الوزارة الجديدة

 


 

 


علي قدر أهل العزم تأتي العزائم.....وتأتي علي قدر الكرام المكارم!
طال انتظارنا لهذا التغيير الوزاري، ومن الواضح أنه كان مرهوناً بعملية السلام المتراوحة بين فنادق الخرطوم وجوبا وأديس والدوحة...إلخ، لما يقرب من العام؛ ويدل علي ذلك تشكيل الحكومة الجديدة التي جاءت مزوّدة بسبعة من كوادر الحركات "الحاملة للسلاح"؛ وكان هذا الانتظار خطأ فادحاً أدي لتعطيل العمل بمعظم دواوين الدولة، ولإرباك الأوضاع الاقتصادية والمصرفية والتجارية، كما سبّب أضراراً وتشوهات وأوجاعاً وخسارات في معاش أهل السودان، خاصة المساكين وسكان الريف الذين لا يقلون عن خمسة وثمانين في المائة من السودانيين.
وفي نهاية الأمر تم تشكيل الحكومة الجديدة، وانتاب الناس شعور بالراحة، وبعث في نفوسهم أملاً في غد سيكون واعداً – ربما - تحت بنود الثورة الخفاقة.
ولكن ثمة أسئلة جوهرية تظل ماثلة، ولن ينفع الصمت والازورار والزوغان منها:
• ما هو برنامج وتوجه وخريطة طريق هذه الحكومة؟ ما هو تصور كل وزير للمهمة المناطة به حتى تصرّم الفترة الانتقالية خلال نيف وثلاث سنوات؟
• وتحديداً فيما يختص بالمسالة الاقتصادية: هل سنسير على خطي الوزراء السابقين الذين حاولوا فرض نظرية عبد الرحيم حمدي الوزير الإخواني الأسبق لوزارة المالية، المستقاة من تعليمات البنك الدولي وصندوق النقد العالمي الخاصة برفع الدعم والخصخصة وتعويم الجنيه وترسيخ التطور الرأسمالي، أم لدينا فلسفة مغايرة؟ وما هي تلك الفلسفة بالتحديد والتفصيل الممل؟

لقد صاحب إعلان الحكومة الجديدة تصريح عابر ومقتضب بأن هنالك برنامج سوف يخرج عن قوى الحرية والتغيير عما قريب كهاد ومؤشر – كتالوج - لسير الحكومة الإنتقالية. وهذا أمر عجب، نفهم منه أنهم قضوا سبعة شهور يتحاصصون ويتجادلون حول من يتولى ماذا من الحقائب، ثم تفرغوا الآن لوضع البرنامج السياسي والاقتصادي. وحسب تجاربنا القريبة والبعيدة مع قوى الحرية والتغيير والدكتور حمدوك، فإن هذا الأمر سيتعرض للت وعجن وتشقيق الشعيرة وجرجرة لا يعلم مداها إلا الله؛ وفي هذه الثناء، سوف تزداد الربكة والضبابية وتسوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهي أصلاً قد بلغت الحضيض.
ومن ناحية أخري، وبقدر ما خرج علينا المجلس الجديد بأسماء يرتاح لها الشارع، فرضت علينا نواميس المحاصصة ممثلين لأحزاب ليس لها وجود في المجتمع، ومندوبين لحركات تدعي أنها حاملة للسلاح، بينما الحاملون للسلاح ما زالوا بجبل مرة والمناطق المحررة بجبال النوبة؛ وهل يعني ذلك أنه حينما ينخرط هؤلاء كذلك في السلام سنفسح لهم مجالات أخرى بالسيادي وبمجلس الوزراء والمجلس التشريعي المزعوم؟ ولماذا تصر هذه الحركات علي وزارات بعينها مثل المالية؟ ماذا في جعبتهم من خطط لإنقاذ الوضع الاقتصادي المنهار؟ وما هو تبريرهم لهذا الإصرار والتكالب؟
باختصار شديد، لا مانع من زيد أو عبيد يجلس على هذا المقعد أو ذاك، فكلهم، مع استثناءات بسيطة، يتساوون في الحيرة وفي الإقدام على مهام لا يدرون تماماً كنهها ولم يفصحوا عن منهجية معينة ينوون اتباعها. وما من شك في أن الوزارة المركزية في أوضاع اليوم المنهارة هي وزارة المالية، ويبدو أنها كانت فريسة لهجمة شرسة من فصيل محدد – جماعة الدكتور جبريل إبراهيم – دون أن يشرحوا لنا نظريتهم وأسبابهم لذلك، سوى بعض الوعود البراقة الوهمية، يلقون بها في روعنا أن نبي الله الخضر عليه السلام سيكون في صفهم.
وإذا قدّمت العدل والمساواة روشتتها عبر الستة شهور المنصرمة داخل أروقة الحرية والتغيير، فإن الشارع غائب تماماً عن تلك المناقشات والإفادات؛ ولقد اشتهرت قحت ورئيس وزرائها طوال السنتين المنصرمتين بعدم الشفافية وبالتكتم والطهي داخل غرف مغلقة لا تتسرب منها إلا إشاعات بين الفينة والأخرى يتم دحضها واحدة تلو الأخرى. ومن ضمن الإشاعات التي انطلقت قبيل إعلان التشكيل الجديد تلك التي زعمت أن حمدوك رفض إسم الدكتور جبريل نسبة لارتباطه بالمنظمات الإسلاموية الإرهابية وبإعلانه persona non grata ذات مرة في المملكة المتحدة، مما جعله رقما غير صالح للتداول لدى المؤسسات والجهات الغربية التي انفتح السودان عليها بعد رفع إسمه من قائمة الإرهاب. وفجأة، وبلا أي دحض لتلك الإشاعة، تم إعلان د. جبريل ضمن القائمة بالأمس وزيرا للمالية، اهم حقيبة على الإطلاق في الظروف الراهنة.
لسنا بصدد تأكيد أو نفي ما يتردد حول دكتور جبريل، ولكن هذا المنصب بالذات من الحساسية بمكان، ويجب ألا يخضع لأي نوع من المحاصصة والحسابات الإثنية والعنصرية، بل كان يتوجب إتفاق كل الفصائل على شخصية قومية مقتدرة وذات كاريزما، مثلما فعل الراحل الصادق المهدي عام 1968 عندما أتي بالخبير الاقتصادي غير الحزبي حمزة ميرغني من الولايات المتحدة لحقيبة المالية والإقتصاد في وجه المعارضة الشديدة من كوادر حزبه. إنني شخصياً كنت أتوقع إسناد هذه الحقيبة الخطيرة لرجل مثل البروفسير أحمد حسن الجاك غير المنتمي لأي حزب محدد والذي نشر قبل أيام أطروحة علمية واضحة المبتدأ والخبر لإنقاذ البلاد من وهدتها الاقتصادية، تكليلاً لمساهماته الأكاديمية المنجّمة طوال السنوات المنصرمة، بالإضافة لكونه من (الواطين الجمرة)، أي الذين لم يفارقوا هذه البلاد إلا للمؤتمرات العلمية، وفي نفس الوقت لم يتمرغوا في أي فساد، ولم يعرف عنه إلا التميز الأكاديمي وعفة اليد واللسان ومخالطة الناس وعدم الانزواء والقوقعة البرجوازية. ولكن آثر المجتمعون في دهاليز قحت النزول عند رغبة فصيل "حامل للسلاح"، ويقيني أن في ذلك على الأقل opportunity cost على عاتق الشعب المطحون أصلاً، لتتكسّر النصال على النصال.
وفيما عدا ذلك، يمكننا أن نتجاوز عن هذه القائمة الناتجة عن المحاصصة البئيسة، ريثما نرى البرنامج الموعود، ونفحص تطبيقه على أرض الواقع. وهذا الترتيب الزمني في حد ذاته وضع للحصان خلف العربة المنوط به جرها. أي أننا غارقون في الخطأ من البداية. عموماً، وقبل هذا البرنامج الموعود الخاضع للجرجرة، المرجو من الحكومة إصدار بيان واضح ومطمئن بما هي فاعلة إزاء الأزمة الاقتصادية الكارثية التي ظل شعبنا يرزح تحتها منذ عام – خاصة فيما يتعلق بالخبز والبنزين والدواء. وليبدأ وزير المالية بالإفصاح عن سياساته المزمعة، مما سيكون له أثر مباشر وسريع على سعر الصرف وتوازنات السوق – هل مزيد من التضخم أم انفراجة ما؟
إن العالم يتفرج علينا، ودول الجوار بالتحديد تتحيّن الفرص وتتربّص بنا الدوائر، (ولسان حالها يتغنّي: "آكلك من فين يابطة؟")؛ وكلما تشاكسنا وتمسّكنا بالمناطقية والإثنية والحزبية، كلما ضعفت مقدراتنا التفاوضية المتعلقة بالملفات الشائكة المطروحة بيننا وبينهم – سد النهضة، الحدود مع إثيوبيا، مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد الغني بالمعادن، منطقة أبيي والحدود مع دولة الجنوب التي لم يتم ترسيمها حتى الآن. ليس ذلك فحسب، بل إن مظاهر الفوضى والترهل والخلافات وتجليات التخلف والوحشية التي تنبعث من الاتجاهات الأصولية والداعشية تغري دول الإقليم بالتدخل بدعوى تحقيق الاستقرار كما هو الحال في ليبيا وسوريا واليمن. وحسب اتساع رقعة السودان وتباين مناطقه الطرفية وتنوع وتخاصم إثنياته، فنحن أقرب إلى الثقب الأسود الصومالي. هذه أخطار حقيقية محدقة ببلادنا.
بيد أنا يجب ألا ننسي أننا في حالة ثورة شعبية نادر مثلها في التاريخ، ممتدة منذ ديسمبر 2018، ونستطيع أن نسخّر زخم وطاقات هذه الثورة لتحقيق غاياتها وشعاراتها – عبر لجان المقاومة وشباب وكنداكات بلادنا والمنظمات الجماهيرية التي شاركت في صنع الثورة وما زالت في الخط الأول للدفاع عنها. ولكنا نتمني أن يتم ذلك، أي تحقيق مطلوبات الثورة في العدالة والحرية والسلام، بلا مخاشنات أو مواجهات مسلحة واصطدامات غير معروفة النتائج، ونهيب بالجميع الإصغاء لنبض الشارع والتزام جانبه والبعد عن النظرة الحزبية والإثنية الضيقة المفلسة والمدمرة التي ما جنينا منها خيراً طوال تاريخنا.
عاش كفاح الشعب السوداني
المجد لثورة ديسمبر العملاقة
حرية سلام عدالة
مدنية خيار الشعب.

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء