الوثيقة الدستورية المعيبة، اخطر وثيقة سياسية مرت على تاريخ البلاد منذ الاستقلال (١)

 


 

 

الدستور اداة قانونية وتختلف الأداة القانونية عن الأداة السياسية في ان الأداة القانونية في الدولة حجتها تسرى على الكافة بينما حجة الأداة السياسية تظل نطاق حجيتها على اطرافها او من يقبلون بها او من يفرضونها عليهم مثلما حدث عقب ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨م بفرض الوثيقة الدستورية المعيبة والموقعة بين طرفيها وهما عناصر اللجنة الأمنية للنظام البائد ومكونات قوى الحرية والتغيير، والعيب في الوثيقة الدستورية جوهري وليس نسبي اي ان هذه الوثيقة نشأت باطلة ولم تستند على مرجعية دستورية صحيحة ولا تصلح للتأسيس الدستوري السليم عليها وما نشأت عنها من نظم وهياكل مثلها مثل نظم وهياكل إنقلاب الإنقاذ في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م وامتدادا لها، وكان لا بدل لهذه الوثيقة المعيبة ان تنهار وقد خالفت الأسس الصحيحة لإستعادة الحياة الدستورية للبلاد وقننت لإستمرار إنقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، ومنحت ولأول مرة في فترات الإنتقال الديمقراطي بالبلاد الجيش ووليده الدعم السريع في ظل تربع المخلوع عمر البشير على السلطة وبموجب احكام الوثيقة الدستورية المعيبة صار للجيش حق ممارسة السياسة وشؤون الحكم في الدولة وحصة في السلطة التنفيذية والسيادة ولضعف الشريك المدني (قوى الحرية والتغيير) وبإسم الجيش وضعت اللجنة الأمنية للنظام البائد يدها على كل مرافق الدولة وعبثت بإدارة البلاد، ولكن سابقة تخويل الجيش ممارسة السياسة بموجع وثيقة موقعة يعد العمل الأخطر في تاريخ البلاد السياسي ولم يحدث ذلك في السابق مطلقا في الدولة السودانية وفي كل فترات تجارب الإنتقال الديمقراطي السابقة، ففي الديمقراطية الثانية عقب ثورة اكتوبر ١٩٦٤ كان القائد العام للجيش الفريق اول إبراهيم عبود مشاركا في ترتيبات إعادة الحياة الدستورية للبلاد وإستعادة دستور السودان الذي قام بتعطيله في نوفمبر ١٩٥٩م وتمت الإستعادة الدستورية بسلاسة بإستدعاء دستور السودان المؤقت ١٩٥٦م المعطل وتفعيله وتكوين حكومة من مجلسي السيادة والوزراء، وتولى مجلس السيادة الخماسي التكوين مهام مجلس السيادة كما وتولى مجلس الوزراء الذي تم تكوينه السلطة التنفيذية بالكامل وفي تجربة الديمقراطية الثالثة عقب ثورة ابريل ١٩٨٥م لم يكن النميري والذي كان يتولى منصب القائد العام للجيش جزءا من ترتيبات الإنتقال الديمقراطي بل كان رافضا للتغيير ومتمسكا بالعودة إلى السلطة وهو خارج البلاد، فتم إستدعاء دستور السودان المؤقت الذي عطله النميري وفي مايو ١٩٦٩م تم تكوين المجلس العسكري الإنتقالي بقيادة الفريق اول حينها عبد الرحمن سوار الذهب ليباشر ذلك المجلس باعتبار اعضائه على قمة قيادات الخدمة العامة العسكريةبوصفه جهازا اداريا يستمد شاغليه سلطاتهم من قانون تعيينهم الذي هو قانون قوات الشعب المسلحة، ولذلك مباشرتهم لأعمال مؤسسة الرئاسة الدستورية مؤقتا بسبب ما احدثته الثورة من فراغ دستوري يكون في حدود تسيير الأعمال، ويماثل ذلك ما يقوم به المدير التنفيذي الذي يستمد سلطته من القانون وهو على قمة الجهاز الإداري بيقوم تلقائيا بتسيير اعمال المحافظ الدستورية مؤقتا لسد فراغ الموقع الدستوري وبالمثل يشغل امين الحكومة مقام الوالي على مستوى الولاية كما ويقوم وكيل الوزارة بتسيير اعمال الوزير الدستورية وهكذا باشر المجلس العسكري برئاسة سوار الذهب مهام السيادة التشريفية طوال الفترة الإنتقالية بسبب قصور المفاوض المدني انذاك والذي لم يتمسك بتشكيل مجلس سيادة من خمس مدنيين لتسلم السلطة السيادية من مجلس الجهاز الإداري العسكري ليتبقى للمجلس العسكري مباشرة التشريعية فقط مؤقتا من خلال الإجتماع المشترك مع مجلس الوزراء في فترة الإنتقال لحين إنتخاب البرلمان بموجب دستور السودان المعطل منذ إنقلاب مايو حيث تكونت حكومة تنفيذية بكامل السلطات والصلاحيات برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله لعملية الإنتقال الديمقراطي لتسلم السلطة التنفيذية وهكذا تسنى للحكومة الإنتقالية تقديم مرتكبي جريمة الإنقلاب على الدستور في مايو ١٩٦٩م للمحاكمة ، لقد صحب إستدعاء دستوري السودان لعام ١٩٥٦م و١٩٦٤م من خلال نسختيه المعدلتان عقب ثورتي اكتوبر ١٩٦٤ وابريل ١٩٨٥م وتفعيلهما بعض المآخذ ولكن لم تكن جوهرية.
التأسيس الدستوري بمرجعية دستور السودان المؤقت ١٩٥٦م لا تنقضي إلا بتمام الوصول إلى اقرار الدستور الدائم وتظل محصورة في اقرار ذلك الدستور الدائم للبلاد لتنتهي صلاحية الجمعية التأسيسية بغض النظر عن اسمه بالتاسيس لتنتقل البلاد إلى مرحلة البرلمان وإنتخاب نواب للبرلمان ليمارس البرلمان المنتخب التشريعات العادية بسن القوانين التي تنظم العلاقات والمهام في الدولة ولكن في ١٩٨٦م ترك النواب الذين انتخبوا لمهام التاسيس مهمتهم الأساسية وانشغلوا بإصدار القوانين قبل التأسيس ودخلوا في جدل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وهذه ليس من مهام التاسيس فمهام التاسيس هي إجازة الدستور الدائم الذي يضمن كافة الحقوق والحريات لمواطني الدولة لتاتي عقب التأسيس والذي يتم في مرة واحدة فقط في الدولة مرحلة إنتخاب البرلمان الذي يمارس إصدار التشريعات العادية والتنافس للبرلمان يكون بين التنظيمات السياسية والأحزاب على برامجها الإنتخابية من يمينها ويسارها والمستقلين بمرجعياتها المتعددة والمختلفة من مرجعيات دينية او غيرها ليختار الناخب كيف يُحكم وباي برامج.
في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م قام إنقلاب الإنقاذ بتعطيل دستور السودان المؤقت ١٩٨٥م وبمجرد نجاح ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨م كان على القوى السياسية ان تعمل على إستعادة الحياة الدستورية للبلاد ومن دون الإستعادة لن يتحقق وفقا للقانون تجريم فعل مرتكبي تقويض دستور السودان المؤقت في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م ولعدم الإستعادة ظلت كل التدابير الصادرة في ظل النظام البائد سارية المفعول ومطبقة بموجب احكام الوثيقة الدستورية المعيبة والتي قطعت الطريق لإستعادة الحياة الدستورية للبلاد ومنحت ولأول مرة في تاريخ البلاد العسكر بموجب احكامها حق ممارسة السياسة وشؤون الحكم بل وادخلت البلاد في هذا النفق المظلم، وقد كان يمكن لقوى الحرية والتغيير وقد انتحلت لنفسها صفة تمثيل ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨م ان تكون على قدر المسؤولية وان تتمسك بإستعادة الحياة الدستورية للبلاد والإستفادة من تجربة الإنتقال في الديمقراطية الثالثة بتكوين مجلس عسكري من قيادة الجيش للقيام باعباء حماية الدولة في ظل الإنتقال وشغل المجلس العسكري الإنتقالي لمهام القائد الأعلى بموجب قانون القوات المسلحة ومهام السيادة التشريفية كالمجلس العسكري الإنتقالي برئاسة المشير سوار الذهب ومجلس وزراء بكامل الصلاحيات كما تم تشكيله برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله نقيب الأطباء، ولكن المؤسف حقا عقب نجاح ثورة ديسمبر ٢٠١٨م، هرولت ما اسمت نفسها بقوى الحرية والتغيير نحو السلطة بمدخل اعضاء اللجنة الأمنية للنظام البائد وبلا وعي او دراية اتت بشخصيات لا تمتلك التجارب والخبرة والدراية الكافية بالوضع الدستوري بالبلاد من محامين وحملة شهادات أكاديمية رفيعة تعوزهم التجربة وقاموا بتفصيل ما تمت تسميتها بالوثيقة الدستورية على مقاس اعضاء اللجنة الأمنية للنظام البائد ووضعوا المكون المدني كادوات الزينة وخلال فترة تقاسم السلطة بينهما تضاربت المصالح وتقاطعت المواقف فظهرت العيوب الجوهرية في الوثيقة الدستورية والباحث في جوهرها يجدها اكبر جريمة ارتكبت في تاريخ الممارسة السياسية بالبلاد في ظل فترات الإنتقال الديمقراطي ، وفي الوثيقة الدستورية لم تكتف قوى الحرية والتغيير بتقنين ممارسة العسكر للسلطة السياسية بالمخالفة لقانون قوات الشعب المسلحة بل قننت لما تسمى بقوات الدعم السريع وكان حميدتي هو اكثر ذكاءً من جميع قيادات قوى الحرية والتغيير وقد تمدد برجليه بعد ان تأكد بان هذه الأحزاب عبارة عن لافتات خاوية وبوضع اليد تربع علي منصب غير موجود في الوثيقة الدستورية بمسمى النائب الأول لرئيس مجلس السيادة واطلق على نفسه العنان وتمدد بقواته وصرح علنا بان جيشه الدعم السريع يستمد وجوده من برلمان المخلوع ولم يظهر اي صوت(ولوببغم) كما وأسبغت الوثيقة الدستورية المعيبة ولأول مرة على الجيش كجهاز خدمة عامة عسكرية ووليد المخلوع البشير الدعم السريع دون اساس ما يبرر تحولهما إلى مؤسسة دستورية بوثيقة دستورية كانت تتجشم كبرها قانوننيي القوى التي تنفذ الإنقلاب على الدستور بانفسهم والجديد في الأمر ان قوى الحرية والتغيير قد اغنت اللجنة الأمنية للبشير عناء المخاطرة لإختلاق سند دستوري يحول موظفي الخدمة العامة العسكريين الذين من مهام وواجبات وظائفهم ان يأتمروا بأوامر الدستوريين ، من مجرد شاغلي سلطات خدمة عامة إدارية تستمد صلاحياتها من قانون التعيين إلى شاغلي حقائب دستورية تستمد صلاحياتها من سند دستوري اختلق خصيصا لتخويلهم صلاحيات لا وجود لها في قوانين تعيينهم وهنا مكمن الأزمة.
يُحمد للحزب الشيوعي انه اعلن موقفه وعلى لسان القيادي بالحزب طارق عبد المجيد بان الحزب كان قد أخطأ ضمن قوى الحرية والتغيير ومارس النقد الذاتي على نفسه واعلن موقفه من الوثيقة الدستورية في أوانها على اعتبار انها نشات باطلة. كما ساتعرض لاحقا إلى رؤية هيئة محامي دارفور والتي سلمها الأستاذ يوسف آدم بشر نائب امين عام الهيئة مبعوثا من الهيئة إلى رئيس اللجنة القانونية لقوي الحرية والتغيير شخصيا بصورة لسكرتاريتها في حضور اعضاء اللجنة مجتمعين في مطلع اكتوبر ٢٠١٩م إلا انها ضربت بها عرض الحائط ولم تعرها اهتماما إلى يومنا هذا حتى بعد ان تكشفت بجلاء عيوب الوثيقة الدستورية الباطلة بالدرجة التي اجبرت حتى واضعوها على الاعتراف بانها معيبة وعلى الرغم من موضوعية الطرح الذي اتسمت بها المسائل المتناولة في تلك الورقة البحثية كمساهمة وطنية متواضعة عبارة عن جهد المقل لا اكثر، نامل ان يجد المطلع عليها فيها بعض النفع، كما وساتناول كيف ان هيئة محامي دارفور نلقت للقوى السياسية بما فيها نداء السودان وقوى الإجماع الوطني موقفها من رفض مشروع الوثيقة الدستورية المعيبة وكان ذلك في اوانها وساتناول اطروحات الأستاذ نبيل اديب والتي لا تتسق مع الإستعادة الإجرائية السليمة للوضع الدستوري والذي يتحقق بإستعادة وتفعيل دستور السودان المؤقت لسنة ١٩٥٦م تعديل ١٩٦٤ و ١٩٨٥م و المعطل في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م وقد ظل استاذ نبيل يصّر علي اطروحاته المشار إليها ويصف دستور السودان المؤقت بانه مجرد ترجمة لقانون المستعمر (قانون استانلي) كما وفي اطروحات استاذ نبيل الذي ظل يصرح بها في الورش غطاء قانوني لأكبر جريمة ارتكبت بحق الثورة تحت مسمى الوثيقة الدستورية والتي لا زالت سارية المفعول بحكم الأمر الواقع حتى وقد تم إستبعاد طرفه المدني بالإنقلاب عليه من الطرف الأخر العسكري بعد ان تضاربت مصالحهما وتقاطعت، وقد توقعنا ذلك سابقا في مقالات منشورة بصحيفة الديمقراطي
ونواصل

 

آراء