انتخابات نقابة أطباء السودان: مُشاهدات صحفية وخواطر وانطباعات “شخصية” وشهادة للتاريخ فى الديمقراطية النقابية

 


 

 

مدار أوّل:
"أنا علي فضل أحمد .. أُسرتي من حي الديوم الشرقية .. ظللت أتعرّض للتعذيب المُتّصل .. وأعتقد أنني شارفت على الموت .. لقد كان ذلك بسبب أفكار وطريق اخترته عن قناعة ولن أتراجع عنه .. وإنني على ثقة بأنّ هناك من سيواصل بعدي على هذا الدرب" ((علي فضل - تاريخ الإعتقال 30 مارس 1990 – تاريخ الإستشهاد 21 أبريل 1990))
مدار ثاني:
"أنا لا أخسر أبداً، فإمّا أن أفوز، أو أتعلّم" ((نيلسون مانديلا))
-1-
أنجز أطباء وطبيبات السودان وعدهم/ ن الحق، فى اِستعادة تكوين نقابتهم/ ن العتيدة والعنيدة، صاحبة وصانعة التاريخ التليد، والماضي والحاضر المجيد، والمستقبل الواعد الأكيد ((نقابة أطباء السودان))، وهوحق – مشروع – كرّسته ورسّخته التجرية النقابية السودانية الوطنية، منذ تاسيس أوّل جسم نقابي لأطباء السودان، نشأ فى العام 1948، تحت الإسم التاريخي ((الجمعية الطبية السودانية))، كما كفلته المواثيق الدولية، التي أصبح السودان طرفاً أصيلاً فيها، بتوقيعه ومصادقته على (اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي)، المعروفة بـ(الاتفاقية رقم 87) ومصادقته عليها فى 2020عام، وايداع صكوك المصادقة فى 26 مارس 2021، وبذلك، يصبح السودان مُلزماً أن يُدخل ويضمن فى تشريعاته وممارساته النقابية، كفالة الحق فى التنظيم النقابي، وفق المعايير الدولية المرعية عالمياً.
-2-
استغرقت رحلة الوصول لإنتخابات النقابة الحالية (مارس 2023)، أربعة أعوامٍ ونيف، سبقتها نضالات جسورة وصبورة ضد نظام الإنقاذ الذي صادر الحق فى التكوين النقابي الحُر والديمقراطي والمستقل، بحظر نشاط النقابات المُنتخبة ديمقراطياً، ومن بينها النقابة الشرعية (نقابة أطباء السودان)، وبلا أدني شك، فإنّ الرحلة لإستعادة النقابة الشرعية، كانت طويلة، وشاقّة، ومحفوفة بالمخاطر والتضحيات، وشكّلت تحدّياً كبيراً للقواعد والقيادات النقابية الطبية، استطاعت فيها بالوعي والمثابرة اتزاع الحقوق، والوصول للهدف المنشود، وتحقيق الانتصار فى أبهي واروع صورة، يُمكن أن تُروى وتُوثّق للأجيال القادمة.
-3-
كان يوم الجمعة 10 مارس الجاري، يوماً استثنائيّاً وفريداً، شهدنا فيه منذ الصباح الباكر، حركة غير اعتيادية، وغير مسبوقة، فى الشوارع والمسارات المؤدية لدار الأطباء بشارع النيل بالخرطوم، إذ هبّت جموع الطبيبات والأطباء وأسرهم/ ن وأصدقاء وصديقات النقابة، وشركاء الهم النقابي من النقابات الأُخري، مثل الصحفيين والمهندسين والمحامين والحرفيين والدراميين والتشكيليين، وغيرهم من حملة صخرة الهم النقابي، لتلبية نداء الواجب، ، فأنتظم الجميع فى أجمل منظر، داخل الخيمة الكبيرة المنصوبة فى فناء الدار، لحضور العرس النقابي الكبير. وإن أنسي، فلن انسي، لحظة دخول الدكتور مامون محمد حسين، أحد أبرز قادة العمل النقابي الطبي والوطني، أرض النقابة "المحررة"، ولحظات استقباله الحافلة بالزغاريد الثورية والتصفيق الحار والهتاف المعبّر "عاش نضال الشعب السوداني .. عاش نضال أطباء السودان"، " وكلمته المعبّرة، ومباركته للعملية الإنتخابية، وكانت فقرة تكريم أُسر الشهداء، لحظات وفاءٍ عظيمة، امتزجت فيها دموع الفرح، بدموع الحزن، وكان الهتاف الديسمبري العظيم، يشق عنان السماء " شُهدانا ما ماتو .. عايشين مع الثوار.. المات ضمير خاين حالفين نجيب التار"!.
-4-
هذا الإنتصار النقابي العظيم، يجيء تتويجاً لنضالات شرسة ومُستدامة، خاضتها – ومازالت تخوضها - الأجيال النقابية المختلفة، فى ((نقابة أطباء السودان)) فى سبيل انتزاع الحق فى التنظيم النقابي، وفى الدفاع عن الحقوق النقابية، والحق الوطني العام، مقدّمةً فيه الغالي والنفيس، منذ أن صعدت روح الشهيد البطل النقابي الطبيب الإنسان (علي فضل)، وهو يدافع عن قضايا المهنة والوطن والتقدُّم الإجتماعي، ومن تبعه – بإحسان - فى طريق الشهادة، من رتل شهداء مهنة الطب، والعمل النقابي، والحقل الطبّي الولود، كما فى غيره، عبر سنواتٍ طوال من النضال الصبور، والتضحيات الجِسام، للحركة النقابية السودانية، فلهم أجمعين الرحمة والمغفرة، ولإرثهم العظيم، كل الاحترام والتقدير.
-5-
هيّأت لي الاقدار أن أكون ضمن آخرين وأُخريات فى فريق المراقبين والمراقبات، لإنتخابات (نقابة أطباء السودان) التي جرت بدار الأطباء بالخرطوم، يومي ( 10 و11 مارس 2023)، ولهذا أجد من الضروري، أن أُكتب وأُسجّل بعض مشاهد من مُشاهداتي وشهادتي للتاريخ من منصّة المراقبة، وملخّصها أنّ انتخابات (النقابة) شكّلت نموذجاً يُحتذي به فى نزاهتها وديمقراطيتها وشفافيتها، وقد جاءت مُبرّاةً من كل عيب يقدح فى مصداقيتها، لنشهد ميلاد نقابةٍ قويّة، جاءت بعد مخاضٍ عسير، عاشته القواعد النقابية لسنواتٍ وعقود، وتجهيزات وترتيبات محكمة، سعت لها، وجعلتها ممكنة، القيادات النقابية التي تحمّلت عبء ردّ الأمانة إلى أهلها، وعلى وجه الخصوص مكتب الأطباء الموحّد، المُكوّن من ثلاثة أجسام، هم : (لجنة أطباء السودان المركزية) و(لجنة الاستشاريين والاختصاصيين) و(نقابة أطباء السودان الشرعية) باإضافة ألى (لجنة أطباء الإمتياز)، واللجنة الانتخابية المكوّنة من هذه الفصائل النقابية الجسورة، (اللجنة المركزية العليا للإنتخابات)، التي عملت بصبرٍ جميل، تنفيذاً لرغبة وإرادة القواعد الطبية من كل الأجيال – القديمة والمعاصرة والجديدة – المنتشرة فى كل بقاع السودان، كما فى خارجه فى كل أصقاع (الدياسبورا) القريبة والبعيدة والممتدة فى كل قارات العالم، للوصول لإنتخابات ديمقراطية، تفتح الطريق لتكوين نقابي سليم ومعافى، وهذا هو المطللوب.
-6-
بإنتخاب اللجنة التمهيدية، لـ(نقابة أطباء السودان) والذى وضع حجر الاساس الصلب فى التكوين النقابي، يبقي على الأجيال الجديدة من الطبيبات والأطباء - وعلينا أجمعين – المحافظة على هذا الإرث الخالد والجبّار، الذي وضع لبناته الأولي (جيل التاسيس) فى عام 1947 - 1948، و(جيل البطولات) بعد انتصار ثورة أكتوبر 1964 الظافرة، و(جيل التضحيات) بعد انتفاضة مارس/ أبريل 1985 المجيدة، لتعود النقابة التى حظرها انقلاب انقلاب 30 يونيو 1989، ويبقي أن يمضي (الجيل الراكب رأس) جيل ثورة ديسمبر 2018، لحمل أمانة "الترس" النقابي، والسير بها للأمام، وعلينا نمضى – أجمعين - باستقامة ونُكران ذات، وبذات الثبات والمبدئية والجسارة، فى ذات الطريق الذي اختاروه، وهو طريق صعب كما قال الشاعر: "طريقنا أنت تدري.. صعبٌ وشوكٌ عسير..والموت على جانبيه ..لكنّنا سنسير" !.
-7-
هاهي نقابة أطباء السودان، تعود بوسمها الأصيل، ورسمها الجميل – كما كانت - أنضر وأكثر وسامة بعد ثلاثة عقودٍ ونيف، قضتها فى النضال الجسور والصبور، للوصول للهدف المنشود، وهو استعادة الحق فى التنظيم النقابي الحُر والديمقراطي والمستقل، منذ أن (صادر) هذا الحق المشروع، والمكفول – عالمياً - إنقلاب 30 يونيو 1989 المشؤوم، بحظر نشاطها القانوني، ضمن كوكبة أُخري من النقابات المهنية والفئوية، حظراً تعسُّفيّاً – لن أقول "حلّها" - لأنّ التنظيمات الديمقراطية، لا يمكن أن "يحلّها" أيّ من كان، سوي جمعيتها العمومية التي أنشاتها، وكوّنتها، فيما من الممكن والمحتمل "حظرها" بالقانون، أو بغير القانون "بلطجة"، كما فعل إنقلاب الإنقاذ من اجراءات تعسفية، بعيداً عن الرقابة القضائية المعروفة.
-8-
فى يوم عيد انتخابات نقابة الأطباء التقيت بأطباء وطبيبات وقادة نقابيين وقائدات نقابيات، من تلك الأجيال المعتقة، واستعدنا ذكريات وقفات وجلسات وحوارات وأخبار وتقارير وتحقيقات صحفية من تلك الأيّام، فعادت بي، وأعادتني انتخابات نقابة أطباء السودان (مارس 2023) إلى ذكريات وأيّام مشهودة فى الديمقراطية الثالثة (1985- 1989)، يومها كانت دار الأطباء منارة نقابية سامقة، وكانت دار الأطباء وجهتنا الاولي، كصحفيين شباب، وصحفيات شابات، حيث كُنّا نحضر بصورة منتظمة وشبه يومية، لنلتقي بقيادة النقابة، نسأل عن القضايا الشائكة فى الشأن الصحي والنقابي والوطني، وعن رؤية النقابة فيها، ومقترحاتها لمعالجتها، ونعود لمؤسساتنا الصحفية، ونحن مُزّودين بمعارف علمية تساعدنا فى فهم السياقات التي قيلت فيها، وبأخبار وتقارير صحفية وفيرة وكثيرة، إذ كان يوم اجتماع اللجنة المركزية للنقابة، يوماً استثنائيّاً، نحضر فيه للنقابة من الصباح الباكر، نتابع – من قُرب - المداولات و(الماجري) بلغة الصحافة، وما يدور فى الكواليس، بإهتمام.
-9-
فى تلك الأيّام، كثيراً ما كُنّا ننتظر خروج بعض القيادات النقابية، فى استراحة الغداء، أو فى غيرها، نسال عن سير الإجتماع، وعن التوقُّعات، والسيناريوهات المتوقعة، وقد أصبح بعض من قيادات النقابة أصدقاء وصديقات و"عُشرة عُمُر" و "مِلح ومُلاح" أكثر من كونهم/ ن مجرّد "مصادر صحفية" عابرة، فنحصل منهم/ ن على ما هو صالح "للنشر"، وما لـ(ليس للنشر)، وهو عرف صحفي معلوم، يُلزم الصحفيين والصحفيات، والصحافة كمهنة مهمتها الأولي والاخيرة البحث عن الحقيقة، ولن يتأتّي ذلك، دون احترام رغبة المصادر الصحفية، فى الكشف عن هويّة المصادر، أو عدم الكشف عنها، وهذا مبدأٌ من أهمّ مباديء وأخلاقيات مهنة الصحافة، وقد تعلّمنا هذه القيم الرفيعة والتعاليم الراسخة من أساتذتنا وأستاذاتنا الأوائل، ونامل أن تُحافظ الاجيال الجديدة من الصحفيين والصحفيات، على هذا الإرث فى التعامل مع المصادر الصحفية.
-10-
أقول هذا وفى البال نضالات نقابات (أطباء السودان) فى المهاجر "الدياسبورا"، وفرعيات ونقابات وجمعيات المنافي القريبة والبعيدة، وهي نضالات وتجارب نقابية، تستحق التوثيق، وآمل أن نوفّق فى مقبل الأيّام، للتعرُّض لهذه التجارب العظيمة التي امتدّت لعقودٍ فى كل بقاع العالم، فالشاهد أنّ لكل طبيبات وأطباء السودان، تجارب ملهمة فى كل قارات العالم، وسيأتي يوم توثيق تجارب نقابات "الخارج"، وربط ذلك، بنضالات "الداخل"، وهذا حديث يطول، ويبقي دوماً للحديث عن النقابات بقيّة، إن أمدّ الله فى الآجال !.
-11-
نختم بالقول إنّ انتخابات ((نقابة أطباء السودان)) التي تحقّقت فى مارس 2023، انتخابات لجنتها التمهيدية، والتي شكّلت إضافة حقيقية ونقلة نوعية فى طريق استعادة الحق فى التكوين النقابي الحر والمستقل والديمقراطي، الذي كانت (نقابة الصحفيين السودانيين)، قد وضعت لبنته الأولي، فى رحلة طويلة، كما نذكر نضالات أساتذة جامعة الخرطوم، والدراميين الذين نجحوا فى تكوين نقاباتهم، وهناك فى الطريق، مجهودات استعادة الحق فى تكوين نقابة المهندسين ونقابة أو نقابات المعلّمين وغيرهم – ولو بعد حين – ويبقي أنّ "الثورة" فعلاً "نقابة ولجنة حي"، والطريق طويل، ولكن، لا بُدّ من "صنعاء النقابات، وإن طال السفر" !.
جرس قبل الأخير:
"شان بُنيانك يبقي الأكمل .. حيلك شد فى بُنا فرعيتك .. خُت مُدماك فى صرح نقابتك .. تزيد شرعية على شرعيتك" ((د. طلال دفع الله))
جرس أخير:
"حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي .. وطن شامخ ..وطن عاتي .. وطن خيّر ديمقراطي ..وطن مالك زمام أمرو .. ومتوهّج لهب جمرو" ((محجوب شريف))

فيصل الباقر
faisal.elbagir@gmail.com

 

آراء