الأوروبية أنه لابد لتلك الأمة من أن تنسى ما هي عليه من دين وتاريخ وثقافة وتلبس الخوذة العقلية والوجدانية الأوروبية. لقد صنع أهل المركزية الأوربية تراتبية للفكر الإنساني ووضعوا أنفسهم على قمتها. ولابد من الإشارة هنا أن الشوفينية العربسلامية التي تريد أن تخلق في السودان مظلة جامعة يجلس تحتها الجميع تاركين تنوعهم وتاريخهم وسماتهم الثقافية وراء ظهورهم لا تختلف في هذا التوجه عن شوفوينية المركزية الأوروبية. كان من الممكن أن نتبنى في معالجتنا لمشكل الهوية في السودان مقاربات ما بعد الحداثة التي أخذت تراجع عقائد المركزية الأوروبية وتدعو إلى الخروج من أطر عقل الحداثة الضيقة. تعتمد تيارات ما بعد الحداثة التنوع بدلا من محق الخصائص الثقافية المميزة للجماعات البشرية. كان من الممكن أن يقود الحوار حول مشكل الهوية إلى خلق إطار رابط يتم تحته تفكيك المظالم التاريخية، وإنهاء حالة هضم الحقوق المزمنة، وإبراء جروح الطعان الطويل المتقيحة التي طال أمدها. ولكن الذي حدث في السودان أن إشكال الهوية جرى تسطيحه ونزعه من أطره النظرية الإنسانوية المستقبلية. ومن ثم إفراغه من بلاسمه الشافية، ومن معانيه الإنسانية العريضة. تحول مشكل الهوية من مبحث جدي يساءل المتشكل الراهن بجزئيه:  الجالس على دست الحكم  والذي يعارضه، ليصبح بعضا من منظومة الكيد السياسي اليومي، وورقة ضمن أوراق تكبير الأكوام في نطاق الحراك السياسي الضيق الذي لا يتعدى أغراض النيل من السلطة القائمة وهلهلة تماسكها بغية الانقضاض عليها في نهاية المسار. لقد كانت مشكلة السودان على الدوام هي أن الذي يعارض ويسعى لتقويض الدولة المركزية لا يملك بنية مفاهيمية أفضل مما تملكه الدولة المركزية المراد إزاحتها.

  

"......................................................"

  أزمتنا أزمة فكر وأزمة رؤية موسعة بها نعرف موقعنا من الحراك الكوكبي، وبها نعرف مؤشرات المستقبل. وهي أيضا أزمة ثقافة وأزمة في القدرة على فحص تاريخنا. نحن لا ندرك إدراكا عميقا أن كثيرا من مكوناتنا قد تم طمسها، وأننا نحاول أن نلبس أمتنا جلبابا ضيقا لا يتسع لجسدها الكبير. إن الجلباب الذي ظلت نخبنا المتعلمة المتنفذة إلباسه لجسد البلد باسم الإسلام لا ليس مقتطعا في حقيقة الأمر من قماشة الإسلام في معناه الإنساني الروحاني المستقبلي، وإنما هو مقتطع من قماشة الفقه المهترئة البالية. الهوية العربسلامية التي يلهج بها رافعو راية الدولة الدينية ومشايعيهم هي هوية فقهية افتراضية virtual لا علاقة لها بتاريخنا الشديد التركيب ولا بواقعنا ومكوناته المتنوعة. إن ما ظل يلهج به المتنفذون من نخب وسط وشمال السودان بشأن الهوية العربسلامية، هو ليس لدى التحليل النهائي سوى "لاهوت دنيوي" من أجل السيطرة.

أما فيما يخص القوى التي تنازع المتنفذين الراهنين، ويسميها بعضنا "قوى المعارضة" فقد  أصبح مشكل الهوية مجرد مظلة لإذكاء نزعات التشرذم ووسيلة لإرباك الاستقرار. تحول هذا المشكل من نطاق الرؤيوي والاستراتيجي والمنتج، لتنمحق أبعاده المتعلقة بقضايا التغيير الكبرى، ويتسطح ويصبح من ثم مجرد ورقة في مماحكات الكسب السياسي اليومي. أصبح إشكال الهوية حلبة كبيرة لجدال عقيم غير منتج.. باختصار شديد، أضر اليمين المتمثل في دعاة الدولة الدينية الشاملة القابضة في السودان بهذه القضية، حين دفع هذا اليمين المتعسكر بالشعار الديني المقاتل إلى نهاياته. فهو لم ير سبيلا إلى الدفاع عن وحدة البلاد وتماسكها سوى عن طريق إشعال حرب صليبية إسلامية سودانية وضعتنا في دائرة الضوء الدولية وأسالت لعاب الطامعين في تجيير أوضاعنا في مجرى استراتيجياتهم الكبرى.  

 

أيضا، أضر اليسار بالقضية، وما أكثر إضرار اليسار بالقضايا! جر اليسار المتعجل الذي لا يزال غارقا في أدبيات النضال اللينينية مشكل الهوية من تركيبه وتعقيده ليصيغ منه شعارات مبسطة يتم استهلاكها في الحراك السياسي اليومي، وفي الكسب المؤقت على حساب الرؤيوي والاستراتيجي، وعلى حساب الثوابت التي لا يقوم وطن بغيرها.  بقدرة قادر تحول اليسار واليساريون من داعمين للأممية الماركسية التي لا تعترف أصلا بخصائص العرقي والقومي والديني إلى داعمين وناشطين في منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الغربية التي يخدم حراكها خطط الهيمنة الغربية. لقد أضر كل من اليمين الديني الاسحتواذي الاقصائي، واليسار المتعلمن بلا عمق معرفي في عراكهما العبثي بمسارات الأمور في السودان ابلغ الضرر. ولقد جاء الوقت لتشريح رؤيتيهما، وتجربتيهما، ونهجيهما، تشريحا لا يبقي ولا يذر.

  

معنى هذا أنك تتفق معنا بأن هناك أزمة في فهم الهوية السودانية وهل شكلت تلك الأزمة عاملا من عوامل فشل النخبة في إنجاز مشروع الدولة السودانية؟

  

أجيب على ذلك بنعم. لقد كان مخطط فرض الهوية العربية الإسلامية على القطر برمته عملا معوقا لمشروع الدولة السودانية، ولقيام أمة سودانية موحدة تحتكم إلى  دستور يعطي الحقوق على أساس المواطنة، وليس على أساس الانتماء الديني، أو السياسي، أو العرقي، أو الجندري، أو الجهوي، أو الطبقي. لقد قادنا مخطط الاستعراب  والأسلمة القسريين وإلباس اللبوس الإسلامي الفقهي السلفي لجهاز الدولة بواسطة النخب النيلية بمختلف توجهاتها عبر عقود ما بعد الاستقلال، حتى أصبحنا اليوم قاب قوسين أو أدنى من خطر انفصال الجنوب عن الشمال. وأسوأ من ذلك، من خطر احتمال أن يمتد تأثير تداعي قطعة الدومينو الأولى التي يمثلها الجنوب على بقية القطع الأخرى التي تمثل بقية أطراف القطر. وها هي قضية دارفور، التي تم تسخينها وتدويلها في سنوات قليلات، تفعل في بنية القطر وفرص استقراره وتقدمه ما لم تفعله قضية الجنوب في نصف قرن!! إن النخب النيلية المتنفذة لم تتعلم شيئا إلى اليوم! وأخشى ما أخشى أن ننتهي في نهاية الشوط إلى ما هو أصغر وأفقر من "مثلث حمدي" الشهير. 

 

لقد جرى استخدام الشعار الإسلامي في الحراك السياسي في السودان وفي غير السودان بغرض إحراز السلطة وإخراس الأصوات المعارضة. فمن يعارض الدولة يصبح معارضا لله!! ولا أرى أن في التبسيط المخل يمكن أن يصل إلى ما هو أسوأ من ذلك. بهذا الشكل تم وضع الدولة في موضع الذات العلية!! في ظل هذا الإطار القامع المستأصل للمخالف في الرأي، تم قتل الأستاذ محمود محمد طه جهارا نهارا في أبشع جريمة جرت في القرن العشرين في حق مفكر أعزل.  

 

أظهرت التجربة العملية للإنقاذ، وبما لا يدع مجالا للغلاط، أن الشعار الإسلامي لم يتم رفعه أصلا لخدمة البلاد والعباد، وإنما لخدمة الأفراد الذين ركبتهم شهوة السلطة ولم يعرفوا كيف ينزلونها من على ظهورهم. فحالة اليسر والدعة التي يعيش فيه المتنفذون الاسلامويون اليوم في السودان، في مقابل المساغب الجمة التي يعيشها الشعب بمعظم قطاعاته لكافية في حد ذاتها لتجريدهم من دعاوى التدين والإصلاح جملة وتفصيلا. لو أردت أن أختار هوية لجعلت هويتي "العدل". فالإسلام في فهمي هو "العدل" بأكثر من أي شيء آخر. كل الجدل وكل الحراك وكل الإجراءات التي لا تجعل قضية العدل قضية مركزية ليست سوى أمور مضللة. من يرفع الشعار الإسلامي لابد أن يكون متأسيا بسيد الخلق، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أو بعمر بن الخطاب على أقل تقدير. والتأسي بهما إنما يكون في خاصيتين أساسيتين هما: العدل والزهد. لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة لدى يهودي! 

 

ذكر حسن نجيلة أنه بدأ خطابا وهو يشير إلى الشعب السوداني قائلا: ((شعب عربي كريم))، فقال له علي عبد اللطيف: ((بل قل: شعب سوداني كريم)) وذكر نجيلة أن تلك الملاحظة التي أبداها له علي عبد اللطيف قد وقعت  في نفسه موقعا حسنا. غير أننا للأسف لم ندرك مغزى ملاحظة علي عبد اللطيف المبكرة تلك إلى اليوم! ويخبرنا البحث المتميز الذي أنجزه الأديب الراحل، خالد الكد عن ثورة 1924، واستشهد به فيما بعد الدكتور يوسف فضل، أن ما سمي بجمعية الهاشماب كانت تسمى في البدء جمعية الموردة. وقد كان من البارزين فيها الشقيقان عبد الله، ومحمد عشري الصديق. وقد كان هؤلاء الشقيقان يريان أنه لا ينبغي جرجرة الأمة السودانية والإلقاء بها جملة في سلة الهوية العربية الإسلامية. ويرى خالد الكد أن ذلك الخلاف المبكر هو ما جعل جمعية الهاشماب تخرج من جمعية الموردة. ونتيجة لذلك الانشطار ذهب الثقل إلى جمعية الهاشماب واحتلت بذلك جمعية الهاشماب دائرة الضوء. ويقول الدكتور يوسف فضل: ((وباستثناء محمد وعبد الله، ابني عشري الصديق، فلم يكن أفراد مجموعة الموردة والهاشماب يختلفون عن الأبروفيين في مفهوم الهوية والذاتية السودانية، وهو ما قاد للصراع داخل الجماعة فحول اسمها من الموردة إلى الهاشماب، ثم الصراع بين ابني عشري الصديق من جهة وباقي أفراد الجماعة حول مفهوم " السوداني" حيث رأوا عدم موضوعية الاحتفاظ بالصلة العروبية الإسلامية في وضع ديباجة حزب القوميين القائم على "السودانية" في حين رأت البقية غير ذلك)).. انتهى نص الدكتور يوسف فضل.

 

في تلك اللحظة التاريخية الفارقة تم إبعاد كل من عبد الله ومحمد عشري الصديق إلى هامش النخبة. وفيما أرى فإن التاريخ سوف يعيد للشقيقين النابهين، عبد الله ومحمد عشري الصديق اعتبارهما. ما أشرت إليه أعلاه يمثل بعضا من مشهد نومة النخب السودانية "العربسلامية" الكهفية الطويلة التي غاب خلالها عن وعيهم وجود بقية أهل القطر. عبر تلك النومة القرنية ضاعت مكونات السودان القومية المتمثلة في الوجدان الإفريقي الإنسانوي، وفي الموروث التاريخي شديد التركيب، وفي اللغات، وفي التقاليد المتنوعة. لقد تم تغييب ثلاثة آلاف عام من التكوين النوبي، وألف عام من التكوين المسيحي، وما يماثل الاثنين من التكوين التاريخي لقبائل وممالك وسلطنات جنوب الصحراء لتبقى لنا فقط هذه القرون الخمسة الممتدة منذ نشوء دولة سنار وحتى اليوم.

 

في مسألة الهوية دائما ما يرجع العربسلامويون إلى نموذج سنار، فيما يرى دعاة السودان الحديث أنه لا بد من إصطحاب كل التاريخ السوداني القديم؟

 

نعم حين نفكر في تاريخينا نعود به إلى سنار وحين نصل إلى بدايات سنار يواجهنا من وراءها فضاء مظلم مخيف لا نملك إزاءه سوى القفز عبر الحاجز الجغرافي الذي يمثله البحر الأحمر لنتشبث بحواشي تاريخ الجزيرة العربية!! وسنار نفسها على قصر مداها الزمني قد تم محق خصائصها الانسانوية المستقبلية المتمثلة في قيم التصوف في وعينا. أجهزت الراديكالية المهدوية على الكثير من خصائص سنار وسماتها المستقبلية. وجاء من بعد المهدية الفقه المؤسسي المصري الذي مكن له الحكم الثنائي (1898- 1956)، ليقضي على البقية الباقية من مركب الهوية السودانية. غاب كل ثراء تاريخينا وتنوعه، وكل خصائصنا الأصيلة التي تميزنا عن غيرنا من مقررات المنهج المدرسي، وعن الخطاب الإعلامي الرسمي وغير الرسمي. بل لقد غابت كل تلك الأمور حتى عن الأفق البحثي لباحثينا الذين أغرقوا أنفسهم في مبحث الهوية في أضيق نطاق. وهكذا لم نعد نعرف غير هذا الهلام العربسلامي اللزج الذي أنتجته نخب مدن الوسط والشمال المأزومة التي لم يهمها حقا سوى المأكل الدسم، والمأوى الكبير، والمرقد الوثير، والمركب الفاره، وسلامة الذات ومحيطها القريب من سائر الأخطار، وبكل سبيل. استخدمت النخب بوتقة الهوية المصنوعة تلك لتقضي على التفكير النقدي ولتخلق عقولا مدجنة تعرف كيف ترعى بقيدها.

 

لقد أصبحت كلمة "الهوية" كلمة طنانة أو Buzz word كما يقول الغربيون الناطقون بالإنجليزية. وقد كثر تريد هذه الكلمة في غير الإطار الذي ينبغي أن تتم معالجتها فيه. أعني إطار البحث الهادئ المعمق الذي يتجنب مزالق تدبيج الخطاب السياسي الذي لا يستهدف سوى المكاسب قصيرة الأجل. لقد كان المتفيقهون الدينيون السودانيون الأوائل والمتعلمون السودانيون الأوائل مستلبون مصريا فيما يتعلق بالتوجه الثقافي. كانوا كذلك، بحكم التعليم المصري، وبحكم التتلمذ على الأدباء المصريين، ثم بحكم التعلق الشديد بالبروز في المطبوعات الثقافية المصرية، ونيل الإجازات المصرية. أيضا كان للتأثر بالفقهاء المصريين الذين كانوا أحد أذرع دولة الحكم الثنائي تأثيره القوي فيما حاق بنا من اغتراب عن ذاتنا الحقيقية. من يقرأ حديث نجيلة في "ملامح من المجتمع السوداني" وهو يحكي عن زيارة العقاد للسودان في بدايات الأربعينات من القرن الماضي، يرى مبلغ تهافت الأدباء السودانيين على العقاد وتباريهم بالقريض النضيد أمامه وحرصهم على تلقي الإجازة الأدبية منه. لقد كانوا منسحقين أمامه بشكل يستدر العطف ويثير الشفقة. وقد عبر عن ذلك الانسحاق نجيلة نفسه خير تعبير. كان هناك إحساس مفرط بالدونية تجاه المصريين، وأخشى أن أقول: ولا يزال. ولابد أن نستثني هنا  بعضا من مفكري وأدباء السودان ممن سلموا من ذلك الإحساس بالدونية تجاه المصريين، فقارعوهم مقارعة الند للند، بل وتفوقوا عليهم. حتى أننا لنجد أديبا كالطيب صالح يستكثر على معاوية محمد نور مقارعة الأدباء المصريين مقارعة الند للند. من أبرز الذين قارعوا المصريين بندية، على سبيل المثال لا الحصر، الأديب معاوية محمد نور، والمفكر، الأستاذ محمود محمد طه، والسياسي، عبد الرحمن علي طه. لقد أنسى الاستلاب الخارجي متعلمينا الأوائل أمتهم وواقعهم المعقد، فاندفعوا في نسج هذا الجلباب العربسلامي الضيق ليحلوا به أزماتهم الشخصية، لا أزمة البلاد. هام كل من العباسي والتجاني بمصر هيام المحبين المشوقين. فشببوا بها ونسبوا فيها نسيب قلوب تقطعت نياطها. وهام المحجوب بلبنان فشبب بغيدها وأرزها، وحجرها، ومدرها. غير أن الذي تبدى عبر مسيرتنا أنه كلما تقدم بنا الزمن، كلما ضاق ذلك الجلباب الفقهي العربسلامي عن جسد هذه البلاد الضخمة الشديدة التركيب والتنوع المسماة السودان.

  

وماذا ترى في المشاريع الفكرية التي تحاول فرض الهوية بقوة السلطة أو السلاح ؟

  

يقول الدكتور منصور خالد إن الهوية سيرورة تاريخية معقدة. وهي بتلك الصفة لا يتم إلباسها للبلاد والعباد بقرار سياسي فوقي. وفي هذا ما يكفي لمواجهة دعاة الأدلجة الإسلاموية الذين يريدون أن يلبسوا البلاد بأسرها خوذة واحدة يختارونها نيابة عن كل أهل البلاد بدون فرز! ويقول الدكتور عبد الله علي إبراهيم إن هوية المرء هي ما يختاره لنفسه. فأنت لا تستطيع أن تقول لمن يرى أنه عربي مسلم أنك لست عربيا مسلما، ثم تذهب مرهقا نفسك في تدبيج الحجج لتؤكد له أنه غير ذلك! المهم هو أن نخلق انتماء قوميا يسنده دستور يعطي الحقوق على أساس المواطنة، لا على أساس العرق، أو الدين، أو اللون، أو الجندر، أو الطبقة. فالهوية القومية بهذا المعنى السياسي لا تتناقض مع الهويات الأخرى والانتماءات الأخرى. هناك الكثير من الدول التي تتكون من أعراق وثقافات وديانات مختلفة ويعيش أهلها في سلام ووئام، وذلك بسبب احتكامهم إلى دساتير لا تفرق بينهم. أعني: دساتير تكفل حرية الرأي، وحرية الاعتقاد، وحرية التعبير وتكفل حق الحركة السياسية والثقافية في العمل المفتوح لتغيير اتجاهات الرأي العام، ومن ثم كفالة التداول السلمي للسلطة عن طريق صندوق الاقتراع. ما يمكن أن نجمع عليه نحن كسودانيين هو دستور إنساني يكفل الحقوق المتساوية للمواطنين. على هذا الدستور تقوم الأمة الموحدة ويقوم الوجدان القومي المتجانس. طرق هذا الأمر الأستاذ محمود محمد طه منذ بدايات الخمسينات ولم يلتفت إليه أحد. بل إن عصاب الدولة الدينية الذي كان يعتمل في هذا العقل الوافد الذي لبس ذوات المثقفون السودانيين ومن بعدهم نمط السلطة الذي شكلوه هو الذي صادر حين اشتد، حياة الأستاذ محمود محمد طه.

 

ينبغي ألا نفهم أن التجانس في وجدان الأمة يعني انمحاق الخصائص المتميزة للمجموعات أو الأفراد. نعم، لابد من ثوابت وطنية. ولكن يجب ألا يتم اتخاذ تلك الثوابت الوطنية ذريعة لمصادرة الحقوق وإيقاف النمو ووأد الاختلاف وفرض أفق واحد وصوت واحد على الجميع. الأجمل والأبهى أن يكون بساطنا منمنمة، ملونة، مزوقة، لا بساطا بلون باهت واحد.

 

كثيرون يتحدثون وكأن لا سبيل إلى عمل إي شيء قبل أن نفرغ من تحديد هوية السودان! هذا ما لا أستسيغه ولا أهضمه، وربما أجد صعوبة حتى في فهمه ابتداء. وأعيد قول الدكتور منصور خالد مرة أخرى وهو إن الهوية سيرورة، أي مسار. فهي تتشكل في الزمن وتتضافر على خلقها عوامل عديدة. ومن شروط السير في وجهة حل إشكالها قيام الدستور الذي يكفل الحقوق ولا يفرق بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين أو العرق أو اللون أو الطبقة أو الجندر. ما نحتاجه هو الإصلاح السياسي الذي يرفع وصاية الحاكمين على الناس. ثم التنمية المتوازنة والارتفاع بظروف عيش المواطنين وفتح منابر الحوار على مصاريعها. لا يحق لأي أحد أن يصادر حق الآخرين في أن يفكروا وأن يقولوا وأن يعملوا تحت دعوى الحفاظ على أي شيء، حتى لو كان ذلك الشيء الذي يُراد الحفاظ عليه هو الوطن أو الدين نفسه. ليس للوطن وللدين وكلاء أناطت بهم السماء حمايتهما نيابة عنها. استخدام الخطاب الديني ليس سوى ذريعة لإخراس صوت الناس وإرباكهم. فاحتكار حق الدفاع عن الدين فرية قديمة قضت عليها أنوار المعرفة الإنسانية وهي تصارع الكهنوت الأوروبي. أن تجيء في انقلاب عسكري، وتخلق تنظيما سياسيا تموله من مال الدولة وتحتكر له وسائل الإعلام وتعمل كل ما في وسعك لتكميم أفواه الآخرين، أمور كفيلة في حد ذاتها بأن تحرمك من أي حق في التحدث نيابة باسم أي فضيلة وأي قيمة.

 

نحن بحاجة إلى نهضة اقتصادية تقوم منذ البداية على قواعد العدل. نهضة تنأى بنفسها عن الرأسمالية المتوحشة التي لا تراعي ضعف الضعيف وقلة حيلته وضعف تعليمه وتدريبه وبؤس أدواته. النهضة التي نبتغيها نهضة لا تعتنق وصفات صندوق النقد الدولي القائلة برفع الدعم مطلقا وبالخصخصة المطلقة وبالذوبان في منظومة العولمة التي توشك أن توصل الاحتكار في الكوكب حد الإبقاء على شركة واحدة مسيطرة. نحن بحاجة إلى تعليم لا يعتمد غسل الأدمغة وخلق بشر متشابهين كالعلب التي يخرجها سير الإنتاج في المصنع. وإنما تعليم يعلم التفكير النقدي ويعلم الابتكار في الفكر وفي الحرفة، كما يعلم الاستماع إلى الآخر والصبر على الآخر المختلف، بل والاحتفاء بالرأي المغاير. هذه هي قاعدة صناعة الهوية. فالجاهل والفقير والمقموع ليست لهم هوية سوى الجهل والفقر والقمع. وستظل تلك هي هويتهم مهما تنطعنا وتشدقنا باللفظ الطنان في مبحث الهوية.

 

أيهم أقوى تاريخيا في تجربة دولة ما بعد الاستقلال: صراع الهوامش الجغرافية مع الدولة المركزية، أم صراع الآيدلوجيا والدولة؟

  

هذا سؤال تصعب الإجابة عليه. فالقضية أكثر تركيبا مما توحي به صيغة السؤال. أعتقد أن صراع الهوامش الجغرافية أنجز من الضغط على الدولة المركزية ما لم تنجزه الأحزاب المؤدلجة عبر عراكها الطويل مع الدولة المركزية. الطريف أن من يمسك بالسلطة اليوم هو أحد هذه الأحزاب المؤدلجة! المعركة اليوم هي بين الهوامش الجغرافية وبين الدولة المركزية المختطفة من قبل واحد من أذرع المعارضة الأيديولوجية لصيغة الدولة المركزية التي أسفر عنها حراك الاستقلال.

  

نجحت الهوامش الجغرافية في كسر صلف الدولة المركزية. أصبحت الدولة المركزية الآن هي الحريصة على التفاوض، وأصبح الهامش الجغرافي هو الذي يتأبى عليها! هذا وضع جديد. لقد تم قمع الهبات الأولى في الجنوب بقوة السلاح، بعنف لا مزيد عليه. لقد حدث في نصف القرن الذي أعقب الاستقلال تحول كبير في هذه الناحية. ولكن لابد أن لا ننسى أننا نقف اليوم على شفير هاوية سحيقة: لقد أعطى هذا الضغط العالي على السلطة المركزية الإقليم الجنوبي حق تقرير المصير. ولست ضد حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم. ولكن لكي يكون تقرير المصير منتجا فعلا، لابد أن تتم ممارسته في إطار معقول من الاستقرار، ومن التعليم، ومن الوعي السياسي. لابد لمن يقرر في شأن كهذا أن يكون مدركا للمخاطر المحتملة. لكي يقرر الفرد في أمر بالغ الخطورة كهذا يحتاج أن يمتلك المعلومات الوافية التي تجعله قادرا على الموازنة بين المزايا والأضرار المختلفة. استخدام العواطف وحدها في شأن خطير كهذا أمر مهلك. أن تقرر الانفصال فقط لكونك مختلف اثنيا وثقافيا أو لكونك قد تعرضت لمظالم تاريخية ليس كافيا في نظري. لكي يختار الفرد العادي الانفصال لابد أن يكون واثقا وموقنا أن الانفصال سيأتيه بالاستقرار وبالرفاه، أو على الأقل أنه سوف يفتح له أبواب مستقبل أفضل. تقرير المصير وفق المعطيات السائدة في الجنوب اليوم من أمية ونقص معلومات فيما يتعلق بمزايا الكتل الكبيرة، إضافة إلى حالة التشتت الطويلة وعدم الاستقرار، ربما جعلت من قرار الانفصال، إن هو حدث، مجرد قرارا للنخب الجنوبية وليس قرارا حقيقيا للشعب الجنوبي. في تقديري أن من الحكمة ألا تتم ممارسة حق تقرير المصير في أحوال محتقنة كأحوالنا السائدة اليوم. ولكن سبق السيف العذل، وربك يستر.

  

 المثقف السوداني: ماهي حسناته وعيوبه وهل يتحمل بعض الوزر في فهم كيفية العلاقة بين السلطة والمثقف ما بعد فترة الاستقلال؟

  

هذا سؤال كبير وقد لا يتسع حيز كهذا للإجابة عليه. وللإجابة عليه ربما لزمنا أن نقوم بتعريف من هو المثقف. يرى الأستاذ محمود محمد طه، مثلا، أن كلمة الثقافة مشتقة من فعل التثقيف وهو التشذيب والتقويم. وقد ذكر في هذا الباب أن الثِّقَاف آلة يتم بها تشذيب العيدان التي تقتطع من الأشجار. فالمثقف هو الشخص العالم واسع الأفق، واسع الحيلة، وذو الخلق. ويرى كثيرون أن المثقف هو من ألم بطائفة صالحة من المعرفة في شتى ضروب المعارف. وللمفكر هادي العلوي حديث كثير عن المثقفية الحقة. وهو يرى أن المثقف الحقيقي إنسان صاحب موقف، ولذلك فإن عليه أن يقف بعيدا من السلطة. وأجد في آراء هادي العلوي شيئا من الغلو والتطرف. في ظروف مثل ظروفنا الراهنة في السودان حيث ترتفع نسبة الأمية كثيرا، ينزل سقف المثقفية كثيرا تبعا لذلك. ولذلك يصبح كثير من المتعلمين واقعين ضمن إطار المثقف. أحيانا لا يكون هناك كبير ارتباط بين مستوى التحصيل الأكاديمي وبين الثقافة. فهناك متعلمون كثيرون من ذوي التعليم العالي ولا ينطبق عليهم وصف المثقف. بينما هناك من لم يتلقوا تعليما عاليا وينطبق عليهم وصف مثقفين. يمككنا أن ندرج زعماء القبائل وسلاطينها ضمن زمر المثقفين. فكل من كان له إسهام اجتماعي مميز يدخل في زمرة المثقفين. فالشيخ بابكر بدري مثلا مثقف كبير، رغم أنه لم يتعلم تعليميا أكاديميا كبيرا. فالثقافة صنو للحكمة، والحكمة ليست حكرا على حاملي الشهادات العليا وحدهم. المثقف في تقديري هو من حصل من ضروب المعارف وحقق من شمول الرؤية ما يجعله قادرا على إدراك الصورة الكلية لمجمل الحراك الإنساني الهادف إلى حالة إنسانية أفضل. وهو فوق ذلك من يملك الضمير الأخلاقي الذي ينأى به من أن يصبح ضمن معوقات هذا الحراك، إيثارا للمصلحة الذاتية سواء كانت في المال أو في الشهرة.. المثقف هو صاحب القلب الحي، باذل الطاقة لخير الناس.

 

بناء على ما تقدم يمكننا أن ننظر إلى وضعية المثقف السوداني. ويمكننا القول إن المثقفين الأوائل لم يلزموا صراط التغيير المستقيم الذي لا تأتي نتائجه بيسر، فانخرطوا بعجلة شديدة في خدمة الطائفتين. وبعد عقود تولوا من خدمة الطائفتين بغصص عظيمة. مثال ذلك، الأستاذ محمد أحمد محجوب، والمربي، عبد الرحمن علي طه. لقد وضع المثقف السوداني الأول نفسه في خدمة الطائفية وثلم بذلك في ذاته حد المثقفية الحقة القاطع. وإذا نظرنا مثلا إلى شخص صعب المراس كأحمد خير المحامي، الذي وقف بصلابة ضد هرولة المثقفين الأوائل إلى أحضان الطائفية نجده في نهاية المطاف قد اسلم نفسه لنظام عبود العسكري. لقد تناسلت منذ تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الحركة الوطنية أجيال المثقفين الذين ظل يمضغهم الحاكم ويلفظهم متى ما مسخ طعمهم في فمه. ولقد كان الرئيس نميري أعظم ماضغ وماص لعسل المثقفين والمهنيين.

  

أراك تعود في بحث غياب المثقف إلى بدايات الإستقلال وكأنك تحاكم جيل الإستقلال المثقف؟

   

مشاكل حقبة ما بعد الاستقلال كانت نتاجا طبيعيا لثقافة تأسست منذ فجر الحركة الوطنية. همش الانجليز المتعلمين السودانيين الأوائل وأذلوهم وأوغروا صدورهم بالإعلاء المتعمد من شأن الطوائف والعشائر والحط المتعمد من شأن التعليم والمتعلمين. لم يطق المتعلمون الأوائل ذلك الوضع، خاصة أن أكثريتهم عانت من شظف عيش الوظيفة في السلك الكتابي والإداري الناشئ. كما عانت من عسف الإنجليز عقب إضراب طلبة الكلية. لقد وفر لهم بزوغ نجم الطائفية التي جهزت نفسها لخلافة الإنجليز  فرصا للمنصب والأبهة والدعة، فهرعوا إلى الحضن الطائفي. ومن لم يرض لنفسه الارتماء في حضن الطائفية، تاه مركبه وانبهمت أمامه السبل ودخل في غياهب القنوط والكآبة. نزع طرف من المثقفين الأوائل نحو الايدولوجيا فجرت الايدولوجيا عليهم وعلى البلاد من البلاوي المتسلسلة ما جرت. ونزع قبيل من المبدعين كالشعراء على سبيل المثال إلى الوقوف على السياج مؤثرين التسلي والسخرية من سيرك الأوضاع المضطربة الذي يدور أمام أعينهم. وغرق بعض من هؤلاء في عوالم الكتب، وفي الخمر والمنادمة، وفي الأدب وفي المؤانسة، لائذين بظلها من حرور مجالدة واقع وضح لهم أنه لا يتغير بسهولة. ومن هؤلاء أيضا من اغترب بعقله كليا، وقس على ذلك.

  

لم أقصد مما تقدم محاكمة أفراد بعينهم والإنحاء باللائمة على نفر بعينه. نحن جميعا ضحايا لوضع معقد لا تزال تحدياته ماثلة أمامنا. ما نحتاجه اليوم هو ألا نستمر في حالة النكران القديمة التي تعبر عن نفسها في استمرار نزعة التمجيد غير النقدي للرعيل الأول، وفي التغني بخصائصنا وتاريخنا بلا تفحص نقدي. السلطة الحالية تمارس مع المثقفين نفس ما مارسه الإنجليز من المتعلمين الأوائل، وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جئنا. لا تزال سياسة العصا والجزرة في تدجين المثقفين قائمة حتى هذه اللحظة: ترضى أن تكون بوقا للحالة السائدة الراضية عن نفسها أبدا، تجد وظيفة، وتجد منبرا، وتجد فرص عيش أفضل من غيرك. وترفض أن تكون بوقا وتختار أن تكون ناقدا متفحصا صادقا مخلصا، تكبر الشقة بينك وبين الوصول إلى مواقع التأثير وتنغلق أمامك حتى فرص العمل لكسب العيش.

  

أراني لم أكتب في غير النقد وأنت قد سألتني أيضا عن مزايا المثقفين السودانيين. وفي نظري أن مزايا المثقفين السودانيين تندرج في مزايا بقية السودانيين. فللشخصية السودانية مزايا عامة حسنة يثبتها لهم كثيرون. ولكن المزايا كثيرا ما تصبح عرضة لعوامل التعرية. فكلما انبهمت السبل وتضعضعت الآمال في تحقق حالة إنسانية سودانية أفضل وكلما صعب كسب العيش وصارت دروبه أكثر وعورة كلما تآكلت الفضائل وسهل التخلي عنها. السودانيون عموما قوم أذكياء ولماحون ومباشرون. لقد جاءت فضائلنا هذه من تاريخنا العميق المركب. نحن نتاج لقاحات تاريخية كبيرة هي أكبر عمرا من قدوم اللغة العربية إلى هذه البقاع ومن تأثيرات الدين الإسلامي عليها. علينا أن نفهم مركب هويتنا وأن نزيح الغبار عن بعض مكوناته العظيمة التي انطمرت بفعل الزمن وطول النسيان. لقد أضاف، الإسلام خاصة في جانبه الصوفي، دما جديدا في شرايين الحياة السودانية. لقد أضاف إرث التصوف ألوانا إلى فسيفساء الحياة السودانية. كما أضافت إليها اللغة العربية ألوانا زاهية أخرى. علينا أن نخرج من حالة العمى التاريخية التي ألمت بنا لنرى ونتذوق هذه الفسيفساء الزاهية الألوان التي تمثل هذا المركب السوداني البديع المدهش.

  

باختصار شديد أرى أن تركيزنا في هذا المنحنى التاريخي الهام الذي نمر به ينبغي أن ينصب على عيوبنا كمثقفين لا على مزايانا. اللهم إلا حين يكون ذكر المزايا وسيلة لحشد طاقات العقول والنفوس في وجهة التغيير. فإن من المدح ما أنام وما أقعد عن سبل الفلاح.. يجب ألا ننسى أننا حتى هذه اللحظة بلد فاشل. ويتحمل المثقفون الوزر الأكبر في هذه الحالة المزمنة من العجز والفشل. حكوماتنا بمختلف أشكالها لم تكن سوى إفراز لأزمة المثقفية لدينا. المبحث الحقيقي هو تشريح حالة المثقفية لدينا وليس تشريح الحكومات! فالأخيرة نتيجة للأولى.

  لقد أشرت إلى جذور تخلي المثقفين السودانيين عن شعبهم منذ فجر الحركة الوطنية في الإجابات السابقة. فالمثقفون هم القادة الذين يرسمون لأممهم طرائق المستقبل ويضربون لها النموذج والمثل الأعلى في تجسيد أخلاقيات العمل القاصد إلى تحسين أحوال البلاد والعباد. فأين مثقفونا مثلا، عبر مراحل نمو الدولة السودانية الحديثة، من قولة الأستاذ محمود محمد طه: ((ساووا السودانيين في الفقر إلى أن يتساووا في الغني))!؟ عموما لن ينهض شعب بلا قيادات ناضجة في الفكر، وفي السياسة، الثقافة، وفي الاقتصاد، وفي التعليم، وفي الأخلاق. وأشدد على الأخلاق، فالأخلاق هي المحك. فالتمظهر بالمظهر الديني لا يعني بالضرورة أن الأخلاق متحققة بالضرورة. لم يخرج من مثقفينا حتى الآن قادة يُعتد بهم.  في الكم ولا في الكيف سوى قليلين. نعم هناك قليلون من ذوي القامة العالية، ولكنهم أبعدوا، وحوربوا، وقمعوا، بل وقتلوا. ولا تزال الحرب على المثقفية التي تلد قيادات حقيقية مستعر أوارها.   

 

آراء