انعكاسات التطورات الأخيرة في السودان، هزيمة (الجيش)، وضعف القوى المدنية

 


 

 

Arizona State University
Souad.Ali@asu.edu
التطورات العسكرية الأخيرة في السودان متمثلة في إستيلاء قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني ومدن أخرى في ولاية الجزيرة تثير الكثير من القلق في العديد من الأوساط المحلية، الإقيلمية، والدولية. لعل أبرز التساؤلات التي رشحت عقب هذا التطور المفاجيء في الشأن السوداني هو الهزيمة التي طالت الجيش السوداني الذي كان يبدو مسيطراً على الجزيرة حتى اللحظات الأخيرة. وقد أثارت خسارة الجيش تساؤلات حول مستقبل الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي أنقلب على شرعية ثورة ديسمبر المجيدة في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 وعيّن نفسه رئيساً لمجلس سيادة فاقد الشرعية الدستورية هو الأخر. وبحسب صحيفة النيويورك تايمز، "يقول المحللون إن ذلك يزيد أيضًا من خطر احتمال جر الدول المجاورة إلى الحرب، وأن القوى الأجنبية، مثل الإمارات العربية المتحدة، المتهمة بالفعل بتأجيج الحرب، ستتدخل بشكل أكبر." ورغم أن تدخل الإمارات العربية المتحدة المباشر ربما يكون مستبعداً على الأقل في الوقت الحالي، تبقى الحقيقة أن إنقضاض قوى الدعم السريع على مدينة ود مدني بسهولة مذهلة، وانسحاب الجيش بصورة أكثر دهشة، قد أثار الكثير من ردود الأفعال نستعرض هنا جزءاً منها. كما سنلقي الضوء على أين يقع السودان الجريح في خضم ضعف القوى السياسية المدنية. ولنبدأ أولاً باستعراض بعض ردود الأفعال العسكرية على الوضع الراهن.
فقد بادر علي كرتي الأمين العام لما يسمى بالحركة (الإسلامية) بتسجيل بيان صوتي وجهه للشعب السوداني، بتركيز على القوات المسلّحة مستنفراً إياهم أن يهبوا في خطاب يعكس الكثير من التوجس والخوف، حيث قال:
إن الفرص لا تتكرر. وأن إلتفاف الشعب حولكم رهين بمواقفكم معه في لحظات المحن والإبتلاء." مستطرداً:”
"خاطبوا الشعب بالحقائق، لا تتركوه نهباً للشائعات، ومكائد المتمردين، الذين يستهدفون إضعاف ثقة الشعب فيكم، لينفض من حولكم
وأعلموا أن استجابة المستنفرين الذين رغبوا طواعية في مشاركتكم أداء الواجب بحماية أرضهم وعِرضهم؛ ستكون شاهدة لكم أو عليكم في سِفر التاريخ. فأكرموا وفادتهم، وعجّلوا تسليحهم وأحسنوا تأهيلهم وقيادتهم، ليعود المستضعفون لديارهم، ولترتفع رايات النصر في سارية السودان شامخة عزيزة."
ولعل في بيان علي كرتي الرد الدامغ على محاولات الحركات (الإسلامية) وأعوانهم نفي أن الجيش هو جيش (كيزان). وفي حقيقة الأمر لعله من المدهش والمستغرب جداً محاولات النفي هذه الواهية بل الفاشلة في هذا الإطار بينما كل الدلائل تشير توثيقاً أن أحد شروط الدخول للكلية الحربية منذ إنقلاب عمر البشير في 30 يونيو 1989 كان الإنتماء للحركة (الإسلامية).
في صعيدْ آخر ققد أصدر محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد الدعم السريع بياناً أوضح فيه موقف الدعم السريع وما دفع قواته للتحرك صوب والإستيلاء على مدينة ود مدني مستعرضاً بفخر أنه:
"في يوم عظيم وخالد، صادف ذكرى انفجار ثورة ديسمبر المجيدة عام 2019، تمكنت قواتنا الباسلة، في انتصار تاريخي جديد، من تحرير قيادة الفرقة الأولى مشاة ومدينة مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، من فلول النظام المباد." وأضاف شارحاً أن قوات الدعم السريع قد قررت:
"التحرك صوب مقر الفرقة الأولى مشاة بناء على معلومات استخباراتية دقيقة، أكدت حشد قيادة القوات المسلحة بالتنسيق مع قادة النظام القديم قوة من عشرات الآلاف من المقاتلين لمهاجمة قوات الدعم السريع في الخرطوم. وعندما بات ذلك الهجوم وفقاً لمعلوماتنا المؤكدة وشيكاً، مارسنا حقنا المشروع في القيام بهجمات استباقية، نجحنا بها في توسيع رقعة الأراضي المحررة من سيطرة الفلول وأنصار النظام القديم."
ولم يألو دقلو جهداً في محاولة تطمين أهل مدني والجزيرة أن قواته ستوفر لهم الأمان وهو يستطرد أن:
"المدنيين في كل ولاية الجزيرة سيظلون في أمن وسلام وأمان، وقوات الدعم السريع سوف توفر الحماية لجميع المواطنين وأموالهم وأعراضهم. وعلى الذين غادروا المدينة خوفاً من المواجهات بيننا وبين الفلول العودة آمنين في منازلهم. فدخول قوات الدعم السريع إلى مدينة مدني هدفه هو ضرب الفلول والمستنفرين، الذين سوف نطاردهم أينما وجدوا."
ورغم محاولة التطمين هذه فإن مجموعات كبيرة من مواطني ود مدني يشعرون بعدم الأمان ويعانون من حالات إحباط وأكتئاب بعد أن نزوحوا لود مدني من الخرطوم والمناطق التي إندلعت فيها الحرب منذ الخامس عشر من أبريل هذا العام بحسب أنها من المناطق الأمنة. وها هم الأن يواجَهون بما يبدو إنتقال الحرب لإقليمهم والنزوح مجدداً. ويبدو هذا القلق واضحاً من تصريحات العديد من أفراد الأسر في رسائلهم الخاصة أو العامة.
وحسب تقارير الأمم المتحدة فإن أكثر من 250 ألف من المواطنيين السودانيين قد فروا من ود مدني في غضون الأيام الأخيرة، منهم، المرضى والجياع، والمسنين والنساء والأطفال الذين اضطروا لمغادرة المدينة سيرًا على الأقدام وساروا لساعات طوال إلى الولايات المجاورة وقد شوهدوا بالفعل وهم يجرون حقائبهم ومحنوياتهم وأواعيهم ومفارشهم وبعض أمتعتهم مما استطاعوا حمله.
وسط هذه الأجواء المتفاقمة فقد حذرت مفوضبة الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين الخميس 21 ديسمبر حذرت من موجة نزوح بسبب القتال في مدينة ود مدني عاصمة ولاية النيل الأزرق. يأتي هذا إستناداً على تقارير وصور تعكس أن آلالف إضطروا إلى الفرارمن ود مدني إلى مدن مجاورة منها سنار والحصاحيصا وغيرها. إضافة إلى أن بعضهم ظل ينزح للمرة الثانية أو الثالثة خلال أشهر منذ بداية الحرب في أبريل الماضي.
المنظمة الدولية للهجرة كانت قد ذكرت في بيان لها إلى أن نحو ثلاثمائة ألف مواطن هربوا من ود مدني في عاقبة إندلاع القتال بين الدعم السريع والجيش منذ الثامن عشر من ديسمبر ما أدى إلى أزمة إنسانية وخيمة، كما نوهت المنظمة الدولية للهجرة الخميس.
كما توالت تحذيرات وتقارير منظمات حقوق الإنسان والطفولة للوضع الإنساني المزري. فقد ذكرت منظمة اليونيسيف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) أن نحو 150 ألف طفل نزحوا بسبب القتال من ولاية الجزيرة. وعبر صفحتها في منصة (إكس) أضافت اليونيسيف أن مدينة ود مدني هي "المركز الرئيسي لخدمات إنقاذ الحياة" بولاية الجزيرة التي "تضم حوالي 3 ملايين طفل" كما دعت المنظمة كل الأطراف إلى وقف القتال الفوري لتجنب المزيد من الأزمات الإنسانية. بل أن ود مدني أصبحت المدينة الطبية بعد أن نزح العديد من الأطباء بمعداتهم ومعاملهم من الخرطوم إلى ود مدني. وقد تكبدت العديد من الأسر مشاق السفر لإجراء الكثير من العمليات الجراحية لأفراد أسرهم مؤخراً في ود مدني لوجود تخصصات الجراحة في بعض المجالات الطبية في المدينة.
ويتواصل تضارب التقارير من الجيش والدعم السريع، فبينما أعلن الجيش فتح تحقيق حول أسباب إنسحاب وحداته من ود مدني، يطل البرهان برأسه مواصلاً أكاذيب المنظومة العسكرية، أن "الجيش متماسك ويحافظ على أمن البلاد"! بينما تتوالى الأخبارعلى الأرض أن الدعم السريع يواصل القتال، فقد أعلن عن سيطرته على لواء الجيش في القطينة كما يعلن "السيطرة على اللواء الثاني بمدينة الحصاحيصا واضعاً إرتكازات ويستولى على "المقار العسكرية دون أي مقاومة."
جديرٌ بالذكر أن اللواء الركن أحمد الطيب، قائد الفرقة الأولى مشاة، المنسحبة من مدينة ود مدني كان قد أصدر بياناً كشف فيه "أن الإنسحاب تم بعد كشف مخطط شرير لإشعال نزاع عرقي في المنطقة، يتم تنفيذه بواسطة ميليشيات متطرفة تتبع للأمين العام ل (الحركة الإسلامية) علي كرتي، مما جعل الإنسحاب ضرورياً للحفاظ على وحدة المجتمع وضمان إستقرار المنطقة."
ورغم أن هذا ربما ينم عن مؤشر خطير في العلاقة بين قادة الفرقة الأولى مشاة وقيادة الجيش من الإسلامويين، إلا أن الإنسحاب قد يشير أيضاً لإتفاق وراء الكواليس بين الفرقة والدعم السريع مما يفسّر ولوج الدعم السريع لمدينة ود مدني بمنتهى السهولة دون أي مقاومة بعد إنسحاب الجيش الذي بدأ تكتيكياً. هذا ربما يؤكده أيضاَ تصريحات اللواء أحمد الطبب لاحقاً، أن إنسحابه جاء في إطار "إلتزامه الدائم بحماية المدنيين والتصدي لأي تهديد يشكل خطراً على إستقرار المنطقة." كذلك مضى الطيب محذرا مما أسماه "أوامر كاذبة وعمليات تضليل مكثفة" يشيعها ما أسماه "عناصر تابعة للإستخبارات وبعض الإسلاميين لضرب العلاقة بين المدنيين والقوات العسكرية."
وفي سياق شبه الغياب المباشر للمنظومة السياسية المدنية السودانية، أود أن أشير الى ما ذكره الدكتور عبدالله حمدوك، رئيس وزراء الفترة الإنتقالية الموؤودة. حيث جاء فيما أعلنته تنسيقية القوى المدنية السودانية "تقدم” برئاسته عن بدء اتصالات بين طرفي الصراع في البلاد لإنهاء الحرب. وجاء في التصريح أن التنسيقية دعت "في بيان الأربعاء، عقب اجتماع في نيروبي إلى العودة العاجلة للتفاوض عبر منبر جدة والاستجابة لمقترح قادة دول “إيغاد” بعقد لقاء مباشر بين قائدي الجيش والدعم السريع." في هذا الإطار قد يكون من المفيد الإشارة إلى ما جاء في مقال الدكتور سلمان محمد سلمان بتاريخ 21 ديسبمر حول تحليله الضافي وإلقاءه الضوء على البيان الختامي لقمة الإيقاد عن السودان المنعقدة في جيبوتي في التاسع من ديسبمر 2023، ودعوته الإلتفاف حول مققرات قمة الإيقاد.
في نهاية الأمر، تبقى الحقائق التي يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار حقائق لا لبس فيها، وتشمل: أولاً أن عبدالفتاح البرهان ومجلس سيادته غير شرعيين ومنقلبيين في 25 أكتوبر 2021 على ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بدكتاتورية (اللاإنقاذ) العسكرية بعد ثلاثين عاماً ونيف في ديسمبر 2018. وثانياً: حقيقة أن محمد حمدان دقلو (حميدتي)، غير الشرعي هو الأخر، جزء لا يتجزأ من كل التأمر الذي أرتكبه البرهان على ثورة ديسمبر وكلاهما أمراء حرب مشتركان في جرائم الفساد، وفي إرتكاب المجازر الجماعية وحرق القرى في دارفور وجرائم في أنحاء أخرى من البلاد ومجزرة الإعتصام في الخرطوم والقتل الممنهج لسنوات ممتدة وموثّقة. ثالثاً: أن عبدالله حمدوك، رغم ما قدم مما قد اعتبره البعض أيجابياً كرئيس وزراء في فترته الأولى خاصة جهده في مؤتمر باريس الإقتصادي، قد فشل كرئيس وزراء إنتقالي، ليس هذا فحسب، بل قد إشترك للأسف هو الأخر في إنقلاب البرهان 2021 على الثورة بمباركته، قبل إستقالته، خطوة البرهان الدكتاتورية التي وأدت الثورة. تجدر الإشارة لمقال د. محمد محمود الطيب، "في تقييم التقييم للبرنامج الإقتصادي لحكومة الفترة الإنتقالية،" الذي حلل فيه بالنقد البناء الأوراق التي قُدّمت في ندوة "ورش تقييم أداء الفترة الإنتقالية" الذي إنعقد في الخرطوم في يوليو 2022 والذي شمل عدة محاور تشمل محور السلام، محور الوثيقة الدستورية، محور الإقتصاد، محور الترتيبات الأمنية، ومحور العلاقات الخارجية.
خلاصة القول، عوداً للإيقاد: مهما كانت مخرجات قمة الإيقاد فإنها تظل فضفاضة كما سأورد أدناه. ولكن قبل ذلك، فإن عدم توحد رؤى قوى الثورة والقوى السياسية المدنية ستظل العقبة الرئيسية في الوصول لأي خطوات جادة نحو ارساء دعائم فترة انتقالية مدنية خالصة ذات مؤتمر تشريعي وسلطة تنفيذية تعنى بفتح كل ملفات الإجرام، الفساد، والمحاسبة. ثم تبدأ في السعي للتحضير لانتخابات حرة نزيهة نحو سودان ديمقراطي يحقق شعارات ثورة ديسمبر المجيدة وما تشمل من الحرية، السلام، والعدالةـ في هذا الإطار فإن مقررات قمة الإيقاد التي ربما تشكّل نقطة البداية التي ظل الشعب السوداني يطالب بها لسنين، فإنها تظل فضفاضة لعدم تقديم رؤية مفصّلة لكلْ منها: أولاً ما هي آلية "وقف شامل لإطلاق النار دون شروط مسبقة"؟ وهو ما فشلت فيه مفاوضات جدة لشهور. ثانياً: كيف يتم "إرساء حكم مدني في خضم الخلافات العميقة بين القوى السياسية، الثورية، المدنية؟ ثالثاً: إنعكاساً على ذلك ما هي آلية "حل النزاعات عن طريق الحوار السياسي، بينما فشلت قمة الإيقاد فشلاً ذريعاً في دعوة القوى المدنية والسياسية لمؤتمرها الأخير؟ وهذه نقطة مزعجة لدرجة بالغة حيث إن المكون المدني السياسي ظل مهملاً تماماً من كل جهات التفاوض، عدا شذرات هنا وهناك لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد أوصلت هذا القلق لجهات عديدة في كثير من المؤتمرات والندوات الإسفيرية وبعض قنوات التفاوض. ولكن لا حياة لمن تنادي، كان ذلك من المفاوضين أنفسهم، أو عدم إتفاق المنظومة السياسية المدنية في كل مبادراتها، أو حتى الثورية. ثم رابعاً، وهو الأدهى والأمرّ في مقررات الإيقاد فيما يتعلق بعقد لقاء مباشر بين المتحاربين، البرهان ودقلو المنقلبان على ثورة ديسمبر. وفي هذا لا أملك إلا أن أقول، إنا لله وإنا إليه راجعون عندما يكون حوار المفاوضات مع المجرمين وأربابهم، من دمروا السودان، أشعلوا هذه الحرب اللعينة التي كادت أن تقضي على الأخضر واليابس في الوطن الجريح. في غياب حوارجامع، برعاية دولية، يشمل كل المكونات السياسية المدنية والثورية السودانية، بعد توحد الحد الأدني من رؤاها، لن تؤدي أي مفاوضات أو مقررات نظرية إلى طموحات الشعب السوداني الذي بذل الدم، الأرواح، والغالي والنفيس في سبيل إنهاء الحكم العسكري إلى الأبد في السودان نحو السلام الدائم وقيام فترة إنتقالية تقود البلاد إلى إنتخابات حرة نزيهة ترسي دعائم دولة سودانية مدنية ديمقراطية.

د. سعاد تاج السر علي الشيخ
22 ديسمبر 2023

 

آراء