الوعي السياسي ودوره في عملية التغيير 

 


 

 

يعتبر الوعي السياسي و المجتمعي من أهم المحركات الفاعلة في عملية التغيير في المجتمعات، فالتغيير ليست عملية دورية أو فصلية تلجأ لها الأحزاب و الفعاليات المجتمعية و قت الضرورة، بل هي عملية ديناميكية مستمرة في المجتمع، و لكن المقصود هنا التغيير المطلوب الذي ينقل المجتمع من النظام الشمولي إلي النظام الديمقراطي، و ربط الوعي بعملية التغيير مسألة في غاية الأهمية، لأنه يحدد المراد تحقيقه من عملية التغيير و هي قضايا متشعبة و معقد لأنها تصطدم بالثقافة و المصالح و بعض القناعات المتأصلة في المجتمع، لذلك هي تحتاج لفكر جديد و أدوات جديدة و قناعات جديدة وسط القوى الفاعلة و المؤثرة. و في الندوة التي أقامها  بروف أحمد إبراهيم أبوشوك في النادي السياسي السوداني على خدمة " Clubhouse" بعنوان " قراءة تاريخية لتراكم النضال الثوري" أشار أن إشكالية الثورة في السودان يسيطر في الساحة جدل السياسة، و هي تمثل حمولات متعارضة، و تثير الخلاف، و غير محكومة ببرنامج يوحد أهدافها، و تغيب فيها " إنتاج السياسات" التي تؤسس على برامج مفصلة و واضحة، و أيضا تعرف الآليات التي يجب أن توظف لتحقيق الأهداف. بمعني غياب دور الفكر في ظل تعقيدات المشهد السياسي. و قال أن قوة الثورة أعتمدت على عاملين مهمين المشاركة الفاعلة للشباب و الثاني وعي هؤلاء الشباب بعملية التغيير. و الملاحظ من خلال المشهد العام للعملية السياسية أن الشارع قادر على المحافظة على شعاراته و التأكيد عليها، و يمارسة الضغط لتحقيقها. الغائب عن المشهد السياسي هو الدور المنوط أن تلعبه الأحزاب في تحويل شعارات الشارع إلي برامج واضحة، و تحديد القوى التي تنفذها إلي جانب اختيار الآليات الفاعلة.

معلوم أن غياب الوعي السياسي هو الذي يجعل الأزمات تستمر دون إيجاد حلول لها، و الوعي يجب أن تخلقة الأحزاب في الواقع من خلال البرامج التي تقدمها و الحوار الذي يجب أن تقوم به مع الجمهور، و الأسئلة التي يجب أن تطرحها. في الورقة التي كان قد قدمها الدكتور قحطان حسين اللاوندي في ندوة مركز المستقبل للدراسات الإستراتيجية بكربلاء، قال فيها: "إن الوعي السياسي هو إدراك الفرد وفهمه لواقع مجتمعه السياسي ومعرفة المشكلات القائمة، والقوى الفاعلة والمؤثرة في صناعة القرار على المستويين الوطني والعالمي، والوعي السياسي هو حالة من اليقظة الفكرية يتمكن من خلالها الإنسان من رصد الأحداث وتحليل وتشخيص أبعادها وآثارها، ويساعد الوعي السياسي المجتمع في مواجهة مشكلاته وتحصينه من التهديدات الداخلية والخارجية، وذلك بالتعامل معها وفق رؤية عقلية منطقية تضمن الوصول للأهداف المتوخاة" و هذا الوعي السياسي يجب أن يؤسس عبر المؤسسات الحزبية و يطرح على الجمهور من خلال المنتديات و الفاعليات السياسية، لكن الأحزاب في السودان هي غائبة تماما عن هذه المهمة، و الوعي يحتاج العناصر التي تشتغل بالعمل الذهني التي تستطيع أن تدرس الوقع و تحلله لكي تتعرف على الأسباب التي تشكل كوابح لعملية التغيير، و الأحزاب تسجل غيابا في منتديات الحوار مع الجمهور، و تركت قيام الندوات السياسية المفتوحة. و الضعف الذي تعيش فيه جعلها تستبدل دور الفكر و إنتاجه بالشعارات لكي تساعدها على عملية التعبئة و التحريض، و هي عملية تؤدي لتغبيش الوعي عند الجمهور. لآن هناك قيادات تاريخية تحجز مقاعد قمة الهرم في الأحزاب مدى الحياة، هؤلاء يغلقون كل المنافذ التى تمر عبرها أدوات التغيير الثقافي الذي يعزز عملية الوعي عند عضوية الأحزاب، الأمر الذي جعل الوعي السياسي ينمو و يتوسع خارج أسوار الأحزاب، و تطرح الأسئلة المهمة من قبل الجمهور.

أن واحدة من الإشكاليات التي تواجه القوى الحديثة، و خاصة الذين يتطلعون على عملية التغيير في المجتمع، إجراء مراجعات فكرية عميقة داخل تلك المؤسسات، و المطالبة بتحديثها و إثارة قضايا فكرية و تنظيمية، الهدف منها هو تعدد و توسيع المواعين الديمقراطية في الأحزاب، و رغم أن التطور في وسائل الاتصال قد خلق خيارات عديدة تمكن قيام ندوات جماعية في خدمات وسائل الاتصال الاجتماعي، تجد أن الأحزاب لا تستخدم هذه الوسائل في فتح حوارات مجتمعية، و امتناعها عن تنظيم الندوات يؤكد حالة الفقر الثقافي و الفكري عند القيادات التاريخية التي تحنط عقلها، و تخاف من المواجهة من أجيال جديدة لا تتردد في طرح أسئلتها حتى إذا كانت تمثل حرجا. و واحدة من تعقيدات المشهد السياسي في السودان أن وعي الجماهير خارج الأحزاب أصبح يتمدد أفقيا يتجاوز وعي المنتمين سياسيا، الأمر الذي أحدث إرباكا كبيرا في عمل الأحزاب.

 أن الوعي الجماهيري مطلوب لكي تتعرف الجماهير على حقوقها و ما هي واجباتها، و هذا الوعي هو الذي يلجم الاستبداد في مهده، و يقوم فعل الانحراف إذا حاد عن طريق الديمقراطية، و أيضا يجعل الجماهير ترفض شعارات الأحزاب التي لا تتلاءم مع التوجه الديمقراطي، إلي جانب يجعلها تدرك أن التناقضات في الخطاب هي بداية لأزمة جديدة. و إذا نظرنا لمثال لهذه التناقضات في الخطاب أو في الشعار، أن الكل يؤكد على سلمية التظاهرات و السلمية تعتمد في تحقيق أهدافها على الحوار و التفاوض، و الديمقراطية أيضا تعتبر الحوار يمثل حجز الزاوية في الديمقراطية، و لكنها ترفع شعار " لا مفاوضة و لا مساومة و لا مشاركة" و يصبح السؤال ما هي الآلية التي تريد أن تحقق بها أهدافها؟ و معلوم أن المسيرات تمثل أداة للضغط على السلطة لكن لا تسقطها، و الضغط الهدف منه أن تستجيب السلطة للجلوس و التفاوض. و الشعار يمثل مسألة صفرية أو عدمية.

و التناقض الأخر أن كل المسيرات ترفع شعارات ذات مطالب عديدة، و الشعار في حد ذاته حوار، و لكنها تردد لا مفاوضة، هنا يغيب الوعي السياسي، لأنها لا تحمل هذا الشعار قبل بداية المسيرة لكي تفحصه و تتعرف على مقاصده، و لكن تحمله بعد ما تبدأ تتعالى الهتافات الجماعية تبدأ عملية دس شعارات الأحزاب، للاستفادة من السلوك الجماعي الذي لا يقف برهة لكي يفحص هذه الشعارات، أو يتعرف على مغذاها، الأمر الذي يربك العمل السياسي، و تبدأ عملية المغالطات بعد انتهاء المسيرة، إذا كانت تلك شعارات الشارع أم هي شعارات الأحزاب. الأمر الذي يوضح أن هناك البعض لا يريد اكتمال الوعي عند الجماهير بالصورة المطلوبة التي تجعله يميز مدلول الشعارات التي يرفعها. أن القوى السياسية التي تحاول دس شعاراتها لا ترغب في إعلاء مصالحها الحزبية دون القومية التي تتجسد في كيفة الوصول إلي وضع أساس الدولة المدنية الديمقراطية. و التي تحتاج لوعي شعبي.

أن الدولة المدنية الديمقراطية التي أكدت عليها شعارات الشارع ليلحق بالشعار الأول " حرية - سلام – عدالة" يحتاج لقوى مجتمعية و سياسية واعية لكي تحقق المطلوبات الضرورية التي تستطيع أن تنزل الشعارين على الأرض. و تطالب السلطة التنفيذية أن تبدأ الشروع في تكوين المؤسسات التي تساعد على ذلك، و تزيد مساحة الحرية اتساعا لكي تساعد على عملية الإبداع عند الاجيال الجديدة، و إنتاج الثقافة الديمقراطية بكل رمزيتها و إشاراتها، و التي تؤدي إلي تغيير في كل الانساق المؤثرة في الثقافة الشمولية لكي توقف مفعولها في المجتمع، و أيضا أن تساعد على أن تخلق واقعا جديدا للتفكير، و تطرح أسئلة جديدة تساعد على فهم عملية التغيير و الآدوات المطلوبة. و تفكيك البنية المفاهيمية للنظام الشمولي، و تأسيس بنية ديمقراطية. فالتغيير في مجتمع سادت فيه الشمولية فترات طويلة ليس باليسير، أنما سوف تواجهه تحديات كثيرة و عوائق، إلي جانب القوى المحافظة في المجتمع التي ترفض عملية التغيير، و القوى التي تتأثر مصالحها بعملية التغيير. كل ذلك يتطلب نمط جديد من التفكير الجديد المساعد، و في نفس الوقت فتح منابر عديدة للحوار السياسي و الحوار المجتمعي. أن تحول الديمقراطي  و الوعي به يحتاج تفجير كل الطاقات الابداعية في المجتمع و العمل المشترك. و نسأل الله للجميع و لنا حسن البصيرة.

نشر في جريدة إيلاف الخرطوم




zainsalih@hotmail.com

 

آراء