الانتخابات وما أدراك ما الإنتخابات... (إعادة نظر!)
كنت حاضراً ومشاركاً في الورش الإتحادية القاهرية داخل وخارج فيلا الميرغني بحي مصر الجديدة، الخاصة بالمشاركة فى حكومة الوفاق الوطني - المنبثقة عن (الحوار الوطني) - قبيل نهاية العام المنصرم، تحت راية صديقي الزعيم حاتم السر علي؛ ولقد استقر الرأي على المشاركة - لأسباب عديدة، أهمها عدم ترك المجال لنائب رئيس الحزب، السيد الحسن ذى الميول الإنفرادية والتسلطية، وزمرته المتواطئة مع المؤتمر الوطني والمنبطحة للآخر؛ واكتساب مساحات ذات نفع ومردود إيجابي في انتخابات 2020 الرئاسية والبرلمانية، شريطة أن يتم تغيير الطاقم الذى رشحه السيد الحسن للحكومة المزمعة دون تفويض من رئيس الحزب. وبالفعل تم استبدال الأسماء التى طرحها السيد الحسن بالرجال الستة الذين أدوا القسم عند تكوين الحكومة الحالية - ممثلين للحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل بزعامة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني. ولعق السيد الحسن جراحه، ولكنه فيما يبدو بيت النية على شيء واحد محدد، وهو القضاء المبرم على ما تبقي من الحزب الإتحادي الأصل.
ومنذ تكوين الحكومة الجديدة التى ضمت حاتم السر، ظللت في حالة ماكوكية بين أبوظبي والسودان ملامساً ومواكباً ومترقباً طوال الفترة المنصرمة، كما ظللت أبحث في معية حاتم والإتحاديين الحادبين - كمن يبحث عن إبرة في كوم قش ليست به إبرة أصلاً - عن إمكانية الشروع في الحملة الإنتخابية المزمعة، من خلال تفعيل الحزب أولاً : بالاجتماعات الدورية لمكتبه السياسي وهيئته القيادية ومكتبه التنفيذي، وبنفض الغبار وطرح برنامجه السياسي والاقتصادي الذي سيخوض بموجبه الإنتخابات المذكورة، وبالزيارات للأقاليم والتواصل مع القواعد بالريف، وبالتواجد والبروز في الساحة السياسية عن طريق البيانات الحزبية والتصريحات والتجليات الإعلامية المتواترة نشراً وتوعية، ترسيخاً لخط الحزب، وبالتعايش مع جماهير الحزب في سرائها وضرائها، وبطرح رؤية الحزب الخاصة بالأحداث والتطورات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، وبإقامة دار مركزية للحزب – أسوة بحزب الأمة والحزب الشيوعي وحزب المؤتمر السوداني بزعامة الباشمهندس عمر الدقير - ودور أخري بكافة الأقاليم.
ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث حتى الآن؛ فليس هنالك حزب ولا مكتب سياسي ولا لجنة مركزية ولا هيئة قيادية ولا مؤتمرات أو لجان قاعدية (ولا بطيخ)؛ هنالك فقط السيد الحسن الغامض الصامت الغائب عن الساحة على طول الخط، والغائب حتى عن عمله بالقصر الجمهوري......متعدد الأسفار كثير العطلات كأنه الأغا خان. ولقد أصبح الحزب يتيماً في مأدبة اللئام، وانفرد السيد الحسن بالأمر تماماً، وأحاط نفسه بشرذمة من الأيفاع الرويبضات غير المعروفين بأروقة الحزب، العاطلين عن المؤهلات والخبرات والسمعة الطيبة؛ وقلب ظهر المجن لكل قيادات الحزب التاريخية (التى أسماها بالدواعش)....فصلهم وهمشهم وقاطعهم وباغضهم بمرارة وفجور في الخصومة لم تشهده الحركة الوطنية طوال تاريخها، منذ نشأتها وازدهارها في أربعينات القرن المنصرم. ولقد طرب المؤتمر الوطني لهذه الثمرة الناضجة التى سقطت في حضنه من السماء – أي هذا الوضع المزري الذي ضرب الحزب الإتحادي، الخصم اللدود ذا الثقل الجماهيري بوسط وشمال وشرق السودان وهو يترنح كشارب المريسة، ويتشاكس مع بعضه البعض ويعاني من الهرج والمرج، ويأخذ كل من قادته بتلابيب الآخر.....فازدادت ثقة المؤتمر الوطني في نفسه، وامتلأ غروراً وعنجهية، وتفتحت شهيته للإنفراد بالأمر مجدداُ وسرمداً، ولوضع ملف الحوار علي الرف، فالخصم، بل كل الخصوم في الواقع، أقل كثيراً من أن يحسب لهم أي حساب.
عندئذ، أحسست بـأننا ننفخ في جراب مثقوب، وأن المؤتمر الوطني يضحك علي ذقوننا – merely taking us for a ride - ؛ وإذا دخلنا فى أي انتخابات معه فلسوف نخسرها بجدارة وبفارق شاسع؛ ويبدو أن حسابات المؤتمر الوطني لا ترمي فقط للفوز ولاكتساب شرعية باشتراكنا معه (وكذلك اشتراك أي قوي تنطلي عليها أحابيله)، إنما لمرمطة القوى السياسية المناوئة ومسحها من الوجود تماماً، ثم الظهور أمام الدول الإقليمية ذات الخطر وكأنه صاحب تفويض شعبي كاسح، عله يستمر فى رهن وبيع مقدرات البلاد وأراضيه وجنوده المقاتلين ك mercenaries لتلك الدول التي تتحلب أشداقها لفيافي السودان مترامية الأطراف ومياهه العذبة الكثيرة وذهبه ومعادنه النفيسة وأجناده المحترفين الأشاوس، كأنا في عصر التكالب علي إفريقيا من قبل الدول الاستعمارية الأوروبية عند نهاية القرن التاسع عشر، وكأنا معروضين للبيع في سوق نخاسة إقليمية، وكأن بلادنا معروضة للبيع في الدلالة.
وفي هذه الأثناء، دار جدل كثيف حول المشاركة فى الإنتخابات فجره الأستاذ السر سيد أحمد عبر خمس مقالات بالصحف الإسفيرية، وقد أعجبت بذلك الطرح الذى يتمشي مع الرؤية التى أتفقنا عليها في القاهرة بالشتاء المنصرم - الخاصة بالنضال عن طريق صندوق الاقتراع. ولقد استرشد الأستاذ السر بالنموذج السنغالي وببعض الدول الإفريقية الأخرى التى حققت التصالح الوطني وجبر الكسر والتوافق بين كافة القوى السياسية؛ و(شالتني الهاشمية)...بلا روية، ودبجت مقالين فى الدعوة لعدم مقاطعة الانتخابات. بيد أن في ذلك خفة وعجلة وخطأ تكتيكي فادح، (وكاد أن ينطبق علي قول المتنبي: أماتهم قبل يومهم الجهل....وجرهم من خفة بهم النمل!). ولا يقلل من خطأي الشرح الذى قدمته والتحوطات التى وضعتها كإشتراطات تقع تبعتها على الحكومة، وهي: • ضرورة رفع القوانين المقيدة للحريات والسماح - بالنص الدستوري والقانوني - بحرية التعبير والتنظيم. • حل المليشيات الموازية للجيش حيث أنها خميرة لعدائيات لا مفر منها ولحرب أهلية يمنية صومالية الهوى، خاصة فى جو الانتخابات الساخن. • حل لجنة الانتخابات الحالية وتبديلها بطاقم ترضى عنه غالبية القوى السياسية المؤيدة والمعارضة للنظام؟ • إلغاء ميزانية 2018 وإرجاع الدعم لرغيف الخبز طعام الشعب، درءً للمجاعة الوشيكة والتى تبدت نذرها ليس فى الريف المسكين، إنما في العاصمة القومية نفسها.
غير أن كل ذلك حرثً في البحر وصيحات في واد - (بندق في بحر). فما برحت حكومة الإنقاذ بمؤتمرها الوطني تقف حيث كانت منذ سرقتها للسلطة قبل ثلاثة عقود، تستقطب الحلفاء المؤقتين ثم تلفظهم لفظ النواة واحداً تلو الآخر بعد أن تقضي وطرها منهم، وتسترسل فى صلفها واستبدادها وأنانيتها واحتقارها للآخر. وأحدث تجليات الموقف الحكومي كان خطاب الرئيس البشير في جماهير بحر أبيض بمدينة ربك قبل أيام.........الذي تبينا منه الآتي:
• هجوما غير مبرر على السفيرة البريطانية المغادرة، من نوع (تحت جزمتي) و(بلوهو واشربوا مويتو)....إلخ، رجوعاً للحرب علي الغرب (ولأمريكا التى دنا عذابها).... التى كشف عنها النقاب الرئيس البشير في لقائه مع الرئيس السوفيتي بوتن عندما طلب منه الدعم والمناصرة في حربه على الولايات المتحدة. وهذه جميعها معارك دون كيشوتية لا ناقة ولاجمل للشعب السوداني فيها، ولا نفهم منها إلا أن النظام الراهن يصر علي الإنزواء والإنكفاء بعيداُ عن الأسرة الدولية، وعلى الإنفراد بالشعب السوداني مثلما فعل الخليفة عبد الله الذى استلم بلاداً من الإمام المهدي بها ثمانية ملايين نسمة، وبعد ثلاث عشرة سنة ترك فيها ثلاثة ملايين فقط. ولا نفهم منها إلا عض اليد التى تقدم لنا العون والإغاثات، والتى تنجدنا في الملمات (مثلما خلصونا من حكم الخليفة عبد الله – "يايابا الفقس وياالإنجليز ألفونا!")، اليد التى ننتظر منها الآن رفع الديون الخارجية عن كاهلنا، أو على الأقل إلغاء أرباحها، كما ننتظر منها الوقوف معنا في مسألة قبول عضويتنا بمنظمة التجارة العالمية، وكافة مطلوبات ومتعلقات التجارة البينية والدولية مع جميع بلدان العالم، لا أن نكون محتكرين تجاريا واقتصادياً ومرهونين لدى تركيا والصين فقط، مع ما يستصحب ذلك من صفقات مشبوهة واتفاقيات لا تتمشي مع مصالح الشعب السوداني، مثلما هو الحال الآن في مجال الحيازات التعدينية على سبيل المثال.
• هجوما غير مبرر علي المعارضة (نداء الوطن) التى اجتمعت في باريس وتوصلت مع كافة أطرافها لنبذ العنف، وللنضال السلمي ضد النظام الراهن، حتى يتم تفكيكه وإحلاله بنظام ديمقراطي تعددي متحضر يستوعب كل طبقات وإثنيات وشعوب السودان المتصالح الآمن. ولقد اتضح أن الرئيس ونظامه يحملون عداءً شديداً وحقداً كظيماً على السيد الصادق المهدي..... يبدو لأن الأخير قد تصالح مع نفسه ومع شعبه، وتراجع عن المشروع الإسلاموي الفاشل، وأخذ يهتم بمصالح الشعب السوداني ولقمة عيشه، وبكيفية رتق لحمته الوطنية والأخذ بيده، عبر إطفاء الحرائق واستتباب السلام، على طريق التقدم الاقتصادي والتحول الإجتماعي.
• اعترافاً رسمياً بالمليشيات الموازية للجيش والتى طالبنا بحلها - الدعم السريع والدفاع الشعبي...الخ، وإعلاءً لشأنها مكايدة للذين طالبوا بتصفيتها، وتذكيراً للرومانسيين الحالمين بالحوار الإيجابي مع هذا النظام....بأنهم كالوعل الذى يناطح صخراً، حيث لا ينفلخ الصخر إنما ينعطب قرن الوعل.
• وبينما يطرح البريئون من أمثالي وأمثال السر سيداحمد والدكتور النور حمد مشروع منافحة النظام عن طريق مشاركته فى الإنتخابات الوشيكة (2020)، يتجاهل البشير كل ذلك ويقفز لموضوع آخر لم يكن فى الحسبان بتاتاً، كمن يخرج حية أخري من جرابه جراب الحاوي، وهو الإعلان عن التجهيزات الخاصة بكتابة دستور جديد للبلاد، ( وذلك يعني فيما يعني مشروع ركلسة جديد كالحوار الوطني، بمخصصاته وقاعاته المكندشة ومآدبه وسفسفاته وملذاته الدنيوية...مما سوف تتحلب له أشداق سماسرة السياسة وصعاليك الريف المتبطلين بفنادق الخرطوم ردحاً آخر من الزمن...حتى يقضى الله أمراً كان مفعولا). والرئيس ونظامه يعلمون جيداً أن هذه ليست قضية الساعة، إنما القضية هي الأزمة الإقتصادية الخانقة التى تمر بها البلاد: إنهيار البنية التحتية وانعدام السيولة وبوار التجارة وشح الغذاء والدواء والطاقة، والخطر الذي يتهدد الموسم الزراعي الجديد، وتباشير المجاعة "السنة ستية" البارزة للعيان؛ والقضية هي الميزانية المضروبة التى أعلنها وزير مالية لا علاقة له بعلم الإقتصاد. هنالك دستور مكتوب ومرفود بوثيقة حقوق الإنسان من لدن إتفاقية نيفاشا 2005، وهو يمثل الحد الأدني المقبول في الوقت الراهن لدى كل القوى السياسية السودانية، وإذا تم تطبيقة قولاً وفعلاً فإن البلاد لا تحتاج لقومة وقعدة وظيطة وظمبريطة من أجل دستور جديد سوف تستغرق صياغته سنتين أو ثلاثاً على الأقل. إنه مجرد عظمة يلقي بها النظام ليشغل بها أعداءه لبعض الوقت، شراءً للزمن، وأي دستور قادم سوف يلقي نفس مصير سابقاته، دستور 1998 ودستور 2005...إلخ، تهميشاً ووضعاً على الرف، بينما يستمر العمل بالقوانين الأدهوكية الصادرة عن رئاسة الجمهورية، وبالقوانين الإستثنائية وبالطريقة الدكتاتورية الآحادية القهرية الراهنة وحالة الطوارئ الأبدية.
• وتكلم الرئيس في خطابه المذكور عن الفساد وعن عزمهم على ملاحقة المفسدين وتقديمهم للمحاكمات العادلة والناجزة، مهما كانوا وفي أي مواقع يتربعون. وهذا كلام لا غبار عليه نظرياً، ولكنه جاء متأخراً تسع وعشرين سنة. أين كان سيادته طوال هذه السنوات؟ هل أفاق من نومة أهل الكهف في خريف عمره لأنه فجأة نضج واستفاق وتسربت إلى نفسه روح وطنية؟ على كل حال، الجميع يدركون أن الفساد حوله ومن خلفه وقدامه ويمينه ويساره، وهو يعلم ذلك بما عرف عنه من "شفتنة" وحرفنة. والأدل على استرساله في أجندته الخاصة أنه بعد يومين من خطابه أصدر أمراً جمهورياً بتعيين زوجة (وفي رواية مطلقة) شقيقه العباس رئيسة لمفوضية حقوق الإنسان – أي مثل آخر للتمكين الأسري dynasty وللتوريث، تماما مثل الخليفة عبد الله الذى استجلب أولاد جابر أبناء عمومته من رهيد البردي وكساهم وخصص لهم رواتب من بيت المال، ومنحهم قطعاُ سكنية خلف داره بصدر أم درمان – الملازمين والموردة والعباسية - وفضلهم على العالمين وأطلق أيديهم فى أراضي وممتلكات وحقوق غيرهم من خلق الله. والفساد معروفة رموزه وكوامنه وجغباته وأركانه الراكزة بالسودان. مثال واحد حيرني كثيراً وهو أن وزير الخارجية السابق مثلاً، فضلا عن أنه من أغني أثرياء السودان وصاحب القدح المعلي في تجارة الأسمنت، يمتلك عدة مشاريع زراعية بشمال السودان، وكذلك مشروعا مترامي الأطراف جنوب كوستي غرب النيل الأبيض عبارة عن أراضي شاسعة على وشك التحول ألى استثمارات زراعية وصناعية ضخمة. كما علمت أن بعض المتنفذين يمتلكون مشاريع ذات الألف فدان لكل واحد منهم شمال شرق منطقة شندي، للإستفادة من التقنيات الحديثة في استخراج المياه الجوفية التى استجلبها السعوديون والعرب الآخرون مؤخراً.
كما رأيت العديدين الذين يمشون بين الناس في الأسواق كأنهم بشر عاديون بينما هم من أغني إغنياء الشرق الأوسط، سماساةً ومهربين لأموال القطط السمان، لأرصدتهم بالخارج، في بنوك قطرية وإماراتية وبريطانية وسعودية، ولهم رتب عسكرية أمنية رفيعة.... ولو سألت أياً منهم ماذا يفعل وفيماذا يتاجر وما هو انتاجه وما هي مؤهلاته - فإنك سوف لن تجد إجابة واحدة مقنعة. وتلفاهم صامتين موطئي الأكناف – ليس تواضعاً إنما تقية ولصوصية واستهبالاً و"شفتنة"، بيد أن أمرهم مفضوح لدى عامة الشعب، ويهمس الناس في أذنك إن هؤلاء الجستابو معروفون بالإسم وتحركاتهم محسوبة وحساباتهم بالخارج مرصودة، وعما قريب ستحل بهم نكبة البرامكة.
بكلمات أخرى، وببساطة شديدة، فإن هذه الحكومة تشبه العروس الجلفة التى (يبخرّونها وهي ما تنفك ت...سي، بتشديد السين، أي تصدر غازات نتنة)، وذلك لأنها متخمة وسكرى بنشوة السلطة وبهرجها وزخمها وريعها وقطوفها الدانية. ونسي هؤلاء القوم أنها (ما دوامة...الله هوي الدنيا ما دوامة). والحالة هذه، فهو نظام لا يؤتمن على انتخابات تخوضها معه باقي القوى السياسية لأنه المستفيد الوحيد من ذلك الوضع؛ وهو يحسب أنه دائماً الرابح في سوق الفهلوة والتذاكي وألاعيب الثعالب واللف والدوران والتكتكة السياسية، وسوف يكتسب شرعية أخرى تمدد عمره لما بعد الثلاثة عقود المنصرمة.
وفي أعقاب مقالي السابق عن الإنتخابات، كتب لي صديقي العميد متقاعد معتصم العجب (أبو عمر) مذكرا بأن هؤلاء القوم عبارة عن مافيا متشعبة ومتجذرة، وإذا أردت أن تتفاوض معهم فإنك لن تتوصل للشخص الصحيح فى المكان الصحيح، وسوف يتفلتون من المسؤولية ويتنصلون من أي إتفاق، كما حدث المرة تلو الأخرى منذ مجيئهم عام 1989. ولقد رأيت بأم عيني الكيفية التى تدار بها البلاد خلال الثلاثة أشهر الأخيرة التى قضيتها بالسودان (جيئة وذهاباً من أبوظبي، وتسكعاً بالأروقة، ودردشات ببيوت الأفراح والأتراح)، وتأكدت من أن الإنفراجة التى يتحدث عنها بعض الأصدقاء البريئين إنما هي وهم ونسج خيال وأحلام زلوط. ويقول هؤلاء البريئون إنهم يتكتكون ويخططون لدخول الإنتخابات من داخل أروقة النظام حتى يتعرفوا على تلافيف الديوان الحكومي وأسراره وبطانته، وحتى يتمكنوا من الإحتكاك بجماهيرهم من خلال وضعية مشروعة وعبر أجهزة إعلامية أكثر انفتاحاُ. ولكن أين هذه القوى كأحزاب سياسية؟ لقد تناثرت كحبات مسبحة انفرط عقدها. فليس هنالك حزب في الساحة له نشاط واضح ومعروف سوى الحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني، وهي أحزاب أقلية. أين الحزب الإتحادي الأصل الذي راهن عليه أمثالي باعتباره حزب الحركة الوطنية، حزب الطبقة الوسطي ذا النفوذ الراسخ؟
ليس هنالك شيء إسمه الحزب الإتحادي الأصل. مجرد خيال مآتة. والأحزاب الإتحادية المتوالية المتشظية الأخرى عبارة عن تكئات للمتسولين والمداهنين والمطأطئين بأبواب السلطان. وحزب الأمة فى حالة صدام مستمر مدوخ مع النظام (على الرغم من وجود أبناء الإمام الصادق المهدي بطاقم رئاسة الجمهورية وبأجهزة أمن الدولة)، مما جعله غارقاً فى الدفاع عن نفسه إزاء الإتهامات الجائرة التى يفجرها النظام في وجهه بين الفينة والأخري.....لإبطال مفعوله وشغله بالإجراءات الإحترازية وبضرورات المحافظة على البقاء مثلما يحدث تحت ظل الأنظمة الإستبادية التى تضيق الخناق على المعارضين. فبأي القوى نخوض الإنتخابات القادمة مع النظام الراهن؟ أليست هذه معركة محسومة بالفعل قبل أن ندخل فيها؟ لقد استثمر هذا النظام سذاجتنا وبراءتنا لفترة كافية من الزمن، ولقد آن الأوان لنستفيق قبل أن يضيع الوطن من بين أيدينا. وعلى سبيل الذكرى التى تنفع المؤمنين فإن الخليفة عبد الله كان لا يسمع ولا يرى ...لا بعين البصر ولا البصيرة....حتى دفع بجدودنا الى معركة كررى ليلقوا حتفهم المتوقع كالجرذان أمام الآلة العسكرية الكتشنرية البالغة التقدم والزخم، خاصة بمدفع المكسيم حديث الإختراع، وما كان منه إلا أن انسل كالشعرة من العجين "معرداً" إلى أم دبيكرات لينجو بجلده، ولكن العميد رجنالد ونجت لم يسمح له بذلك ولاحقه حتى ذلك الصقع النائي بغرب النيل الأبيض وأرداه قتيلاً. ما كان الخليفة في أواخر أيامه متعقلا مثل الأمير عثمان دقنة، ولو سمع نصيحته وأحال المواجهة مع جيش كتشنر إلى حرب عصابات بطريقة الإمام المهدي لألحق هزيمة بالجيش الغازي مثل تلك التى ألحقها المهدي بالجنرال هكس باشا وجيشه المؤلف من عشرة آلاف ضابط وجندي تمت إبادتهم عن بكرة أبيهم في شيكان عام 1883.
آخر الكلم:
إذاً، يجب ألا نضيع وقتنا في الجدل السفسطائي حول الإنتخابات، نخوضها أو لا نخوضها. دعنا نكف عن هذا الحديث لستة شهور أخرى، ونبحث في الآليات الأخرى التى يمكن أن تتجمع حولها الحركة الوطنية السودانية للإطاحة بالنظام الراهن. وفي حقيقة الأمر فإنني قد تذكرت قول الشيخ فرح: (ياجات في البعير يا في الأمير يا في الفقير!)، وحسب المعطيات المتوفرة الآن فإن هذا النظام مهدد بالفناء عما قريب، وسوف تتفجر الأوضاع الإقتصادية الكارثية الراهنة في شكل ثورة جياع، مطعمة بالإرث الثوري المحمول في الجينات السودانية من لدن أكتوبر 19064 وأبريل 1885، وسوف تقتلع النظام من جذوره، ومعه كل مفردات الجدل الراهن، ولسوف يفرض الشارع السوداني معطيات جديدة على طريق التقدم والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وطريق الوئام والسلام، بعد التخلص من حكم الهكسوس الحاليين وقذفهم إلى مزبلة التاريخ. فالنظام يعاني من تصدع داخلي مريع لن يصمد أمامه طويلاً: عمر البشير ومعه الجيش والأمن والمليشيات الموازية من جانب، ومجمل الكوادر الإخوانية بالمؤتمر الوطني وبأجهزة الدولة من الجانب الآخر. ويتنازع هذان القطبان بردة السلطة، فالبشير يحتمي بها من محكمة الجنايات الدولية، وفي سبيل ذلك يصر على تعديل الدستور - أو كتابة دستور جديد – بحيث يستطيع أن يترشح للمرة الرابعة لرئاسة الجمهورية؛ ومجمل كوادر الحركة الإسلاموية التى ظلت صاحبة الشأن في حكم البلاد منذ إنقلابهم في 30 يونيو1989 يرفضون ذلك رفضاً باتاً، تلميحاً وتصريحاً. وآخر مظاهر هذا الصراع الإطاحة بالبروفسر غندور، التى في ظني ليست بسبب حديثه عن الأزمة الإقتصادية وأثرها على الأوضاع المعيشية لسفرائه وموظفيه بالخارج، إنما لتصريحه القاطع والواضح بأن حلايب سودانية وسوف لن يتنازل السودان عن سيادتها. ولدي هاجس بأنه قد جاء هاتف منزعج من الجهات الرسمية المصرية متضمناً تهديدات ذكية ومواربة وصارمة في نفس الوقت، (إذ أن السلحفاة تعرف من أين تعض أختها)، وتم التخلص من غندور ثمناً لإرضاء تلك الجهات المصرية. ولقد أخبرني أحد المتنفذين بأن هذه الحكومة تخشي المصريين كما تخشي الغزلان الأسد، ولا تعمل حساباً إلا لتعليمات السفير المصري؛ ويبدو أن الطريق إلى الرياض وأبو ظبي يمر بالقاهرة. وبالإضافة لذلك فإن المخابرات المصرية قد أعدت العدة لتنفيذ الخطة "ب" بعد فشل الخطة "أ" الخاصة بسد النهضة الذى أصبح واقعاً صلباً يستحيل تجاوزه؛ والخطة "ب" هي شغل السودان بنفسه حتى لا يفكر فى الإستفادة من حصته من مياه النيل، بحيث لا يتحقق أي استقرار أو سلام فيه. ولسوف تثبت لكم الأيام صدق هذا التحليلز على كل حال، يرتجف هذا النظام ويهتز على عروشه، وتحركه مخاوف ومهددات وأوهام ليس من بينها قضية التنمية والتقدم الإقتصادي والتحول الإجتماعي، بل كيفية المحافظة على البقاء من يوم لآخر والاستمرار في السلطة مهما كلف. ولقد تصاعدت التكلفة حتى مست لقمة العيش. ويقيني أن هذا النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة. دعونا نصل لتلك المحطة المحتومة الوشيكة، ثم نتحدث بعد ذلك عن الوضع الإنتقالي والإنتخابات القادمة.
أخي، المجد لشعبنا البطل، والنصر للكتل الجائعة، بإذن الملك العلام. والسلام. الفاضل عباس محمد علي Fdil.abbas@gmail.com