النُّوبة بين عهدين (1985-1989م) (4 من 4)

 


 

 

د. عمر مصطفى شركيان
shurkian@yahoo.co.uk
مذبحة الضِّعين والرِّق في السُّودان
إنَّ مناطق الحزام البشري الذي يفصل بين العرب في شمال أفريقيا والأفارقة جنوب الصحراء قد اُبتِليت بنمطيَّة شاذة من الاسترقاق المنزلي بعد أن انقضى عهد الرق عبر القارات.  فها هو أحد شيوخ الطوارق – المدعو أريتسال، شيخ إينيتس، الذي كان حتى آذار (مارس) 2005م يمتلك 7,000 عبداً (95% من تعداد سكان إينيتس في شمال غرب النيجر) قبل تحريرهم يومئذٍ - يقول: "إنَّه لمسلم قانت، وامتلاك العُبدان يتعارض مع القرآن".  هذا في قطر اعتبرته الأمم المتحدة العام 2004م ثاني دولة فقيرة في العالم مع ارتفاع نسبة المواليد، حيث نجد أنَّ 870,000 من مجموع السكان البالغ تعدادهم 12 مليون نسمة من العبيد.  فلم يأت هذا الانعتاق من ربقة العبوديَّة من فراغ، بل حدث هذا عندما تمَّ تغيير القانون الذي بات بموجبه يعاقب كل من يمتلك الأقنان ب30 عاماً في السجن.  لقد تمَّ تجريم الاسترقاق في النيجر بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي العام 1960م، دون أن يفرض الدَّستور الجديد يومئذٍ عقوبة رادعة على المتعاملين فيه.  بالرَّغم من أنَّ السُّلطات الفرنسيَّة الاستعماريَّة قد ألغت الرِّق عبر القارات وأغلقت أسواق الرقيق إلا أنَّها لم تتخذ إجراءات حاسمة ضد الاسترقاق الطبقي للعمال في هذا القطر، بل نعته ب"العمال المتطوِّعين" منذ العام 1905م.  وفوق ذلك، غضَّت السلطات الوطنيَّة بعد الاستقلال الطرف عن الاسترقاق الشَّامل لشعبهم، الذين يتم القبض عليهم كالأنفال في الحروب، أو اختطافهم والمتاجرة بهم أو تسديدهم كمهر للزيجات.  فلم يكن هناك نصاً في الدَّستور فيه ينص المشرِّعون وجوباً لا جوازاً على معاقبة مرتكبي جريمة العبوديَّة.  وما زالت هذه الممارسات اللاإنسانيَّة تتم في أفريقيا جنوب الصحراء، وفي دول مثل: مالي وموريتانيا وتشاد والسُّودان.  ويقوم هؤلاء المسترقون بالرَّعي، النَّظافة، نصب الخيام، جلب الماء والحطب، الطَّهي، وتوفير الإمتاع الجنسي والمؤانسة العاطفيَّة لإولئك الأسياد ترغيباً أو ترهيباً.(90) 
حين يتعرَّض النَّاس إلى شحنات سياسيَّة بتركيز مستمر، يصبحون عرضة للتصديق والتفاعل معها، وبخاصة إذا خاطبت هذه الشحنات المعتقدات الدِّينيَّة، العراك السياسي، الجوانب الثقافيَّة، التَّنافس الاقتصادي، والتأريخ الدفين، وبأسلوب مبسَّط لأنَّ الأفكار البسيطة لها وقع رنَّان في نفوس النَّاس وعقول البشر، ولا سيَّما إذا تكرَّرت هذه الأفكار مرة بعد الأخرى، حتَّى تتوغَّل في أدمغتهم وتختلط مع عواطفهم.  إذ أنَّ تلاقي هذه العوامل يزيد من رد الفعل، وإضافة شحنة أخرى ينتج اشتعال الأوضاع الإجتماعية وتخرج عن السيطرة، وهذا ما حدث في الضِّعين تحديداً.  فنسبة لانفراط عقد الأمن وتواطؤ بعض الأحزاب السِّياسيَّة، قامت قبيلة الرِّزيقات بإحراق مجموعة كبيرة من قبيلة الدَّينكا في الضِّعين في آذار (مارس) 1987م. "تمَّ كل ذلك في إطار سلبيَّة كاملة من السُّلطات الحكوميَّة، والتي أقعدها العجز وسوء التَّخطيط، ولم تستطع وزارة الدَّاخليَّة السُّودانيَّة حتَّى تسمية الجناة، وقيدت القضيَّة ضد مجهول، في صورة واضحة تؤكِّد فشل الحكومة".(91)  لقد كشف الغطاء عن هذه الواقعة المحققان الدكتور سليمان على بلدو، وكان يعمل وقتها محاضراً في قسم الغة الفرنسيَّة بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، والدكتور عشاري أحمد محمود خليل، وهو كان محاضراً في معهد الدراسات الأفريقيَّة والآسيويَّة في الجامعة نفسها.(92)  وكما ورد في الوثيقة يحلِّل كاتبا التَّقرير أسباب المذبحة إلى الآتي:
أولاً: سياسة الحكومة بتشجيع قبائل المسيريَّة والرزيقات ضد الدينكا في هذه المنطقة، في إطار إستراتيجيَّة مجابهة الجَّيش الشَّعبي لتحرير السّودان.
ثانياً: بروز النَّهب المسلَّح في مجتمع الرزيقات ضد مجتمع الدينكا كوسيلة للإثراء الطفيلي وفي تناغم مع سياسة الحكومة.
ثالثاً: بروز الرِّق في مجتمع الرزيقات كمؤسسة تتوافر ظروف رواجها في سياق سياسة الحكومة في المنطقة.
كانت نتائج المذبحة بيع أطفال وفتيات ونساء الدينكا كرقيق "بعضهم مملوكين لعدد من عرب الرزيقات" وتحويلهم إلى أرقاء واستخدامهم في الاقتصاد الرزيقي.  ومن المؤسف حقاً أنَّه استطاع نواب حزبي الحكومة المؤتلفان (الأمة والاتحادي الدِّيمقراطي) في الجمعيَّة التأسيسيَّة (البرلمان) إسقاط اقتراح قدَّمته المعارضة للتحقيق في المذبحة، وهكذا أُسدِل الستار نهائيَّاً على الموضوع في 30 حزيران (يونيو) 1989م.(93)  فبدلاً من تتبع الجناة وأخذ كل مجرم بجريرته وإعطاء كل ذي حق حقه، تمَّ اعتقال الدكتور عشاري محمود.(94)  فقد ذكر السيِّد الصادق المهدي في مؤتمر صحافي يومئذٍ أنَّ المؤلِّفين أساءا إلى سمعة الدَّولة، مما اضطرَّ عشاري أن يرد على سياسة دفن الرؤوس في الرمال هذه في إحدى اللقاءات الصحافيَّة أنَّه ليس هناك شئ اسمه سمعة الدَّولة، بل سمعة الحكام.  هذا هو السيِّد الصَّادق المهدي الذي أراد أن يجعل من حكومته دكتاتوريَّة مدنيَّة، ومن نفسه ملكاً عضوضاً.  وذلكم هو عشاري الذي لم تنقصه الشجاعة في المعالجة البحثيَّة التي تناوش المردة، والجسارة في نطاق المسكوت عنه اجتماعيَّاً وسياسيَّاً، والجرأة في نقض التراتب القمعية الذي يستبدل الظلم بالعدل، والتعصُّب بالتَّسامح، واللصوص بالشرفاء، منحازاً دائماً إلى المعذَّبين المضطهدين في الأرض، وإلى كل ما يقود المجتمع إلى آفاق التقدُّم لا هاوية التقهقر.  فقد أثار تقرير الكاتبين من رياح عاتية لكشف المستور في مفاسد الأمور، وإبراز الأضرار البليغة في مجالات حقوق الإنسان والتي لا يلج في الكتابة فيها إلا من امتلك جسارة عقل ورجاحة حكمة في المساءلة والمحاسبة والخروج على المألوف المغلوف، ومن ثَمَّ تعريَّة الأقنعة الزائفة باسم الوحدة الوطنيَّة، القوميَّة العربيَّة، الدين الإسلامي وغيرها من الحجج الواهية الواهنة كخيوط العنكبوت.  "إنَّ مظاهر الكراهيَّة (Xenophobia) لموجودة ومتأصلة في نسيج المجتمع السُّوداني، وإنَّ هذا النسيج ليعاني من علل متأصِّلة لا تخطئها إلا عين مكابر مما يقتضي الاعتراف بها، والتَّسليم بوجودها والتعرُّف عليها، والعمل على وضع المعالجات النَّاجزة لها على مختلف المستويات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة وغيرها".(95) 
البَّحث عن السَّلام
لم يكن أهل الحكم في الخرطوم في عجلة من أمرهم لإيجاد حل سياسي لمشكل الحرب الأهليَّة في جبال النُّوبة.  إذ رفضوا الاعتراف بوجود المشكل في المقام الأول؛ وهكذا تعاملوا مع الموقف بصورة سلحفائيَّة، كما هي الحال عموماً في السُّودان عند التَّعامل مع الأمور الخطيرة والمصيريَّة، واتَّخذوا سياسية "تمليش" قطاع من المواطنين في المنطقة للتَّصدِّي للأوضاع الأمنيَّة بالقوة العسكريَّة.
وعندما كانت المظالم التي أدَّت إلى قيام الحرب التي اشتعلت جذوتها في الجنوب هي التي أوجدت الأوضاع التَّعيسة في جبال النُّوبة، عليه ارتأينا أن نورد مبادرات بعض من الأحزاب السياسيَّة لحل مسألة الحرب الأهليَّة في السُّودان، فكان أبرز خطأ سياسي أجمعت عليه هذه الأحزاب نعت المسألة "بمشكلة جنوب السُّودان" بهذا الفهم التَّقليدي القديم-الجديد.  إنَّ أبرز ملامح الافتراق بين الخطاب السِّياسي للحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان وكل من المبادارت السياسيَّة التي طُرِحت من قبل الأحزاب السياسيَّة في السُّودان هو أن الحركة الشَّعبيَّة كانت تنادي بمناقشة مشاكل السُّودان مع التَّركيز على إنصاف المناطق المهمَّشة؛ بينما ركَّزت الأحزاب  في وثائقها وجهودها على معالجة ما يسمَّى ب"مشكلة جنوب السُّودان".  فبالرَّغم من أنَّ أهالي النُّوبة ومواطني النِّيل الأزرق قد رفعوا السِّلاح ضد السًّطات الجوائر في الخرطوم، وخاضوا حروباً ضارية في ديارهم وجميع أصقاع البلاد التي استبسل فيها الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، إلا أنَّ أحزاب الشمال حاولت تعمُّداً اختزال الحرب الأهليَّة في نزاع شمالي-جنوبي، ومن ثَمَّ يتسنَّى حصر القضيَّة القوميَّة في نطاق ضيِّق يتَّسع فقط لإعادة ارتداء إتِّفاق أديس أبابا للعام 1972م، وبذلك تضيع حقوق سكان المناطق المهمَّشة الأخرى الذين رفعوا السِّلاح أسوة بأهل الجنوب.  وقد طرحت الحركة الشَّعبيَّة فكراً عميقاً في المشكل السُّوداني ما يمكننا اعتباره اليوم أكثر رؤى ذلك الزمن لزمننا تبصُّراً.  إذ جهل البعض هذه الرؤية الشَّاملة، وفي المقولة القديمة "من جهل شيئاً عاداه"؛ وتجاهل البعض الآخر هذه الرؤية لشئ في أنفسهم أو لحاجة في نفس يعقوب.  ومع اختلافنا مع كثر من النِّقاط التي أثيرت في هذه المذكِّرات، رأينا أنَّه من المهم تسليط الأضواء عليها، مستعرضين تلكم الوثائق بالنَّقد والتَّحليل وبشئ من الإسهاب كثير.  فقد قدَّم الحزب الشُّيوعي السُّوداني ورقة لحل ما وصفه ب"قضيَّة الجنوب" لرجال الحكم العسكري الانتقالي، تجمع النقابات والأحزاب السياسيَّة في 17 نيسان (أبريل) 1985م – أي بعد أقل من أسبوعين من تأريخ قيام الانتفاضة الشَّعبيَّة في 6 نيسان (أبريل) 1985م (ملحق رقم (3)).  وفي الحق، إذ تُعتبَر وثيقة الحزب الشُّيوعي السُّوداني أول وثيقة جادَّة من قبل الأحزاب السياسيَّة لمخاطبة مسألة الحرب الأهليَّة في السُّودان، مقارنة مع الأوراق الأخرى التي وقعت بين أيدينا.
ومثلما ابتهج بعض أهل الشمال فرحاً بدعوة الحركة الشَّعبيَّة إلى السُّودان الموحَّد، كذلك أبدا بعضهم شكوكاً مستريبة فيما تدعو إليه الحركة عن وحدة السُّودان.  كان من بين الذين أظهروا ريبتهم عن تبني الحركة الشَّعبيَّة وحدة السُّودان شعاراً الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد – المحاضرة يومذاك بمعد الدراسات الإضافيَّة التابعة لجامعة الخرطوم وعضوة ذائعة الصيت في الحزب الشيوعي السُّوداني.  ففي نقاشها مع الدكتور لام أكول أجاوين – وقبل أن يلتحق الأخير بالحركة الشَّعبيَّة – حول منفستو الحركة انتقدت سعاد التحليل التأريخي الذي ورد في المنفستو، كما ألقت بما فيها من شكوك كثيفة حول "ادعاء الحركة بأنَّها قوميَّة" لا "حركة جنوبيَّة"، واعتبرت هذا الاتجاه غير واقعي، ويجهل "الحقائق الموضوعيَّة في المجتمع السُّوداني"، كذلك عبَّرت عن تحفظاتها على التوجه الفكري للحركة، وبخاصة بعض الألفاظ التي وردت في المنفستو مثل "الصفوة البيروقراطيَّة البرجوازيَّة" (Bourgeoisified bureaucratic elites)، و"العُصبة أو الزُمرة الأقليَّة" (Minority clique)، والتي وصفتها بأنَّها اُستخدِمت في المنفستو بصورة غير علميَّة وتفتقر المحتوى الطبقي.  كذلك، لم تخف سعاد ريبتها حول "مزاعم الحركة بأنَّها تمثِّل طليعة الثَّورة الإشتراكيَّة"، ووصَّت الحركة ألا تقفز فوق المراحل الاجتماعيَّة للتطوُّر.(96)  دعنا نترك التَّنظير الماركسي الإشتراكي جانباً، لنرى ما هيَّة "الحقائق الموضوعيَّة في المجتمع السُّوداني" التي تحدَّثت عنها الأستاذة سعاد؟  إنَّ إشارة سعاد إلى أنَّ الحركة الشَّعبيَّة قد تجاهلت الواقع الاجتماعي السُّوداني، وإنَّ الحركة ليست بمقدورها تمثيل السُّودان كافة لهي إشارات وإيحاءات إلى أنَّ السُّودان الذي يزعم بعض أهله أنَّه عربي ومسلم – وفي اختزال لعين للآخر – لا يمكن أن يقبل بغير عربي وغير مسلم لهم قائداً ورئيساً.  كذلك، لا نظن أنَّ هناك مؤهلات محدَّدة – علميَّة أو اجتماعيَّة – لاصطفاء العناصر المكوِّنة للطليعة الثَّوريَّة، إلا إذا كانت سعاد ترى أن هناك فئة (أو طبقة) اجتماعيَّة أو إثنيَّة بعينها لا تستحق شرف "طلائع الثَّورة الإشتراكيَّة"؛ وهنا تجدر الإشارة إلى ما في نفوس بعض من أولئك وهؤلاء الشيوعيين السُّودانيين الذين كان ينعتهم راحلنا – المغفور له بإذنه تعالى – يوسف كوة مكي ب"الإشتراكيين العرب"؛ أو اليسار المستعرب – كما وصفهم الصَّحافي اللبناني فؤاد مطر – لأنَّهم يتصرَّفون بالحس العروبي أكثر من التصرُّف بالحس السُّوداني، أي لميلهم لقضايا القوميَّة العروبيَّة أكثر من القضايا الوطنيَّة السُّودانيَّة.(97) 
ثمَّ من بعد، نأتي إلى الورقة التي قدَّمتها الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة باعتبارها "رؤية شاملة لوقف نزيف الجنوب السُّوداني" (ملحق رقم (4))، هكذا ادَّعت الوثيقة.  وحملت الورقة – فيما حملت – التَّحليل التَّقليدي الذي ينظر إلى مسألة الحرب في جنوب السُّودان بأنَّها صنيعة الاستعمار البريطاني-المصري (1898-1956م) الذي جثم على البلاد ردحاً من الزَّمان، دون أن يسأل متبنيي هذه الرؤية أنفسهم من ذا الذي أجَّج الأحداث السياسيَّة التي تسارعت وتضافرت حتَّى أدَّت إلى خرق اتِّفاق أديس أبابا الموقَّع العام 1972م، مما ترك جروحاً نفسيَّة عميقة لم تتم بلسمتها حتَّى اليوم؟  على أية حال، فإنَّ الوثيقة عبارة عن بانوراما تأريخيَّة – بصورة انتقائيَّة - عن أهم الأحداث أو السياسات التي بموجبها تمَّ تشكيل الوضع السياسي لجنوب السُّودان، مثل "سياسة المناطق المقفولة"، ومؤتمر جوبا العام 1947م وسياسات حكومات ما بعد الاستقلال.  ثمَّ ادَّعت الوثيقة عن اضطهاد المسلمين من أهل الجنوب بواسطة رجال الكنيسة، وإنَّه لكذبة بلقاء وإفتراء على الحق كذباً وهم يعلمون غير ذلك.  واختتمت الورقة برنامجها بالادِّعاء أن الحل الشَّامل ينبغي تناول "الأسباب الجذريَّة التي هيَّأت أرضيَّة الأزمات"، وهي العامل الجغرافي-التأريخي والثَّقافي، والتنمية والخدمات وشكل الحكم، والقانون.  إذ أنَّ المرجع السياسي لهذه المقترحات، التي هي قول حق أريد بها باطلاً، هو النِّظام الإسلامي شريعة وتطبيقاً.  إنَّ القانون والأخلاق ليسا منوطين باللاهوت وحده، وما من مدرسة من المدارس الدِّينيَّة - أي دين – تستطيع أن تدَّعي لنفسها احتكار الحقيقة.  إنَّ الذين إدَّعوا أنَّ الدِّين الإسلامي هو مصدر التَّشريع، والعدالة مصدرها النِّظام الإلهي عبر الحكمة الجماعيَّة في الأمة (الإسلاميَّة) لهم في عراك دائم مع الذين لا يؤمنون بهذا التنظير، ولهذا فإنَّ العقد الاجتماعي في نظرهم ليس على نحو ما تصوره رجال عصر التَّنوير الذين أعلَّوا من شأن العقل، وإنَّما هو عقد أبدي ديني ينطوي على قوة أخلاقيَّة هي المحافظة على المجتمع، وحكمه بالعقد الإلهي.
بما أنَّ السيِّد الصَّادق المهدي، زعيم حزب الأمة، كان يستأثر بالقرار في حكومته، إلاَّ أن الاتحاديين قد لعبوا دوراُ متأرجحاً في سياساتهم مما أضرَّ بالمصلحة العليا للبلاد.  فقد "حاولوا التَّقارب مع الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة في اتِّفاق وقَّعه السيَّدان الشَّريف زين العابدين الهندي عن الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي والدكتور حسن عبدالله الترابي زعيم الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة، ونصَّ (الاتِّفاق) على التَّنسيق بعد تقارب وجهات النَّظر في بعض القضايا، منها إعلان كوكادام الذي وقَّعته القوى السِّياسية والنَّقابيَّة (من جهة) مع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان (من جهة ثانية) في أثيوبيا العام 1986م، باستثناء الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي والجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وكذلك موقفهما من إلغاء قوانين أيلول (سبتمبر) المتعلِّقة بالشَّريعة الإسلاميَّة التي أعلنها وطبَّقها  الرئيس جعفر نميري، واتَّفقا على الوقوف معاً في المعارضة أو الحكم، لكن الجزء الأخير لم يطبَّق".(98)  إذ بلغ ابتزاز الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة بالحزب الاتِّحادي الدِّيمقراطي مبلغاً لم يستطع الأخير الاستمرار في التَّحالف الوطني لإنقاذ الوطن، ذلكم التَّحالف العريض الذي ضمَّ في أحشائه أحزاباً سياسيَّة (عدا الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة) ونقابات مهنيَّة (التجمع النَّقابي)؛ وأخيرا آثر الحزب الإتِّحادي الدِّيمقراطي الابتعاد والنأي بنفسه عن هذا التَّحالف، وبعدما وصفوه بتجمع "اليسار" أسوة ب"جبهة الهيئات"، التي تكوَّنت في أعقاب الثَّورة الشَّعبيَّة في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1964م.  إنَّ الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي حزب يفتقد البرنامج المتكامل لمخاطبة قضايا السُّودان المحوريَّة، ولا سيَّما مشكل الحرب الأهليَّة التي كانت دائرة في جنوب البلاد ووسطها، وإلاَّ فما أصدرت "لجنتهم المكلَّفة بوضع ورقة عمل حول مشكلة الجنوب" بياناً هزيلاً وخاوياً العام 1986م.  وعملاً بحريَّة التَّعبير وقبول الرأي الآخر مهما كان الاختلاف نشرت الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان ترجمة بصريَّة لهذه الورقة "الإتحاديَّة"، وذلك بدون تعليق في مجلتها "السُّودان الجديد"، والتي كانت تصدر باللغة الإنجليزيَّة.(99)  ففي هذه الورقة (ملحق رقم (5))، التي نحسبها سياسة الحزب السريَّة، ذكر الاتحاديون – فيما ذكروا - في مفتتح ورقتهم خوالد الرعيل الأول للحزب ومن أفضال النِّظام "المايوي" المباد. إذن، ما هي أبرز الملامح السياسيَّة التي جاءت بها الورقة "الإتِّحاديَّة"؟  دعت الورقة إلى:
التَّبشير بقيام الجمهوريَّة الإسلاميَّة في السُّودان تحقيقاً لرغبة هذا "الشَّعب العربي المسلم"، بالرَّغم من ارتفاع أصوات "الإلحاد" عالية والتَّزرُّع "بوثنيَّة" أهالي الجنوب وحساسيتهم من تطبيق شرع الله.
مباركة قيادة الحزب لما قام به الرئيس المخلوع جعفر محمد نميري من التَّقسيم للأقاليم الجنوبيَّة خدمة للإسلام عن طريق سياسته "فرِّق تسد"، وهي السياسة المثاليَّة في الوقت الرَّاهن وخطوة حميدة لخلق دولة العروبة والإسلام.
احتواء الأحزاب السياسيَّة من الإقليم الجنوبي، وذلك دعماً لاستمرار التَّقسيم الإداري، وأساساً متيناً لوضع أقدامنا في أرضيَّة تابعة بالإقليم الإستوائي لمواجهة الهجمة الكنسيَّة الشَّرسة.
من النَّاحية الأمنيَّة، مساندة – بكل قوة – تكوين وتدريب وتسليح القبائل والمليشيات بالإقليم الاستوائي وتحريض قبيلة النوير المتمثِّلة في شكل تنظيمي متطوِّر والمعروف بأنيانيا 2 أو القوات الصِّديقة بمنطقة أعالي النِّيل.
استنفار الجهد العربي والإسلامي واستغلال المال العربي في نصرة قضيَّة الإسلام وإعلاء راياته وهمَّة العروبة في الجنوب بصفة عامة والاستوائيَّة بصفة خاصة.
استخدام اللُّغة العربيَّة ونشرها في جنوب البلاد وجبال النُّوبة كأداة فعَّالة لنشر الثَّقافة العربيَّة والإسلاميَّة. 
إنَّ "الثنائيَّة الاختزاليَّة" للآخر – أي العروبة والإسلام في غياب الآخر غير العربي وغير المسلم – هي التي أوجدت، كما أسلفنا ذكراً، مشكل الهُويَّة في السُّودان، وأحد العوامل الرئيسة في اشتعال فتيل الحرب الأهليَّة في البلاد، وحين رقص الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي طرباً لقيام الرئيس نميري بتجزئة الجنوب إلى ثلاثة أقاليم بدلاً من الإبقاء عليه كإقليم واحد وعكس ما جاء في روح اتِّفاق أديس أبابا للعام 1972م كان طربهم هذا آية من آيات الغدر والمكر السئ، الذي يبرهن أنَّهم وقفوا يترصَّدون الفرصة المؤاتية حتَّى سنحت لهم تلك الفرصة فيما سُمِّيت ب"المصالحة الوطنيَّة" العام 1977م، واشترطوا على نميري نحر اتِّفاقيَّة أديس أبابا في الخافرة كثمن عودتهم إلى البلاد والانخراط في أجهزة نظام "مايو" بما فيها الإتِّحاد الإشتراكي السُّوداني، فكان لهم ما أرادوا.
ثمَّ ندلف إلى مسألة قوات الأنيانيا 2، وحق السماء لم نر أبداً في تأريخ الأمم وجغرافية الشعوب دولة تقسِّم مواطنيها إلى أصدقاء وأعداء، وجنودها من حملة السِّلاح إلى صديقة وأخرى غير صديقة إلاَّ دولة السُّودان في عصر حكام الخرطوم.  وفي هذا الصدد لم نر أبلغ من حديث رث الشُّلُك، أيانق، حين استدعاه السيِّد الصَّادق المهدي – رئيس الوزراء – في الخرطوم وطلب منه تكوين مليشيات موالية للحكومة من أبناء الشُّلُك لمحاربة الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان.  تُرى ماذا كان رد الرَّث للسيِّد رئيس الوزراء؟  قال الرَّث أيانق، الذي رفض الفكرة رفضاً مليَّاً، إنَّ مسؤوليَّته كرث للقبيلة تصب في التَّصالح بين أفراد المجتمع، وينبغي عليه أن يكون محايداً، ويُرى أنَّه محايد، بالنسبة لأطراف الصراع السُّوداني.  وحين سأله الصَّادق: "لماذا إذن تستضيف المتمرِّدين في قريتك؟"  ردَّ عليه الرَّث: "إنَّ هذه الضيافة من جانبه، والاستضافة التي منه مطلوبة، يتأتَّى في إطار نظرته إلى المتحاربين في الحرب الأهليَّة بأنَّهم أبنائه، ولا يمكن أن يحبِّب بعضهم على البعض؛" وذكَّر رئيس الوزراء – لعلَّ، أو قل إنَّ الذكري تنفع المؤمنين - إنَّه كذلك يرحِّب بموظَّفي الحكومة وقيادات الجَّيش عندما يزوروه في مقر إقامته.  فما كان لرئيس الوزراء – بعد فشله في تطويع الرَّث لصالح الحكومة، وفي إثبات وجود علائق وطيدة بينه وبين الحركة الشَّعبيَّة – من بدٌّ إلا أن أغدق عليه، وهو ضاحكاً مستبشراً، بوسام النِّيلين من الدرجة الثَّانية،(100) لا الدرجة الأولى؛ لأنَّ الأوسمة من الدرجات الأولى ومناصب النائب الأول كانت - بالطبع والتطبُّع - حتَّى وقت قريب من نصيب صفوة أهل الشمال.
كما أنَّ موضوع تطويع اللُّغة العربيَّة لخدمة الأغراض السياسيَّة والهيمنة الثقافيَّة هو الفهم السَّائد في كافة أرجاء الوطن العربي على وجه التَّعميم وفي السُّودان على وجه التَّخصيص، وذلك بأنَّه يمكن ترويض اللُّغة العربيَّة ذات "السحر الخاص" واستخدامها كأداة فاعلة للسيطرة على القلوب والعقول، وانتشارها من الإطار القديم وهو الجزيرة العربيَّة لتكون في كل الدول العربيَّة اليوم.  هكذا ذهب الداعون لهذا الاتجاه بعدم اعتماد الشَّعب المصري على لغته القديمة القبطيَّة، ولا السوري على الآراميَّة، ولا الجزائري على الأمازيغيَّة، ولا المغربي على البربريَّة، ولا العراقي على الكرديَّة (سُوراني وبديني)، وكذلك هم يحاربون اللُّغات السُّودانيَّة المتعدِّدة.  وهم – علاوة على ذلك – يسعون سعياً حثيثاً أن تكون اللُّغات الأخرى في حالة تضاؤل شيئاً فشيئاً حتَّى تنحصر في الأديرة ثمَّ تتحوَّل إلى لغات قديمة يدرسها العلماء اللسانيُّون، أمَّا الشُّعوب فتنساها تماماً وتمسي نسياً منسيَّاً.
كذلك أشارت الورقة "الإتِّحاديَّة" – السَّالفة الذكر - إلى "احتضان النصراني فيليب عبَّاس غبُّوش وتمثيله في حكومة الائتلاف"، بعد ما قبلوه بتحفظ شديد لرفع الحرج وتشكيل الحكومة، هكذا أرادوه.  لقد لعب الصراع العربي-الإسرائيلي دوراً واضحاً في المزايدة القوميَّة في أنظمة الحكم السُّودانيَّة المتعاقبة، لذلك زعم الاتحاديون أنَّ الأب غبُّوش قد رفض إدانة إسرائيل والصهيونيَّة العالميَّة العام 1967م.  إنَّ الاستهجان أو الاستحسان - أو كلاهما - لا يغنيان من الأمر شيئاً، ولا يستطيعان أن يردا مفاعيل الأمر الذي لا محالة واقع، وكل مما ليس منه بدٌّ.  أفليس الاستهجان جهوراً والإتيان بما هو عكس ذلك سراً هو خصلة من خصال النِّفاق!  فكم قادة عرباً وحكومات عربيَّة أدانوا دولة إسرائيل علناً وعلمنا – من بعد أو في حينه – أنَّهم في تعامل موصول مع إسرائيل (In cahoots with Israel).  إذا ارتأى الاتحاديون أن رفض الأب غبُّوش إدانة الصُّهيونيَّة العالميَّة يمثِّل عيباً مشيناً؛ فما بال حزب الأمَّة الذي سعى "للتحالف مع اسرائيل لمجابهة خصمه في السُّودان والذي تمثَّل في حصول الحزب الوطني الاتحادي على الأغلبيَّة البرلمانيَّة وتحكمه في وضع أسس وتحديد معالم السُّودان المستقل خلال الفترة الانتقاليَّة للحكم الذاتي (1954-1956م)"؟(101)  لم يدر بخلد السيِّد الصَّادق المهدي، الذي ألَّف كتيباً ونشره في نيسان (أبريل) 1964م سمَّاه "مسألة جنوب السُّودان" وهو يعترض فيه على انفصال الجنوب لأنَّه - إن تمَّ ذلك – سوف يعني إقبال اسرائيل على جنوب السُّودان لتعمل على تهديد الامن والسلام في السُّودان الشِّمالي، أنَّ إسرائيل هذه تتفاوض مع حزبه - الذي كان يترأسه والده عصرذاك - في لندن.  على الأقل لم يستنكر الأب فيليب غبُّوش دولة إسرائل – أو هكذا قالوا – لكنه في الوقت ذاته لم يقم بتصدير اليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى إسرائيل عبر توفير ممرات آمنة في السُّودان، وذلك لتقوية المجهود البشري الإسرائيلي ضد العرب كما فعل نميري وسدنته.  لذلك لم يرتفع صوت واحد ضد الأب غبوش في مدينة بورتسودان – حاضرة البحر الأحمر – حين زارها بعد الانتفاضة الشَّعبيَّة، كما علت أصوات "البورتسودانيين" ضد الدكتور حسن عبدالله التُّرابي، وفغر الجميع أفواههم وهم يهتفون: "الفلاشا لن تتلاشى!"، تنديداً بدوره السِّلبي أو الإيجابي حين كان مستشاراً لرئيس الجمهوريَّة – المشير جعفر محمد نميري – في غمرة عام تصدير اليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى دولة إسرائيل عبر الأراضي السُّودانيَّة.  هذه أمثلة من العرب المستعربة في السُّودان خاصة، فماذا عن العرب العاربة في الشرق الأوسط عامة؟  فمن شاء فليقرأ في هذا الصدد ما كتبه الصحافي المصري الذائع الصيت محمد حسنين هيكل عن شخصية الملك حسين، وعن المعلوم والمكتوم في دور الملك الحسن وسياساته.  فماذا دوَّن عنهما بعد موتهما؟  قال هيكل في شأن الأول – أي الملك حسين عاهل الأردن الرَّاحل – أنَّه كشفت "هيئة الإذاعة البريطانيَّة في برنامج قدَّمته أواخر العام 1998م، في مناسبة مرور خمسين عاماً على إنشائها، أنَّ الملك حسين ذهب يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1973م إلى مقابلة سريَّة مع رئيسة وزراء إسرائيل – جولدا مائير – أي قبل أيَّام من 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973م، وحذَّر جولدا مائير من أنَّ مصر وسوريا تدبِّران لشن معركة مفاجئة ضد القوات الإسرائيليَّة."(102)  ألم تر كيف جاء القادة الإسرائيليُّون إلى الأردن لتشييع جثمان الملك حسين حتَّى قال أحد هؤلاء القادة في نفسه ولرفاقه – الذين وقفوا صفاً واحداً، وخاشعة أبصارهم، أمام موكب الجثمان الجنائزي وهم لا يتكلمون إلا من استأذن وأُذِن له – لو كنتم تعلمون ماذا فعل هذا الملك الصَّريع لبلادنا لحضر جميع رؤساء دولة إسرائيل لتشييع جنازته، الأحياء منهم والأموات سراعاً من الأجداث كأنَّهم إلى نصب يوفضون.  أما الملك الحسن الثَّاني – عاهل المغرب الراحل – فقد نعاه رئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك قائلاً: "لقد صدم الشَّعب والحكومة في إسرائيل بإعلان وفاة الملك الحسن الثَّاني ملك المغرب، فطوال حياته أظهر شجاعة نادرة وحكمة سياسيَّة جعلت منه رائداً في التَّقارب مع إسرائيل، وفي بناء جسور سياسيَّة واقتصاديَّة بين البلدين.  وقد أصبح صديقاً ليهود المغرب".  وفوق ذلك، كتبت صحيفة "معاريف"  الإسرائيليَّة في 26 تموز (يوليو) 1999م، أي بعد أيَّام من وفاة الملك الحسن: "كشف أمير أورين (مسؤول بارز في الموساد) في مقابلة مع هذه الصحيفة، أنَّ الملك الحسن سمح للموساد بأن تتسمع على المناقشات التي دارت بين الزعماء السياسيين والقادة العسكريين للعالم العربي، في مؤتمر قمة الرباط العام 1965م.  ولا بد من الاعتراف أنَّ هذا التسمُّع كانت له نتائج مخابراتيَّة مهمَّة في الجهد الذي أدَّى إلى انتصار إسرائيل في حرب 1967م."(103)  إذا كانت هذه هي حال العرب القح فماذا تودون من الأب غبوش؟  أفبعد هذا الحديث تريدون أن يكون الرَّجل إعرابيَّاً أكثر من العرب المستعربة والعاربة على السواء؟  شدَّ ما تعنفون الرَّجل وتشططون عليه، وفي هذا العنف وذاك الشطط ينطوي عليهما معنى ذلك الشطر الشعري القديم: "وجرح اللِّسان كجرح اليد".
إن التأريخ السُّوداني غالباً ما لا ينصف هذا القيادي السُّوداني البارز، ولم ينقذه من شر المياشيم، أي أولئك الذين يخلطون الحق بالباطل وهم يعلمون.  ففي 21 آب (أغسطس) 1966م أصدرت محكمة أمن الدَّولة في مصر برئاسة الفريق الدجوي أحكاماً بالإعدام على ثمانية من الأخوان المسلمين من بينهم المفكر الإسلامي سيِّد قطب، فعقدت الجمعيَّة التأسيسيَّة في السُّودان جلسة مستعجلة في جلستها رقم 112 لمناقشة اقتراح أحمد مختار (الدائرة 36) دنقلا الوسطى، وجرى الإقتراح كالآتي: "اعتقد أنَّ كل من سمع اليوم بالخبر الذي انتشر عن حكم الإعدام، الذي صدر ضد سيِّد قطب وزملائه قد صرع له، واشفق على مصير الأمَّة العربيَّة والإتجاه الإسلامي، ولذلك رأيت أن أتقدَّم باقتراح لتقوم الجمعيَّة بالتماس في صورة برقيَّة لمجلس الأمَّة وللرئيس جمال عبدالنَّاصر لإيقاف تنفيذ حكم الإعدام، واستبداله بحكم مخفَّف."  كان أبرز رأيين وردا وعبَّرا عن تيارين مختلفين هما: رأي محمد سليمان (دوائر الخريجين، يساري) وفيليب عبَّاس غبوش (اتِّحاد عام جبال النُّوبة).  فقد قال محمد سليمان: "يا سيِّدي الرئيس بعد كل ما قيل من كلام عاطفي، فإنَّني أعارض هذا الاقتراح معارضة مبدأ لأنَّ فيه تدخُّلاً في شؤون مصر وأي تدخُّل أكثر من التدخُّل في الأحكام وهو أن نطلب تغييراً لهذا الحكم الذي أصدرته المحكمة المصريَّة، فإنَّني أرى ذلك تدخُّلاً واضحاً في شؤون مصر الدَّاخليَّة".  أما فيليب غبوش، فقد قال: "يا سيِّدي الرئيس أرى أن نتوسَّل إلى الرئيس جمال عبدالنَّاصر ألا ينفِّذ حكم الإعدام على سيد قطب ورفاقه، لأنَّ سيِّد قطب بلغ بعلمه الذَّروة العالميَّة."  بينما كان الأخوان المسلمون يملأون الميادين والشَّوارع في العاصمة صلواتاً وتظاهرات ضد الأحكام، كانت ردة فعل المتعاطفين مع النِّظام المصري تسيير موكب بقيادة الشَّيخ علي عبدالرحمن في 8 كانون الأول (ديسمبر) 1966م لتأييد أحكام الإعدام، واصطدام الموكب الذي كان تحت حماية البوليس مع موكب مضاد قاده "الأخوان المسلمون"، حيث استطاعوا تشتيت موكب الشَّيخ علي عبدالرحمن – الشَّيخ الأحمر، كما وصفه الرَّاحل محمد أبو القاسم حاج حمد – ومطاردة قادته.(104) 
وفي الحق، فإنَّ القادة والرؤساء حين يتركون السُّلطة طوعاً، أو يُجبرون على تركها كرهاً، يستطيع فريق منهم بملء أفواهم أن يعدِّدوا إنجازاتهم إن كانت لهم إنجازات، أو يقوم فريق آخر بتبرير عهدهم في السُّلطة بذكر المبرِّرات التي حالت دون الإنجازات، ويضطر فريق ثالث باجتراء الحسرة والنَّدامة لأنَّهم لم يفلحوا في الإفادة من الفرص الذَّهبيَّة التي أُتيحت لهم لحظة ما كانوا على قمة الهرم السُّلطوي.  وهنا نستطيع - بكل تأكيد - إضافة اسم السيِّد الصَّادق المهدي في قائمة الفريق الثَّاني، وكذلك ضمن قائمة الفريق الثَّالث إن هو أصبح جريئاً وقام بانتقاد نفسه وإبراز النَّفس اللوَّامة بداخله، إن كانت له تلك النَّفس التي تقوم بمعاتبة ذاتها وإظهار شئ من اللَّوم والعتاب كثير.  فلا مُراء أنَّ السيِّد الصَّادق المهدي قد فشل في كل العهود التي فيها حكم السُّودان، فلم يستطع أن ينجز شيئاً لأهل النُّوبة خاصة، والمناطق المهمَّشة عامة؛ إذ أنَّه باستطاعته أن يجادل أنَّه لم يُعط من الزَّمن ما هو كافٍ لتنفيذ برنامجه في الستينيات من القرن المنصرم بعد أن حكم تسعة أشهر، ولحقت به كوارث أي كوارث بسسب المعارضة الشرسة داخل حزبه، التي كان هو سيِّدها وخالقها حتَّى أتت عليه أكلها مراً كطعم الحنظل؛ ولكنه – مهما كان الشأن – لا يستطيع أن يجد لنفسه تبريراً لإخفاقاته في الثمانينيات من القرن المنقضي حين بات رئيساً للوزراء للمرة الثَّانية دون أن يكون قد استفاد من تجارب الماضي، وعراك السنين في الحياة العامة.  على أيَّة حال، فبعد إجهاض حكومة السيِّد الصَّادق المهدي بواسطة انقلاب الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة في 30 حزيران (يونيو) العام 1989م، وجد الصَّادق فرصة للتَّأمُّل في الفترة الدِّيمقراطيَّة، فاستخلص الدُّروس الآتية على المستويين الشَّخصي والعام، حسب زعمه:(105)
أولاً: إنَّ الدٍّيمقراطيَّة بشكلها الليبرالي لن تنجح من دون أقلمة للظروف الحضاريَّة والاجتماعيَّة، وسمَّيت التَّجربة الممكن نجاحها في السُّودان ب"الدِّيمقراطيَّة التعاقديَّة".
ثانياً: إنَّ العوامل الدَّوليَّة والإقليميَّة في عالم تقارب بصورة جعلته أشبه بالقرية تجعل عامل الأمن والتَّنمية والاستقرار في أي بلد غير معزولة عن العالم الذي يحيط به، ولا بدَّ للقيادات السياسيَّة من أن تتدبَّر ما ينبغي أخذه في الحسبان بالنسبة إلى هذه العوامل، وهذا ما كتبته في كتاب سمَّيته "تحدِّيات التسعينات".
ثالثاً: صرت مقتنعاً تماماً بأنَّنا – أهل الشمال – همَّشنا العناصر غير الإسلاميَّة وغير العربيَّة، واعتقدنا أنَّ واجبنا تثبيت وتأكيد كينونتنا الإسلاميَّة-العربيَّة، بصرف النَّظر عن إحساس الكيانات الأخرى.  وفي رأيي أنَّنا بذلك ارتكبنا غفلة كبيرة، ولم نأخذ ذلك في الحسبان، ولذلك هم بصورة أخرى حملوا السِّلاح لاستنكار هذا الموقف.  وأنا من أوائل السُّودانيين الذين تنبَّهوا لهذه الحكاية، وأصدرت كتابي "مسألة جنوب السُّودان" العام 1964م.
بالنَّظر إلى استخلاصات الصَّادق التَّأمليَّة نجدها ثرثرة في الفسلفة والتفيهق أكثر من أي شئ آخر.  فلا نخال أنَّ الصَّادق قد عرف أنَّ العالم قد أصبح قرية في التسعينيات المنقضية بعد ما فقد منصبه الرَّفيع كرئيس وزراء السُّودان العام 1989م.  ومن قبل فقد شهدت حكومته (1986-1989م) أخطاءاً جسيمة وتجاوزات إنسانيَّة حتَّى بات العالم يستصرخه لإنصاف الذين ظُلِموا في الأرض دون أن تلين قناة رئيس الوزراء، فلم يعمل على إيقاف الحرب الأهليَّة في السُّودان وتوصيل مواد الإغاثة إلى المتضرِّرين والمتضوعين جوعاً في الجنوب، وبخاصة حين أوتي فرص نادرة كادت أن تجعل منه أعظم قائد سياسي في تأريخ السُّودان الحديث، إلاَّ أنَّه أبَّى وتجبَّر.  أمَّا في وصفه لتهميش العناصر، التي سماها السيِّد الصَّادق المهدي، غير الإسلاميَّة وغير العربيَّة بأنَّه "غفلة كبيرة"، فهذا وصف تقليل من المحنة، لأنَّ الغفلة تأتي دائماً عفواً ودون قصد، ويمكن أن تُغتَفر، ولا نحسب أن الظلم الناشئ عن هذا التَّهميش عبر الحقب التأريخيَّة المختلفة كان نتاج غفلة، بل كان جوراً مقصوداً ومرصوداً، حيث رفض أهل الشِّمال التَّعامل معه بإيجابيَّة عمليَّة، بما فيه السيِّد الصَّادق المهدي نفسه الذي تبوَّأ منصب رئيس وزراء السُّودان مرتين.  بيد أنَّ إعلان مواقف أو تدوينها في كتاب "مسألة جنوب السُّودان" دون اتِّخاذ خطوات عمليَّة لتنفيذها فهو العذر الذي هو أقبح من الإثم نفسه.
خلاصة
في هذين العهدين – الحكومة الانتقاليَّة وحكومة السيِّد الصَّادق المهدي – نظرنا إلى القضايا التي مست النُّوبة مسَّاً مباشراً على الصعيدين القومي (المركزي) والمحلي (الجهوي). فمركزيَّاً، لم يتم تمثيل النُّوبة – وكذلك أهل البجة والفونج ودارفور – في المجلس العسكري الانتقالي ولا في مجلس الوزراء المدني، وبذلك تمَّ حرمانهم من المشاركة في صناعة القرار (أي السلطة التَّنفيذيَّة)، ثم لم يتم إشراكهم في لجنة صياغة الدَّستور الانتقالي، ولم يشتركوا في لجنة صياغة قوانين الانتخابات، مع العلم أنَّ الجمعيَّة التأسيسيَّة تعتمد دائماً على القوانين التي بها يتم انتخاب النواب البرلمانيين.  إذ أنَّ هذا التجاهل عن قصد قد ساعد على عدم تمثيل النواب النُّوبة في الجمعيَّة التأسيسيَّة (الجهاز التَّشريعي) بالصورة التي بها تسمح لهم إبراز قضايا دوائرهم الجغرافيَّة الملحة والجوهريَّة.  أما أهل الجنوب فاختلف أمرهم تماماً.  فبفضل تأريخهم النضالي الطويل سياسيَّاً وعسكريَّاً، وما لعبه قادتهم في العاصمة القوميَّة الخرطوم بُعيد الإنتفاضة الشَّعبيَّة، اضطر قادة الحكومة الانتقاليَّة (المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء المدني) تضمين صوت أهل الجنوب في الحكومة المركزيَّة.  ففي منتصف عهده في الحكم أدرك السيِّد الصَّادق المهدي ضرورة احتواء النُّوبة في حكومته وامتصاص غضب أبنائهم في الحركة الشَّعبيَّة حتى ولو بطريقة صوريَّة مستريبة؛ هكذا منحهم حقيبة وزاريَّة خدميَّة (السياحة والفنادق) وحرمانهم من الوزارات السياديَّة والاقتصاديَّة.
إنَّ تمثيل النُّوبة في التَّحالف الوطني لإنقاذ الوطن، ومشاركة اتحاد عام جبال النُّوبة في مؤتمر منتجع كوكادام في أثيوبيا في آذار (مارس) 1986م، مع العلم بأنَّ هذا التَّحالف – الذي كان يضم نقابات مهنيَّة وأحزاب سياسيَّة – كان أداة ضغط فقط، حيث فشل في تمرير سياساته في وجه تعنُّت المجلس العسكري وتعاون الأخير مع الأحزاب التَّقليديَّة (الأمة، الإتحادي الدِّيمقراطي والجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة) ضد مصالح قوى الانتفاضة - بما فيها القوى الحديثة - وطموحات الشَّعب السُّوداني.  كما أنَّ إشتراك النُّوبة في إنشاء وتسيير تضامن قوى الرِّيف السُّوداني أضحى هو الآخر جماعة ضاغطة من غير أن تكون هذه الجماعة جهازاً تنفيذيَّاً أو تشريعيَّاً أو قضائيَّاً لكيما يحقِّق مبادئ الديمقراكيَّة، قيم الحريَّة وسيادة حكم القانون ولا سيَّما في مناطق التنازع المسلَّح.
كذلك أوردنا في الكتاب غيضاً من فيض التَّجاوزات التي مُورِست في منطقة جبال النُّوبة تحت تداعيات الوحدة الوطنيَّة تارة، والعروبة والإسلام تارة أخرى؛ ومن المؤسف حقَّاً أنَّ هذه التراجيديا غير الإلهيَّة قد حدثت في عهد غلب عليه اسم الدِّيمقراطيَّة.  وأخيراً أخفق الصَّادق في تحقيق السَّلام لأنَّه تلكأ في السير في هذا الإتجاه؛ وحين بدأ السَّعي إليه كان سعياً كسيحاً – أو كما تقول الفرنجة (Too little, too late)، ولم يفلح في مكافحة الوبائيَّات في مناطق النِّزاع، وتكالبت الظروف المناخيَّة، وانتشر الفقر، وشاعت المجاعات، واتَّسعت دائرة الحرب الأهليَّة، وعجزت حكومته المتهالة في الإنفاق على المرافق العامة، وفشلت في تقديم أنموذج للدِّيمقراطيَّة المسؤولة وشفافيَّة في السُّلطة.  ولا غرابة – والأمر كذلك – أن نرى وغير بعيد عن ذلك التنديد بالذين غدروا بأحلام الانتفاضة الشَّعبيَّة، وكانوا – بالنِّسبة لنا ولسوانا – أولئك وهؤلاء الطَّامعين البيروقراطيين الحزبيين الذين هيمنوا على مقدرات الدَّولة محطمين الأحلام الثَّوريَّة اليوتوبيَّة الكبيرة، التي جاءت بها الانتفاضة الشَّعبيَّة العام 1985م.  فحين انفضَّ زمن الثَّورة وجاء زمن سيد الدَّولة – السيِّد الصَّادق المهدي – دب فينا يأس عظيم، أُودي بالبعض إلى اختيار النِّضال المسلَّح ملجاً لهم من أوضاع ما كادت - بالنِّسبة لهم - تحتمل.  فبعد أن تمَّت الانتخابات شبه العامة استبشرت قطاعات شعبيَّة ورسميَّة واسعة داخل وخارج السُّودان بأنَّ جنة الدِّيمقراطيَّة سوف تفيض على السُّودان بقطوف دانية وفيرة.  وما أن بدا زيف الشُّعارات الانتخابيَّة، حتَّى صار السُّودانيُّون في أقاليم السُّودان المتباعدة يشعرون بضآلة الإنجاز، وعدم صدق الوعود، والمتاجرة بالتَّفويض الشَّعبي.  وهنا نكأ التَّوجُّه الدِّيمقراطي جراحاً قديمة لم تلتئم أغوار بعضها بعد.
ملحق رقم (3)
من الحزب الشيوعي (السُّوداني) إلى السَّادة ممثلي:
المجلس العسكري االانتقالي.
تجمع النقابات.
الأحزاب السياسيَّة.
الموضوع: قضيَّة الجنوب
نأمل أن يتَّسع صدركم لمقترحاتنا، ولأسلوب المذكرات، الذي نعتقد أنَّه يوفِّر الوقت والجهد، ويساعد المجتمعين واصحاب القرار على التركيز وسرعة البَّت في حالتي الاتفاق والاختلاف.
(1) نقترح أن تقترن الدَّعوة للحوار باصدار بيان من المجلس العسكري الانتقالي، بوصفه القابض على السُّلطة، يوضِّح سياسته نحو الجنوب، وحل المشاكل التي نشأت، تمهيداً لوقف نزيف الدَّم. ونرى أن يقدِّم البيان اجابة واضحة وموقفاً محدَّداً من الأسباب التي قادت إلى تفاقم الأزمة واندلاع الحرب الأهليَّة فاذا كانت حكومة مايو قد أعلنت بيان 9 حزيران (يونيو) 1969م خلال أسبوعين من تسلُّمها السُّلطة، فقد كان متوقَّعاً، ومازال، أن تصدر القيادة العامة بعد بضع ساعات من تسلُّمها السُّلطة وبيانها الأول، بياناً عن الجنوب، لأنَّ حجم الحرب الأهليَّة اليوم أكبر وأخطر عشرات المرَّات عمَّا كانت عليه العام 1969م.  ولسنا في مكان من يتطاول لتبصير القيادة العامة بحجم خسائر القوات المسلَّحة في الحرب، وضحايا المعارك من الطَّرفين من أبناء الوطن الواحد، وخاصة وطن الجنود والصف ومقاتلي جيش تحرير شعب السُّودان. وما عاد خافياً على الرأي العام في الدَّاخل والخارج أنَّ تكلفة الحرب تتراوح مابين 3-5 مليون جنيه سوداني في اليوم خلال شهري كانون الثَّاني وشباط (يناير وفبراير) من هذا العام (1985م).
(2) الدَّعوة للحوار، بدون سياسة محدَّدة، لن تجدي، ولن تعدو كونها بادرة لاظهار حسن النيَّة. ولكن كل سياسة تقاس بخواتيمها ونتائجها، وليس بالنوايا مهما كانت دوافعها نبيلة. وفي تاريخ السودان السياسي سوابق وتجارب. فالدعوة للحوار في مؤتمر المائدة المستديرة العام 1965م، لم يكتب لها النجاح، الاَّ بعد تحديد أجندة المؤتمر، وكانت الأجندة بمثابة صياغة دقيقة مختصرة للمشكلة الرئيسيَّة وفرعياتها، وعموميات الحلول المقترحة. وماكان لدعوة الحوار بعد مايو أن تنجح لولا بيان 9 حزيران (يونيو) 1969م.  وقد يقال: لنبدأ الحوار ونصل من خلاله لتحديد المشاكل، ونواصله بحثاً عن الحلول. لكن هذا التصوُّر قد يصلح في الحقل الديبلوماسي لحل المشاكل بين الدُّول، إلاَّ أنَّه لا يصلح لحل المشاكل الدَّاخليَّة في دولة معيَّنة. فضلاً عن أنَّ هذا التصُّور ينسخ حقيقة أنَّنا جميعاً عاصرنا تفاقم الأزمة نتيجة لقرارات وأوامر جمهوريَّة محدَّدة ومعلومة أصدرها الحاكم الفرد نميري. ونتيجة لممارسات فرضها فرضاً رغم تحفُّظات وتحذيرات كبار ضبَّاط القوات المسلَّحة في الجنوب، وعدد من مستشاريه، ورغم معارضة نواب الجنوب في مجلس الشَّعب الأقليمي. ولا نرى حرجاً في الاشارة لتلك الأوامر والقرارات والممارسات.
أ - قرار تقسيم الجنوب.
ب - الخلاف حول حدود الميريات الجنوبيَّة حسبما كانت عليه العام 1956م منذ إعلان الاستقلال. والقنبلة الزمنيَّة الأخيرة التي زرعها الحاكم الفرد نميري قبل أسابيع من سقوطه، بتقليص مساحة أعالي النِّيل من خط العرض 12 إلى خط عرض 10، وقبل ذلك سماحة لشركة شيفرون بمعاونة خبراء البنتاقون - وزارة الدِّفاع الأميريكيَّة - وخبراء وكالات المخابرات الأميريكيَّة، لاستجلاب مجموعات من جنود البحريَّة الأمريكيَّة - المارينز - لحراسة حقول البترول في بانتيو، وسماحة لأمريكا بإقامة ثلاث قواعد عسكريَّة في شكل مطارات حربيَّة ومحطَّات اتِّصال في بانتيو وفي مريدي غرب الاستوائيَّة وفي كفياكنجي غرب بحر الغزال، إضافة لأوامره كقائد عام ووزير دفاع بإخلاء مديريَّة الوحدة من السكَّان لحماية أمن حقول النَّفط.
ج - التَّجاهل المتعالي للتطلعات المشروعة لأبناء الجنوب بعد اكتشاف النَّفط في بانتيو، ومطالبتهم لأن يخصص جزء من عائده لتطوير الإقليم، فلم يبذل أي جهد مستنير أو صبور لإقناعهم أنَّ الثروات القوميَّة في باطن الأرض وفوقها ملكيَّة لكل الشَّعب السُّوداني، وأنَّ تطوير الجنوب رهين بترشيد التخطيط الاقتصادي، وتوزيع الدَّخل القومي وإعادة توزيعه، مع العناية الخاصة بالتَّنمية في الجنوب اعترافاً بتخلفه الموروث وآثار سنوات التمرُّد. ثمَّ ازدادت المشكلة تعقُّداً بالقرار حول تشييد المصفاة في كوستي بدلاً عن بانتيو. وأخيراً تجرَّعنا كأس المذلَّة في الشمال والجنوب عندما تراجع نميري عن قرار استهلاك البترول داخليَّاً لتوفير الطَّاقة للانتاج الزِّراعي والصناعي والنَّقل والخدمات وخضع لشروط شركة شيفرون بتصدير البترول كيما ترتفع قيمة أسهمها في سوق المال العالميَّة، وكيما تضمن استعادة استثماراتها ونصيبها في الأرباح، لأنَّ السُّودان عاجز عن توفير العملة الصَّعبة لتغطية ذلك.
د - تشريعات أيلول (سبتمبر) 1983م.
ه - مجمل الممارسات والسياسات الخاطئة التي انتهجتها السُّلطة المركزيَّة والحاكم الفرد، وسارت عليها وانتفعت بها الحكومات الإقليميَّة المتعاقبة في الجنوب. وكان ذلك متوقَّعاً من طرفي اتفاقيَّة أديس أبابا، حيث كل طرف ينظر للاتفاقيَّة كصفقة سياسيَّة واقتسام غنائم. وكانت الاتفاقيَّة نفسها في الممارسة والتطبيق، حلاً جزئيَّاً جاء متأخِّراً 17 عاماً، لمشاكل عشيَّة الاستقلال 1954م - 1956م، وأدَّت لاندلاع تمرُّد آب (أغسطس) 1955م، مثل وضع الجنوب من هيكل الدَّولة السُّودانيَّة المستقلَّة، ونصيب الجنوبيين في السَّودنة... إلخ. ولم يلتفت طرفا الاتفاقيَّة إلى حقيقة أنَّ مشاكل جديدة ظهرت وتراكمت خلال 17عاماً، وفي مقدِّمتها أثر ثورة 1964م في استنهاض جماهير المناطق المتخلِّفة ومن بينها الجنوب لتجديد حياتها وتغيير واقعها الآسن السَّاكن ... إلخ.  فنتج عن كل ذلك، اضافة إلى فشل نظام أيار (مايو) الشَّامل، تشويه تطبيق الحكم الذاتي الاقليمي للجنوب، واختزاله في هياكل اقليميَّة للسلطة السِّياسيَّة، بدلاً من تطبيقه على حقيقته كحل شامل سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وحضاري، يعتمد نجاحه في الجنوب على تحولات ديمقراطيَّة عميقة على نطاق الوطن. وبهذا المعنى يصدق القول عن أنَّه لاتوجد مشكلة السُّودان كوطن ودولة.
(3) الدَّعوة للحوار تستوجب أن يسبقها أو يتزامن معها ملء الفراغ في الميثاق ودستور 1956م المؤقَّت، وذلك بإضافة صيغة دستوريَّة حول الحكم الذَّاتي الاقليمي للجنوب، وقد يكون قانون الحكم الذَّاتي الاقليمي لسنة 1972م ملائماً، شريطة أن ينص على أن تعديله لا يتم إلاَّ وفق النَّص الوارد فيه، كيما يطمئن الجنوبيُّون إلى ضمان حقَّهم المكتسب من حجَّته، وعدم تكرار سابقة تعديل نميري للقانون.
(4) ويدعم الدَّعوة للحوار ويكسبها مصداقيَّة، تأكيد احترام وحدة الجنوب كأقليم له خصائصه التَّاريخيَّة والعرقيَّة والثَّقافيَّة والدِّينيَّة. وتأكيد أنَّ الدَّولة لن تمارس فرض تعريب أو أسلمة الجنوب، ولن تتدخَّل لإلهاب الخلافات القبليَّة.
ختاماً، يحقُّ لنا، بل يستوجب علينا، أن نستقرئ تجارب الماضي، والأعوام والشُّهور المنصرمة. فقد ضاق الحاكم الفرد بالحل الدِّيمقراطي لمشكلة الجنوب، لأنَّه ضاق بالدِّيمقراطيَّة منذ يومه الأوَّل في الحكم.  ولعلَّ الأخوة في الجنوب قد أدركوا الآن خطأ نظرتهم الضيِّقة المحليَّة الإقليميَّة في الابتهاج باتفاقيَّة أديس أبابا ومؤسسات الحكم الإقليمي، ومساندتهم للحاكم الفرد وهو يسوم الشمال العسف الدَّموي، وتقديرهم الخاطئ بأنَّ الضمان لاستمرار الحكم الإقليمي هو بقاء نميري في الحكم، حتَّى ثبت لهم العكس.  ولعلَّ في ذلك عبرة لنا في الشِّمال والجنوب، بأنَّ المصير واحد.
ونستعرض تجارب الماضي البعيد والقريب، لندرك كم أخطأ الحاكم الفرد في حساباته عندما توهَّم بعقليَّة الجلاَّبي أنَّه يستطيع ضرب الجنوبيين بعضهم بعضاً، باستغلال ظلامات قبائل الاستوائيَّة فراح يؤجِّج نيران العداء القبلي ليمرِّر قرار التَّقسيم. ثم فوجئ بالمجالس الاقليميَّة الثلاثة تتوحَّد ضد سياسته عندما أعلن تشريعات أيلول (سبتمبر) 1983م.  ثم صعق عندما انضمت مجموعات الشَّباب من قبائل الاستوائيَّة إلى جيش التحرير الشَّعبي (الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان).  لكنَّه لم يتَّعظ، فلجأ إلى تأجيج الخلافات القبليَّة بين النُّوير والدينكا في أعالي النَّيل وإرسال مجموعات من جنوده ومرتزقة الأمن من أبناء النُّوير للإغارة على قرى الدَّينكا، ثمَّ ارسال مجموعات من الدَّينكا للإغارة على قرى النُّوير كيما ينتقل الصراع والخلاف إلى صفوف جيش التَّحرير.  وكانت حصيلة هذه اللَّعبة الصِّبيانيَّة مسرحية عبدالله شول الذي أصبح مع مجموعته عبئاً مالياً وأمنياً وعسكريَّاً على القوات المسلَّحة في أعالي النِّيل، بدل أن يكون رديفاً يقاتل جيش التَّحرير لشعب السُّودان (الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان).
ونستقرئ تجارب الماضي علَّها تزودنا بما يساعد الجُّهود الحاضرة لوقف نزيف الدَّم، فنشير إلى فشل تجارب الحكومات السًّودانيَّة المتعاقبة مدنيَّة كانت أم عسكريَّة، في استقطاب ساسة جنوبيين أو قوى جنوبيَّة طيلة الفترة 1955-1972م لتطويق وحصار التمرًّد وعزل قيادته العسكريَّة والسياسيَّة. فقد ظلَّ التمرُّد سيِّداً للموقف، ولم يتوقف القتال إلاَّ بعد التَّفاوض المباشر مع قادة التمرُّد وانضمَّ الساسة الجنوبيين إلى قادة التمرُّد وشكَّلوا معهم كتلة واحدة على الجانب الآخر من مائدة المفاوضات. وتجربة الحاكم الفرد من 1972م حتَّى قرار التَّقسيم لا تخرج عن القاعدة.  فحاول بعقله الصَّغير أن يجرِّب لعبة سياسيَّة صبيانيَّة، كشف عنها في اجاباته على أسئلة الصَّحفي الفرنسي أريك رولو - صحيفة لوموند الفرنسيَّة - حيث قال إنَّه لن يتفاوض مع العقيد جون قرنق، لكنه سيحاصره ويقطع خطوط امداده بتحسين علاقاته مع الاتحاد السوفيتي وليبيا وأثيوبيا. ومثل هذه اللَّعبة البليدة لا تخرج إلاَّ من دماغ نميري انحدر إلى قاع العمالة، وبالتَّالي يعتبر كل من خالفه الرأي أو عارضه عميلاً، فلم تنج أي قوة سياسيَّة معارضة أو حزب سياسي معارض أو قائد سياسي معارض من تهمة العمالة.
جذور أزمة الجنوب في الدَّاخل وليست في الخارج. إنَّها جزء من أزمة السًّودان، وهي أزمة شاكلة عميقة ومخيفة، ولا سبيل لمواجهتها إلاَّ بالاعتراف بحجمها، وتضافر الجُّهود الجماعيَّة لحلِّها وتوفير الدِّيمقراطيَّة بكامل ضماناتها ليسهم الجميع، كل حسب قدرته وما هو ميسَّر له، في الحل. ونعتقد أنَّ الخطوة الأولى تبدأ ببيان من السُّلطة الفعليَّة - المجلس العسكري الانتقالي.
ولكم فائق تقديرنا ،،،
17/4/1985م
اللَّجنة المركزيَّة للحزب الشُّيوعي السُّوداني
ملحق رقم (4)
الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة تقدِّم رؤية شاملة لوقف نزيف الجنوب السُّوداني(107)
التأريخ
قليل هو المعروف عن تاريخ جنوب السُّودان قبل القرن 19 ويعد أوَّل اتِّصال له مع العالم الخارجي على يد "الكابتن" التركي سليم سنة 1839م بأمر من الخديوي محمد علي لاكتشاف منابع النِّيل وفتح الطَّريق للتجارة.  وطوال الحقبة التركيَّة ظلَّ الجنوب يُحكَم بواسطة أوربيين وقد أراقوا كثيراً من الدِّماء لأجل استتباب الأمن وفتحوا الباب للكنائس لتعمل في جنوب السُّودان وأدخلوا تجارة الرَّقيق التي أصبحت فيما بعد أهم تجارة في الجنوب شارك فيها المسيحيُّون اللِّبنانيُّون.
وفي الحقبة المهديَّة (1885-1898م) لم يجد الجنوب اهتماماً، وضعف أثر الحركة المهديَّة فيه لانشغالها بالانتشار شرقاً وشمالاً، وتفتتت قوى التَّبشير الإسلامي في الجنوب؛ فالذين ساندوا الثَّورة اتجهوا شمالاً للالتحاق بالمهدي ثم هربت قوى اسلاميَّة أخرى لم تتفق مع "التَّعايشي" جنوباً وانفتح الباب لاستعمار جديد فدخل "البلجيك".  أمَّا في فترة الحكم الإنجليزي(-المصري) (1898-1956م) فقد فتحوا الباب تماماً على مصراعيه للكنائس، و قسَّموا الجنوب دوائر نفوذ بين الكنائس، حيث أتاحوا لها الحريَّة الكاملة لتخطيط التَّعليم، ولاهدافها التَّبشيريَّة، فركَّزت جهودها على تطوير اللَّهجات المحليَّة، وترجمة الانجيل بها، ولمحاربة اللًّغة العربيَّة واشاعة الانجليزيَّة ومحو كل أثر للإسلام، وحرمان أبناء المسلمين من التَّعليم لدهر طويل بحيث جعلت بعض الكنائس الدُّخول لمدارسها مشروطاً بالتَّعميد في الدِّين المسيحي، بل ضغطت المؤسسات الكنسيَّة على الحكومة الانجليزيَّة لحماية كل المؤسَّسات والعوامل التي قد تؤدِّي إلى نشر الإسلام، وحلَّت بدلاً من القوات السُّودانيَّة قوة جنوبيَّة مسيحيَّة تحت إمرة ضابط انجليزي وحولت عطلة الأسبوع من الجمعة إلى الأحد، وبدأت المطالبة بإبعاد كل الشَّماليين وغيرهم من المسلمين العاملين في الجنوب إلى الشمال كما بدات المطالبة بفصل الجنوب وضمَّه إلى يوغندا أو كينيا.
سياسة المناطق المقفولة
وفي العام 1922م سنَّت الإدارة البريطانيَّة قانوناً يعرف بمرسوم المناطق المقفولة الذي أعطى سلطات الاحتلال الحق في أن تمنع أي سوداني أو أجنبي من دخول مناطق معيَّنة أو البقاء فيها إلا بإذن رسمي من السلطات، وكان الهدف من القانون في الأساس منع الشماليين أو المسلمين عامة من الدُّخول أو البقاء في الجنوب خشية تأثيرهم على الأهالي.
وفي العام 1928م (1927م) عقد أوَّل وأخطر مؤتمر لغوي في تاريخ الجنوب "بالرجاف" وخرج بتطوير اللُّغات المحليَّة واستعمالها في المراحل الأولى من التَّعليم ثمَّ التَّحوُّل إلى الانجليزيَّة ثمَّ استبعاد اللُّغة العربيَّة كلية وقد حضر ذلك المؤتمر 41 ممثِّلاً - وبلا استثناء - من الاجانب ورجال الكنائس.
ثمَّ انتهجت الادارة البريطانيَّة في الثلاثينيات ما يعرف باسم "سياسة الجنوب" وقد هدفت للقضاء كلية على الاسلام وآثاره واللُّغة العربيَّة وثقافتها، وتطوَّرت هذه السياسة إضافة لنهج سياسة المناطق المقفولة إلى درجة منع الاسماء والالقاب والملابس العربيَّة والختان والتزاوج بين الشماليين والجنوبيين وحرم الانتقال بين الشمال والجنوب إلا بتأشيرة من السُّلطات الانجليزيَّة والتي غالباً لا تعطى لشمالي مسلم - وقد نجحت هذه السِّياسة مع معارضة مؤتمر الخريجين والأحزاب الشَّماليَّة لها، وخلقت عزلاً ثقافيَّاً ونفسيَّاً وولدت حذراً وناراً وحقداً، ومع احتجاج الشماليين وتهديد الايطاليين للحدود من الخارج عقب الحرب العالميَّة الثانيَّة غيَّر الانجليز سياستهم حفاظاً على تماسك الجَّبهة الدَّاخليَّة والتَّفرُّغ للخطر الخارجي وقد ترتَّب على ذلك في سنة 1946م قبول اللُّغة العربيَّة والسَّماح بمشاركة الحكومة بقدر أكبر من التَّعليم بدلاً من تركه للكنائس.
مؤتمر جوبا
وفي 1947م انعقد مؤتمر جوبا المشهور وقد رفض المؤتمر الذي حضره 15 ممثِّلاً من الجنوب و6 من الاداريين الانجليز و6 من الشماليين رفض فكرة فصل الجنوب وطالب بضم الجنوب إلى الشمال تحت راية السُّودان الموحَّد.
فترة الاستقلال
شهدت فترة الاستقلال نشأة بعض الاحزاب الجنوبيَّة ومشاركة حزبيَّة للجنوبيين في الحكم تبعها هدوء نسبي ثمَّ جاء الفريق إبراهيم عبًّود إلى الحكم العام 1958م ومع أنَّ فترته شهدت في الجنوب دخول التَّعليم الدِّيني وانتشاراً نسبياً للُّغة العربيَّة وإعادة العطلة الاسبوعيَّة إلى الجمعة مرة ثانية إلاَّ أنَّ الطَّريقة التي تمَّت بها تلك الخطوات كثيراً ما كانت متعجِّلة ومتخبِّطة مما عجَّل بتمرُّد 1963م الذي أعقبه قرار الحكومة بطرد كل المبشِّرين الأجانب من البلاد 1964م ولم تجد سياسة عبود نحو الجنوب قبولاً لدي ساسة الشمال مما أدَّى إلى ثورة تشرين الأول (أكتوبر) 1964م، وفي عهد الدِّيمقراطيَّة الثَّانية (1964-1969م) كان أبرز معالم السِّياسة تجاه الجنوب مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد العام  1965م ممثِّلاً لكل أحزاب الشمال والجنوب وقد طرحت الاحزاب الشماليَّة بناء على مبادرة الحركة الاسلاميَّة الحكم الاقليمي واختلفت حول ذلك أحزاب الجنوب بين مؤيِّد ومعارض وداع إلى الانفصال، وقد انبثق عن المؤتمر لجنة الاثني عشر التي واصلت الحوار حتى وصلت إلى توصيات مهمة على رأسها طرح الحكم الإقليمي اللامركزي بديلاً عن الحكم المركزي في كل السُّودان. وفي أواخر العهد الدِّيمقراطي تردت الاحوال في الجنوب مما أدى إلى انقلاب أيار (مايو) 1969م الذي أنشأ وزارة للجنوب في بداية عهده وبدأ حواراً مع المتمرِّدين وأدى الحوار إلى اتفاقيَّة أديس أبابا الشهيرة العام 1972م التي أسعفت النِّظام في حالة عسيرة وأسهمت في تهيئة مناخها جهد مجلس الكنائس الأفريقي وجهات أثيوبيَّة وبريطانيَّة.
وشهد العام 1983م تطوُّراً مهمَّاً على الصَّعيد السياسي أثر مطالبة بعض الجهات الجنوبيَّة بتقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم أسوة بالشمال ولما كان النظام يميل إلى هذه الفكرة فقد نفَّذها دون سماع الرأي الآخر، بل اعتقل بعض دعاة وحدة الجنوب وكان لكل فريق منطقه وأسبابه - وعندما عرض الأمر على مجلس الشَّعب الاقليمي الجنوبي كانت الغالبيَّة تقف مع تقسيم الجنوب.
وكان هذا الاتجاه شبه اجماعي في الانتخابات النيابيَّة في الاستوائيَّة وقد اتخذ قرارالتقسيم بقرار جمهوري في حزيران (يونيو) 1983م وتبلورت أثر ذلك أربع مجموعات تؤيِّد ثلاث منها التَّقسيم وترفضه الرَّابعة التي ينتمي غالبيتها إلى قبيلة الدينكا وإضافة إلى هذا تضافرت أسباب كثيرة أدَّت إلي التمرُّد الأخير منها أسباب سياسية تتعلَّق بالفساد السياسي وصراع بين القوى السياسية في الجنوب وعدم استيعاب المتمرِّدين القدماء في الجيش بصورة منتظمة، وأسباب اقتصاديَّة منها مشكلة التنمية والبطالة وغير ذلك، إضافة إلى الجو المشحون بالتَّوتر علماً بأنَّ الانفجار الأول وقع  في تشرين الأول (أكتوبر) 1975م، ومع تزايد موجات السَّخط والفوضى بدأت أعداد متزايدة تخرج إلى الغابة وتنضم إلى عناصر التَّمرُّد ونشأت مشكلات اتَّسمت معالجتها بالكثير من عدم الحكمة والتَّروي، وكان جون قرنق يقضي اجازته في الجنوب ولم يعجبه الحال وانضم إلى عناصر التَّمرُّد واكتسب التَّمرُّد به بعداً سياسياً جديداً فقد فرض زعامته على كل الفئات المتمرِّدة واتصل بالمعسكر الشيوعي وبأثيوبيا وليبيا وتبنَّى الاستراتيجيَّة اليساريَّة تجاه السُّودان فكوَّن مايسمى بالحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان والجَّيش الشعبي لتحرير السُّودان ووضع برنامجاً خاصاً بالحركة. وبعد ثورة رجب – أو نيسان (أبريل) الماضي وافقت مجموعات من المتمرِّدين كمجوعة عبدالله شول وحركة الانيانيا 2 على الحوار مع الحكومة غير أن حركة قرنق رفضت ذلك وواجهت هذه المجموعات عسكرياً وصفت قادتها منهم عبدالله شول.
المسلمون في الجنوب
مع استمرار الاضطهاد الدِّيني والسياسي والاجتماعي الذي تعرَّض له المسلمون في الجنوب فقد استطاعوا الحفاظ على كيانهم وشخصيتهم المسلمة، والغريب في الامر انَّ العنف الذي لقيه المسلمون في جنوب السُّودان لم يكن نابعاً في الاساس من مواطنيهم الجنوبيين "غير المسلمين" بل عن حرب مخططة ومنظمة ومبرمجة أو عن تعريض بعض الجهات الكنسية غير الجنوبيَّة ثم اهمال الشمال لقضية الإسلام هناك، وتمثَّلت السياسات التي وجِّهت ضدَّهم في حصر التَّعليم في الكنيسة مع بداية الاستعمار، وإعلان مرسوم المناطق المقفولة ثم قانون سياسة الجنوب ثمَّ تحطيم الحواجز الاسلاميَّة مثل تحويل عاصمة الاستوائيَّة من منقلا إلى جوبا 1928م وانشاء العاصمة الجديدة علي نمط أوربي كنسي وقد تعرَّض المسلمون للاضطهاد الاداري من قبل الحكومة الاقليميَّة وإلى الكيد من قبل المتمرِّدين ووصل الأمر إلى حرق دور العبادة، وقتل المسلمين أثناء الصَّلاة كما في أريات ومضول 1981م واشتدَّت الفتنة وحوادث القتل والنَّهب حتَّى هاجر عشرات الألوف نحو الشمال. وعموماً تعرَّض المسلمون الجنوبيون للحرمان من ممارسة حقهم في المشاركة في الحياة الاداريَّة والسياسية والتنفيذية على المستوى القيادي مع تفوقهم عددياً على المسيحيين حسب احصائيَّة مجلس الكنائس العالمي 1981م إذ يبلغ عددهم مليون نسمة أي 18% من سكَّان الجنوب بينما لا يتجاوز عدد المسيحيين 17%.
ومع الحصار الذي عانى منه المسلمون في جنوب السُّودان فقد ظلَّت فيهم قيادات معتصمة بدينها ورجال صالحون يعلمون القرآن وينشرون الدَّعوة حيث هبَّت عليهم نسائم الصَّحوة الإسلاميَّة فقاموا ينفضون عنهم غبار الاستضعاف والتَّراخي فأنشأوا الجمعيات والروابط والهيئات وأخيراً في مطلع 1983م قامت الهيئة الاسلاميَّة لجنوب السُّودان التي تعمل جاهدة مع نشاط الدَّعوة الإسلاميَّة في السُّودان وفي استقطاب الدَّعم المالي الاسلامي لتنمية الجنوب وقد تكون للهيئة أكثر من أربعين فرعاً في أقاليم الجنوب الثلاثة، وفرع في العاصمة القوميَّة، وبعض المدن الشَّماليَّة الكبرى، وقد انتظمت معظم مدن الجنوب بوادر عمل اسلامي مبشِّر في مجال الدَّعوة والخدمات.
حل مسألة الجنوب
اثبتت التَّجارب أن كل محاولات الحل العسكري المحض اخفقت كثيراً وذلك أمر بدهي إذ لا يمكن احتواء ثورة مجموعة بشريَّة لظلم تقدر أنَّه وقع عليها لعشرات السِّنين عن طريق القوة بينما تشهد كل الأحوال التي جلس فيها الأخوة في الجنوب والشمال بأنَّ النتيجة كانت أقرب إلى التوفيق، فلا بد في شأن قضيَّة الجنوب من استمرار الحوار الجاد الهادف من أجل لمس جذور المشكلة ومعالجتها من الأساس تحقيقاً لوحدة السُّودان وحقناً للدِّماء وتحقيقاً لأهداف الأمة السُّودانيَّة ومثلها العليا. ولا بدَّ أن يشمل الحل الشَّامل علاجاً للأسباب الجذريَّة التي هيَّأت أرضيَّة الأزمات ثم لا بدَّ من تناول الأسباب المباشرة وتتمثَّل جوانب المشكلة اجمالاً في الآتي:
(1) العامل الجغرافي والتَّأريخي والثَّقافي
للخروج من هذا الأثر الجغرافي والتَّاريخي والثَّقافي لا بدَّ:
أولاً: من تمكين سبل الانتقال والاتِّصال بين شطري البلاد عن طريق تشييد الطرق البريَّة المعبَّدة بين الشمال والجنوب ومد شبكة خطوط داخليَّة تربط الأقاليم المختلفة وتحسين اسطول النَّقل النهري والجوي والعمل على سير قطار الخرطوم– واو.
ثانياً: الالتزام بمنهج تعليمي قومي لكل السُّودان بحيث يبرز النهج تكوين الجنوب وثقافته وتاريخه كجزء من المنهج الدراسي وأن تعمل السُّلطات على توفير كل الامانيات الفنيَّة والبشريَّة لتحقيق ذلك الهدف.
ثالثاً: أن تقوم وسائل الاعلام القوميَّة بدور فعَّال في التَّعريف والتنوير بالجنوب وتقوم إذاعة جوبا كذلك بدور مشابه نحو تعريف الجنوبيين بالشمال وفق برنامج مخطَّط.
(2) التَّنمية والخدمات
إنَّ التَّخلُّف النسبي للجنوب نتيجة للسياسات المقصودة أحياناً ونتيجة للتجاهل والاهمال أحياناً ونتيجة لسوء الادارة والفساد أحياناً أخرى وَلَّد احساساً بالمرارة والسَّخط ومعلوم أنَّ الخلل في توازن االنَّهضة في أي بلد يؤدِّي بالضرورة إلى نوع من التَّبرُّم والتَّململ وعدم الاستقرار أو يمِّهد على الأقل أرضيَّة نفسيَّة مواتية لعدم الاستقرار، فلا بدَّ من أن تتضافر جهود كل الأمة السُّودانيَّة لاعادة التَّوازن الاجتماعي لهذا الجسم الواحد الذي هو السُّودان من خلال توجيه اهتمام زائد وأولويَّة خاصة للتنمية والخدمات في جنوب السُّودان.
ومعلوم أنَّ موارد الجنوب التنمويَّة كافية لأن تحدث طفرة هائلة إذا تمَّ استغلالها بالصُّورة المثلى وعليه يجب أن توفر الموارد الماليَّة اللاَّزمة للبدء الفوري في أوسع مجموعة ممكنة من المشاريع الصَّغيرة السَّريعة العائد مع الانتقال المبرمج والمخطط نحو مشاريع كبري للمستقبل ويستحسن أن تكون برامج الجنوب خاصة لا ترتبط بتخطيط التنمية العام لكل السُّودان لحين سد الفجوة التنمويَّة بين شطري البلاد ويجب في مجال الخدمات ترميم مرافقها القائمة ومدها بأسباب الحياة والعمل على انشاء مرافق خدمات جديدة لا سيَّما في الاماكن المكتظة بالسكَّان.
(3) شكل الحكم
كانت أوَّل مبادرة لاعطاء الجنوب نوعاً من الحكم الاقليمي تلك التي طرحها الاتجاه الاسلامي العام 1965م في مؤتمر المائدة المستديرة في وقت لم يكن مثل هذا الطَّرح معروفاً وذلك يقيناً من القوى الاسلاميَّة أنَّه لاسبيل لاستيعاب الوضع الخاص بالجنوب الاَّ من خلال نوع من الحكم اللامركزي وهو ما تمَّ تبيينه في مشروع دستور 1967م ثم في مرحلة لاحقة في اتفاقيَّة أديس أبابا.
ونسبة لتلاشي شعارات الانفصال وازدياد الثِّقة بين مواطني شطري السودان ونتيجة لتجربة الحكم التي اكتسبها الاخوة الجنوبيُّون من خلال الحكم الذاتي في كل من فترة الجنوب الموحَّد وفترة الاقاليم الثَّلاثة فانَّ من المسائل التي يمكن أن ترد في أي حوار لتسوية المعادلة الدَّستوريَّة لحكم أقاليم الجنوب بل أقاليم السُّودان عامة ما يلي:
دراسة جدوى الانفتاح نحو تطوير الحكم الاقليمي إلى نظام فيدرالي يتم بعد التمهيد اللازم.
دراسة جدوى المديريات كإطار للادارة إذ برهنت التجربة على أنَّها أصبحت تشكل حلقة قليلة الفاعليَّة بين الحكم وإدارة المناطق حيث تقوم المجالس وتدار الخدمات والبرامج المحليَّة.
إضفاء مرونة على التَّقسيم الاقليمي باتاحة الحق لكل اقليم أن يقيم نوعاً من العلاقة الخاصة مع أقليم أو أكثر تنسيقاً أو اندماجاً في كيان موحَّد.
دراسة الموازنة العادلة في تمثيل الاقاليم في الاجهزة الحكوميَّة المركزيَّة التَّشريعيَّة والتَّنفيذيَّة.
(4) القانون
إنَّ الاستمساك بنظام قانون عام على الشَّريعة الاسلاميَّة لهو ضرورة دينيَّة وسياسيَّة لكل المؤمنين من أهل السُّودان وذلك لأنَّ:
التزام شرع الله يمثل تجاوباً مع تطلُّعات غالبيَّة سكان السُّودان المسلمين وعقيدتهم.
ويطابق ذلك الشَّرع الفطرة الانسانيَّة والمبادئ الرُّوحيَّة بل النُّصوص الدِّينيَّة لكل رسالات السماء.
ثمَّ إنَّ في السُّودان حاجة اجتماعيَّة ماسة لتطبيق شرع الله وتقوم لذلك دواع علميَّة وموضوعيَّة.
ثمَّ إنَّ الشرع الدِّيني أقرب إلى المزاج الثَّقافي الافريقي من القانون الإنجليزي أو الهندي أو أي نظام قانوني آخر.
إنَّ شرع الله سبحانه وتعالى يحفظ لكل المجموعات غير الإسلاميَّة كيانها وثقافتها ويمكنها من ممارسة تدينها وعاداتها وتقاليدها وأطرها المحليَّة في جو من الحريَّة دونما تدخُّل في شؤونهم أو توجيه تطورهم الدِّيني والثَّقافي والاجتماعي وإنَّ الفقه الاسلامي بسعته ومرونته يمكن أن يتَّسع لكثير من التَّسويات القانونيَّة المتعلِّقة بغير المسلمين ترجيحاً أو استثناءاً وتجاوباً مع الإرادة المشروعة لغير المسلمين.
ملحق رقم (5)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخرطوم في رمضان 1406ه (1986م)
قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا وأذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم وأصبحتم بنعمته إخواناً" (آل عمران 3/103). صدق الله العظيم
الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي
ورقة عمل الحزب تجاه الجنوب
ظل حزبكم الاتحادي الدِّيمقراطي برعاية مولانا/ السيِّد/ علي الميرغني منذ فجر الاستقلال يبشر بقيام الجمهوريَّة الاسلاميَّة تحقيقاً لرغبة هذا الشَّعب العربي المسلم الذي أجمع على كتاب الله والتقى إرادته بسنة الرَّسول (صلعم).  وكادت تلك الجمهوريَّة أن تتحقق العام 1968م بأيدي الشهداء اسماعيل الأزهري والشريف الهندي لولا انقلاب الالحاد في صبيحة 25 أيار (مايو) الأسود فحال دون بلوغ هذه الغاية السَّامية. والآن وبعد انتفاضة رجب الأغر ترتفع أصوات الالحاد عالية من جديد مطالبين بعلمانيَّة الدَّولة متزرعين بوثنية أهالي الجنوب وحساسيتهم من تطبيق شرع الله وعليه راعينا أن نلفت الانظار لخطورة هذا الادعاء ونتفاكر في كيفية إعلاء كلمة الله موضَّحين بايجاز شديد الخطوات المطلوب اتباعها لتحقيق ذلك الغرض السامي في جنوب البلاد ونوجزها في الآتي:
(1) المجال الإداري:
إنَّ استمرار تقسيم الأقاليم الجنوبية لثلاثة أقاليم هشَّة ليست لديها أي مقومات اقتصاديَّة تظل تابعة للحكومة المركزيَّة ومؤسسات الإغاثة الإسلامية مثل منظَّمتي الدَّعوة والإغاثة الإسلاميَّة وغيرها. ونود هنا أن نحذِّر من الانسياق وراء الادعاء الخاطئ بأنَّ تقسيم الجنوب العام 1983م كان من صنع الرئيس المخلوع جعفر النميري والحقيقة تقول بأنَّه رغم خلاف الحزب مع السفَّاح نميري في سياسته المأساويَّة العديدة إلاَّ أنَّ قيادة الحزب قد باركت ما قام به (الرئيس) جعفر محمد النميري من التَّقسيم للأقاليم الجنوبيَّة خدمةً للإسلام عن طريق سياسته فرَّق تسد وهي السِّياسة المثاليَّة في الوقت الرَّاهن وخطوة حميدة لخلق دولة العروبة والإسلام.
(2) المجال السِّياسي:
رغم علمنا التَّام بالنَّزعة الانفصاليَّة لدي أهالي الإقليم الاستوائي وعدائهم الشديد للعروبة والإسلام بحكم بعدهم الجغرافي من التَّأثير العربي مثل جبال النُّوبة واضرامهم لنار التمرُّد بتوريت العام 1955م وقيادتهم لحركة أنيانيا العنصريَّة والانفصاليَّة بقيادة جوزيف لاقو حتى العام 1972م، إلاَّ أننا في الحزب الاتحادي الديمقراطي قرَّرنا احتواء الأحزاب السياسيَّة من الأقليم الاستوائي، والتي تتكوَّن من "حزب الشَّعب التَّقدُّمي" برئاسة اليابا جيمس سرور و"حزب الشَّعب السُّوداني الأفريقي" برئاسة موريس لاويا برغم أنَّهم يعملون في محور حزب الأمة وذلك دعماً لاستمرار التقسيم الاداري وأساساً متيناً لوضع أقدامنا في أرضيَّة تابعة بالإقليم الاستوائي لمواجهة الهجمة الكنسيَّة الشَّرسة التي تتخذ من يوغندا وكينيا وزائير منافذ لها بجانب النِّظام الشُّيوعي بأثيوبيا.  ودعماً لهذا الاحتواء كانت دعوة مولانا السيِّد/ محمد عثمان الميرغني لقادة ونواب حزب الشَّعب التَّقدُّمي لتناول طعام الإفطار بداره ومساندة الحزب لبقاء الدِّكتور باسفيكو لادو لوليك عضواً بمجلس السِّيادة ممثلاً للجنوبيين ولحزب الشَّعب السُّوداني الأفريقي )سابكو).
أمَّا من النَّاحية الأمنية فسنظل في الائتلاف مساندين بكل قوة تكوين وتدريب وتسليح القبائل والمليشيات بالإقليم الاستوائي وتحريض قبيلة النُّوير المتمثِّلة في شكل تنظيمي متطوِّر والمعروف بأنيانيا تو أو القوات الصَّديقة بمنطقة أعالي النِّيل والتي أثبتت مساندتها وصداقتها للقوات المسلَّحة فعلاً باحتوائها على معسكر بوكتينق التَّابعة لقوات قرنق. والعمل على جعل تلك القوات العريقة من القبائل وغيرها حزاماً واقياً لتحرشات الالحاد وهجمة الاستعمار الكنسي الذي يقوده الهارب جون قرنق الذي لا يخفي عدائه للعروبة والاسلام وإلاَّ من يريد ذر الرَّماد في العيون.
(3)  المجال الاقتصادي:
لم يكن عبثاً استنفارنا للجهد العربي والإسلامي في نصرة قضيَّة الإسلام مستغلين المال العربي في إعلاء رايات الإسلام وهمة العروبة في الجنوب عامة والاستوائية بصفة خاصة. فإنَّ انشاء المجمعات الإسلامية والمستشفيات الحديثة والخلاوي في ربوع الجنوب لهي خطَّة يباركها الحزب. وليكن سعينا حثيثاً في تدريب الكوادر المسلمة والمؤمنة في الجنوب لنستطيع من خلالها السيطرة على المرافق الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة الحيوية بالجنوب وجعل المنطقة بكاملها وخاصة الاستوائية منطقة عربيَّة مسلمة تكون شعلة تنير أدغال أفريقيا جنوب الصَّحراء.
(4) مجال اللُّغة العربيَّة:
إنَّه من الأهمية بمكان نشر اللُّغة العربيَّة في ربوع جنوب البلاد وجبال النُّوبة.  فاللُّغة أهم عنصر في قوميات العصر الحديث وأداة فعَّالة لنشر الثَّقافة العربيَّة والإسلاميَّة خاصة وأنَّ وسائل الاتِّصال السمعيَّة والمرئيَّة قد انتشرت في مناطق الوثنيَّة بجنوب البلاد وجبال النُّوبة.  في زمن هانت فيه ركوب الصِّعاب باسم الدِّين فإنَّ نشر اللُّغة العربيَّة في تلك المناطق هو إحدى أهم ساحات الجِّهاد في سبيل الله والأمة العربيَّة.
هذه هي ملامح خطنا السِّياسي تجاه جنوب البلاد سنعقبها بأخرى عن جبال النُّوبة ودارفور.  وهنا نحب أن ننوه إلى خطورة احتضان النَّصراني فيليب عباس غبُّوش وتمثيله في حكومة الائتلاف وإن قبلناه بتحفظ شديد لرفع الحرج وتشكيل الحكومة. ولمن لا يعلم من مجاهدي حزبنا فإنَّ غبُّوش رفض ادانة اسرائيل والصهيونيَّة العالمية العام 1967م ويقود الآن حرباً شعواء ضد العروبة والإسلام محرضاً أبناء جبال النُّوبة ضد المسلمين والعرب الرحل بكردفان ويعمل ساعياً لقيادة ما يسمَّى بالكتلة الأفريقية داخل الجمعيَّة التأسيسية وكم كان قلقنا البالغ حينما خرجوا من جلسة 6 آيار (مايو) ذلك اليوم المبارك معرضين تجربتنا الدِّيمقراطيَّة لخطر الانهيار التَّام أمام العالم ولولا نصرة الله ورعايته لحدث ما لا يحمد عقباه ولقد أعلن غبُّوش مراراً متحديَّاً مشاعر العرب والمسلمين في هذا الوطن بتأييده العلني للعقيد الهارب جون قرنق عميل الشُّيوعية العالميَّة والكنيسة والانفصالي سراً.
وهذه الحقيقة لا نعرفه عبثاً أو من نسيج الخيال وإنَّما نعرفه من خلال احتكاك ومواكبة قيادتكم في الخارج لهذا العميل الخطر.
وفي الختام يجب أن نحذِّر مرة أخرى أن لا يثيرنا المثاليَّة السِّياسية التي يقودها حزب الأمة والنوايا الحسنة لدي بعض المسلمين إلى الانصياع إلى الأصوات الفاشلة التي تدعو إلى توحيد الجنوب في الوقت الراهن لأنَّ في ذلك تقديم تنازلات سابقة لأوانها وخطيرة قبل انعقاد المؤتمر الدَّستوري لحل مشكلة الجنوب والذي نتحفظ منه لأنَّنا حتَّى هذه اللَّحظة لم نضع أيدينا على الأدلة التي تؤكد نوايا الجنوب في وحدة هذه البلاد ونخشى أن يؤدِّي توحيد الجنوب الى جمع كلمة الجنوبيين إلى الانفصال وتنتقل العدوى إلى مناطق أخرى مثل جبال النُّوبة ودارفور وجنوب النِّيل الأزرق.
بقاء الجنوب منقسماً إلى ثلاثة أقاليم سيجعل الهويَّة الإسلاميَّة تتفاعل تفاعلاً حيَّاً مع هويات الأقليات الجنوبيَّة المتضرِّرة من هيمنة القبائل الكبيرة من النَّاحية الدَّاخلية ومن ثمَّ يمكننا أن نخاطب الأسرة الدَّولية على قاعدة "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدِّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنَّ الله يحب المقسطين" (الممتحنة 60/8).
وعليكم السَّلام والرَّحمة والبركة.
الأمانة العامة للحزب الاتحادي الدِّيمقراطي
اللَّجنة المكلَّفة بوضع ورقة عمل حول مشكلة الجنوب
هوامش وإحالات
(90) The Times, Saturday, March 5, 2005.
(91)  مجلة "الغرباء"، حزيران (يونيو) 1987م، العدد السَّادس، السَّنة الرابعة والعشرون.
(92) الدكتور عشاري أحمد محمود والدكتور سليمان علي بلدو، مذبحة الضِّعين والرِّق في السُّودان، الخرطوم، يوليو 1987م.
(93) صحيفة "الحياة"، الأحد، 11/7/2004م، العدد 15080.
(94) بعد لحظات من استيلاء عسكر الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة على السلطة في 30 حزيران (يونيو) 1989م تم توقيف الدكتور عشاري أحمد محمود خليل، وأودع سجن كوبر.  وفي السجن زاره الدكتور سيد علي زكي – وزير الماليَّة السَّابق – في يوم 18 آذار (مارس) 1990م، وهو كان يحمل رسالة محدَّدة من قبل المسؤولين العسكريين الذين استولوا على الحكم في البلاد، وملخَّص الرِّسالة أنَّهم بإمكانهم إطلاق سراحه إذا قام – كتابة – بنفي وتكذيب الحقائق التي وردت في تقرير "مذبحة الضعين والرِّق في السُّودان"، وإلا سيمكث في الحبس إلى ما لا نهاية.  انتهت الزيارة بخيبة أمل بالنسبة للدكتور زكي، وفهم عميق لطبيعة النظام الجديد من جانب الدكتور عشاري محمود الذي رفض الإذعان لطلبهم، وبعد عشرة أيام من تلك المقابلة تم نقله إلى سجن شالا في دارفور.
(95) فتح الرحمن القاضي، مظاهر أزمة التَّعايش الاجتماعي في السُّودان (2)، صحيفة "الصحافة"، الأربعاء، 30/7/2003م، العدد 3660.
(96) Akol, L, SPLM/SPLA: Inside an African Revolution, Khartoum University Press, 2001.
(97) صحيفة "الشَّرق الأوسط"، 28/6/2005م، العدد 9709.
(98) مجلة "الوسط"، 11/7/1994م، العدد، 128.  من مذكرات السيِّد الصَّادق المهدي الذي حكى أنَّ أول مهمة سياسيَّة كُلِّف به في حياته هي الإشراف على الانتخابات في دوائر دنقلا وجبال النُّوبة. وقيل إنَّه ذهب في الجبال حتى منطقة والي لاستمالة المك عبدالحميد محمد زهرة إلى ملَّة حزب الأمَّة.
(99) Newsudan: Organ of the Sudan People’s Liberation Movement, Pilot Issue, October 1986.
(100) Akol, L, SPLM/SPLA: Inside an African Revolution, Khartoum University Press, 2001.
(101) لمعرفة تفاصيل العلاقات السُّودانيَّة-الاسرائيليَّة، إقرأ مقال الدِّكتور صلاح بندر - باحث في مركز الدِّراسات الافريقية بجامعة كيمبردج - تحت هذا العنوان في مجلَّة "الدَّراويش"، العدد الرابع، السنة الثانية، كانون الثَّاني/شباط (يناير/فبراير) 1994م.
(102) محمد حسنين هيكل، شخصيَّة الملك حسين، صحيفة "الطَّليعة"، 14-20/4/1999م، العدد 1372؛ صحيفة "الطَّليعة"، 21-27/4/1999م، العدد 1373.
(103) محمد حسنين هيكل، المعلوم والمكتوم في دور الملك الحسن وسياساته، صحيفة "الطَّليعة"، 29/12-4/1/2000م، العدد 1409؛ 5-18/1/2000م، العدد 1410؛ 19-25/1/2000م، العدد 1411؛ تجربة ملك في الشَّباب وما بعده، 26/1-1/2/2000م، العدد 1412.
(104) الدِّكتور حسن مكي محمد أحمد، تأريخ حركة الأخوان المسلمون في السُّودان، جامعة الخرطوم، أكتوبر 1982م.
(105) مجلَّة "الوسط"، 23/12/1996م، العدد 256.
(106) مجلَّة "الإصلاح"، أبريل 1986م، العدد 99، السَّنة التَّاسعة.
(107) مجلَّة "الإصلاح"، ديسمبر 1985م، العدد 95، السَّنة الثَّامنة.

 

آراء