الوادى الأخضر الجديد وصوت الدناقر .. أحلام إسماعيل حسن

 


 

 

كنا نعيش وسط الرمال التى تحف تلك القرية النائية بغرب السودان وسط القيزان ... ننزح من بقعة إلى أخرى حول المنطقة حيث المرعى والمشرب واستمر بنا الحال هكذا لأكثر من عشرة أعوام ... أنا إسمى أميرة أسكن مع والدى وإخوتىومعنا أهلنا نملك من المواشى الكثير بكل أنواعها وقد كانت الطبيعة الخلابة وحالنا الميسور سبباً فى تفضيل تلك المنطقة حيث طاب لنا المقام إضافة طيبة سكان تلك المنطقة الأصليين وكرمهم الفياض وكانت تمر علينا القوافل التجارية فى رواحها وغدوها  ونشأت بين أبى وبين كثير من أصحاب تلك القوافل علاقة حميمية فكان يكرم نـُزلهم كلما مروا على ديارنا وكانوا غالبا ما يغدقون علينا نحن الصغار الهدايا ...فى إحدى المرات أتت إلينا قافلة من القوافل المعتاد مرورها علينا وكان من بين المسافرين فيها إبراهيم الذى تربطه مع والدى علاقة مميزة فى ذلك اليوم إنتحى كبير القوم بأبى طالباً يدى وأنا بنت الأربعة عشر خريفاً لإبنه إبراهيم .... وحددوا موعد الزواج خلال إسبوع .. فى الموعد المحدد ذبحت الذبائح واجتمع كل أهل المنطقة وما حولها وقرعت الطبول وابتهج الكل وسط نقر الدناقر وازدان دارنا بالأضواء وتم زواج إبراهيم وأميرة ثم غادر إبراهيم مواصلاً رحلته مع القافلة مع وعد بالعودة إلى عروسه قريباً ... أثناء غياب إبراهيم حدثت مناوشات قبلية وتحول الأمر إلى حرابة وإستعمال للأسلحة وصارت الأرض التى نسكن فيها متنازعة بين عدة جهات كل واحدة تدعى أحقية ملكيتها وتحول الأمر إلى دمار وموت كلفنا الكثير من المال والأرواح مما دعى والدى إلى أن يقرر الرحيل من هذه المنطقة فجمعنا ما تبقى لنا من ماشية وعتاد وسرنا بعيدا عن المنطقة التى كنا نسكنها لأكثر من عشرة سنوات وكان ذلك وقع هذا الفراق قاسياً على كل أفراد الأسرة عامة بينما كان يشغل بال أميرة كيف سيتم لقاء إبراهيم بعد أن تقطعت بهم السبل خاصة وأنها شعرت بجنين يتحرك فى أحشائها فصار همها هموما وصارت تخرج كل صباح تتسلق القيزان الرملية ترسل بصرها بعيداً تبحث عن قافلة قادمة أو رائحة لعلها تظفر بإبراهيم أو بمن يدلها عليه أو يدله عليها

فشلت كل محاولات أميرة فى البحث عن إبراهيم ومرت الشهور وكبر الجنين فى أحشاء أميرة وكبر حزنها حينما حانت ساعة المخاض ووضعت أميرة مولودا ذكرا وكان معها  أمها فاطمة وخالتها زينب وبعض أقاربها من النساء وبحثن عن لفافة يدثرن بها الوليد فلم يجدوا غير طرحة أميرة التى تتوسدها .. كانت صرخة المولود تعبيرا عن نداء داخل روح أميرة تبحث عن إبراهيم حينها أخذت أميرة نفساً عميقاً واسترخت  .... إنهمرت الأمطار بغزارة فتفاءل أبى بالمولود وقرر الأستقرار بهذا المكان وأطلقت أميرة إسم يحيى على وليدها كما رأت فى منامها وعندما سألها أبيها عن سر هذا الأسم ذكرت أنها أسمته يحيى من أجل أن يحيى

قامت الأسرة ببناء مأوى لهم من الطين والقش وقامت بزراعة الأرض فى ذلك الخريف ليعود عليهم ريعها بما يسد حاجتهم الضرورية ... لكن الفرحة لم تكتمل بحضور إبراهيم وزاد على ذلك تقدم السن بوالد أميرة وأرهقه الترحال وصعوبة العمل اليدوى وأثر فيه فراق مسكنه الأول وفراق أحبابه الذين طحنتهم تلك الحروب القبلية فلم يستطيع قلبه تحمل كل هذه الهموم فتوقف  ... كبر يحيى وصار يخرج مع والدته يرعى ما يملكون من ماشية وقامت والدته بإدخاله الخلوة القريبة من قريتهم فحفظ القران وهو إبن السابعة

نشأ يحيى فى بيئة بدوية قاسية لكنه رغم تلكم القساوة إلا أن إختلاطه بالقوافل جعله يتعلم الكثير من طبائع القبائل التى تمر ببالمنطقه فتعلم منهم الشعر والدوبيت وفوائد الأسفاروالتجارة مما صقل ذكائه الفطرى فكان مميزاً بين أقرانه وقبل كل ذلك فإن حفظه للقران الكريم كساه وقاراً وأدباً ..دام إستقرارنا فى تلكم البقعة إثنى عشرة عاماً وكعادة الرعاة بدأت تنشأ مناوشات حول الرعى وتطورت إلى النهب والسرقة فصار المكان غير آمن بعد أن عم الجفاف المنطقة فزاد من شراسة العداوات وتكرر نفس المشهد الذى عانينا منه أبان حياة الوالد وبدأ ما نملكه من ماشية فى النقصان إما بسبب الجوع أو النهب والسرقة وكذلك نفد كل مانملك من مال قليل كنا قد جمعناه بعناء وتعب ...وصار الخيار الوحيد هو الرحيل والبحث عن مكان بديل أكثر أمناً ... إتفقنا مع بعض المعارف على مغادرة المكان وجمعنا متاعنا وصحب كل مناما تبقى له من مراح وتحركنا على غير هدى وكان كل ما يهمنا هو الإبتعاد عن النزاعات القبلية التى حرمتنا الأمن .... ظهر لنا من على البعد وادياً تملأه الخضرة فاتجهنا نحوه بعد مسيرة طويلة عندما بدأنا نقترب من الوادى تنامى إلى مسامعنا أصوات طبل تصدر أصوات متناغمة وعندما إقتربنا أكثر وجدنا أن هنالك نار قو أوقدت وتجمع الناس حولها وكأنهم يحتفلون بمقدمنا ... بهرنى هذا الوادى بجماله وشعرت وكأننى أمام حلم خرافى ... لوحة تمثل لى خليط من غربة وشوق وحنين وهوية مفقودة ...حقيقة أم حلم ... أين أنا الآن ... لست أدرى .. حينها تبادلت النظرات مع إبنى يحيى وكأنه قرأ حيرتى فى نظراتى فجاوبنى أنى أحس بإطمئنان وسكينة بالغين فى هذا المكان وكان هذا هو إحساسى أنا كذلك ... إقتربنا من هؤلاء القوم فلما رأونا إستقبلونا خير إستقبال وأكرمونا غاية الكرم دون أن يسألوننا عن هويتنا ... بعد ذلك قدم إلينا رجل طويل القامة يرتدى جلابية بيضاء وعباءة سوداء وعمة ناصعة البياض ... رحب بنا بوجه باش منشرح .. عندها وجهت نظرى إليه .. إقترب منى أكثر ... بدأ يتفحصنى ... قال لى كأنى رأيتك من قبل ...رددت عليه كذلك أنا أشعر أننى رأيتك من قبل ... عندها تمتم الرجل بإسمى ...أ..أأ..أأأ..أميرة !!!؟ قلت له نعم أميرة ... أظنك إبراهيم ...قال نعم أنا إبراهيم ...عندما لاحظ إبنى مخاطبة الرجل لى جاءنى مسرعاً مستفسراً من هذا الرجل يا أمى قلت له هذا الرجل هو أبوك يا إبنى ... رأيت كل الحيرة فى عينى إبراهيم وهو ينظر إلى يحيى فلم أدعه يسأل بل دفعت له يحيى قائلة له هذا هو إبنك الذى لم تراه ... حينها جلس إبراهيم على الأرض بطريقة أقرب للسقوط ... إحتضن إبنه عليه والدمع يبلل الأرض من تحته ... إجتمع الناس حول أميرهم إبراهيم فقد كان هو زعيم القبيلة ... لم يصدق الناس أن أميرهم فى حالة دهشة كالتى يجدونه فيها الآن ... صاح إبراهيم هذه هى زوجتى أميرة وهذا هو إبنى يحيى الذى أبعدتنى عنهم المنازعات والحروب طيلة هذه السنين العجاف ... لم أعثر عليهم على أثر رغم إجتهادى فى البحث عنهم .. الحمد لله أن يسر لى لقائهم ... أخذنا إبراهيم إلى داره حيث ذبحت الذبائح وعلت أصوات الطبل تشق عنان السماء ...واهتزت الأرض بالرقص وضربالأرجل فرحاً بمقدمنا ..جلسنا أنا وإبنى على مكان تمت تهيئته لنشاهد الإحتفال وبجانبنا جلس الزعيم .. سألته هل تزوجت بعدى ؟ قال نعم تزوجت ثلاث مرات ..قلت له هل لك أبناء ؟ قال أن خلفتى كلها إناثاً ... الآن جاء يحيى ليحمل إسمى .. نادى على رئيس الحاشية أن يحضر سيفاً ليحيى ليشهره معلناً بذلك تنصيبه نائباً له فى زعامة القبيلة ... عندما أمسك يحيى بالسيف وأخرجه من جفيره فإذا به سيف أخضر يرمز للسلام والمحبة إنه ليس سيفاً للحرب إنه سيف يبشر بعهد جديد .... إنه بداية أمل جديد ... عندها نادى مناد فى الناس أيها الجمع عليكم ببيعة هذا الفتى الجميل يحيى خليفة للزعيم ...حينها رفع الجميع أيديهم مباركين مبايعين ...قال إبراهيم أن سلطاته تشمل كل هذا الوادى الأخضر الجميل وما حوله وأن الإستقرار والأمن هو ما يميز المكان وأننا منذ اللحظة أصحاب حق ولكم اليد الطولى فى كل ما يملك ... حينها حمدت الله كثيراً ... حينها عرفت أن الله قد من علينا باللقاء وجمع شملنا ... كان هذا بمثابة نهاية مشوار الشقاء والضياع والخوف ... فى أول صباح لنا رأيت الشمس تشرق باشعة ذهبية ... رأيت نسايم الدعاش تهب علينا تمسح كل أثر لحزن صادفنا ... رأيت البسمة تعلو الوجوه ...رأيت الحمائم البيضاء تحلق فوق رؤوسنا ...إنه الأمل المشرق ...ما أحلى الحياة عندما نرى فيها الأمل الجميل قد تحقق

 

AHLAM HASSAN [ahlamhassan@live.ca]

 

آراء