انقشاع الغمّة وانبلاج الفجر 

 


 

 

          يسطّر شعبنا أنصع وأجمل الصفحات في كتاب التاريخ هذه الأيام، عبر حراكه العبقري المكمل والمتمم لثورة ديسمبر 2018 العملاقة. وتقف شعوب العالم مذهولة أمام هذه السيمفونيات التي يعزفها شباب وكنداكات السودان في عرض الشارع أمام آلة القمع الوحشية البرهانية الحميدتيه الجبريلية. وينام شعبنا ملء جفونه عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم.  وتتراكض وفود (الجودية) جيئة وذهاباً بين القصر الجمهوري ودهاليز العاصمة المثلثة وحواريها حيث لجان المقاومة والتجمع المهني – ومنها من مثله مثل الكلب الذي ينبح حرصاً علي ذيله، ومنها من استشعر قوة الشارع السوداني الذي أصبح علي وشك الإطاحة بدكتاتورية الثلاثي القمئ، فهرع يتملق ويداهن ويسعي لحظوة لدي (سدنة) النظام الثوري الذي لا محالة قادم للسلطة، ومنها من يود أن يكفر عن ذنبه حيث كان داعماً للدكتاتورية التي أناخت علي الخرطوم منذ 25 أكتوبر، غير آبه برغبة الشعب في الحكم المدني الديمقراطي – بل مستنكفاً ومعادياً لتلك الرغبة التي تنطوي فيما تنطوي علي فتح صندوق الباندورا الذي ستنفلت منه شعوبهم المقهورة، مطالبة بالحرية بعد عشرات بل مئات  من سنوات الحكم الأوليقاركي الأسري الإقطاعي الوراثي الاستبدادي الخانق، أو الحكم العسكري التوتاليتاري، ومنها من ينفذ تعليمات المخاابرات المركزية الأمريكيه، ومن يميل حيث تميل الإمبريالية الغربية والسافاك,

         هذا، ولقد تبلورت مبادرة تبناها ممثل الأمم المتحدة بالسودان، نظرت فيما تم طرحه من مبادرات، محاولة أن ترضي جميع الأطراف وأن توفق بين كل المبادرات، علها توقف هذا المد الجماهيري السرمدي upward swerve بشوارع السودان. ولكن تلك المبادرة ماتت أثناء الولادة.  وحتي آخر لحظة، أثناء حراك التاسع من يناير، ما زالت لجان المقاومه وتجمع المهنيين – القوي الحية التي يصغي لها الشارع - يرفضان أي حوار يشترك فيه المكون العسكري، فهم يطالبون برحيله lock, stock and barrel أولاً، ثم تجيء مرحلة التفاكر حول نوع وشكل البديل المدني الثوري الذي يسمح له الشارع بتسيد الموقف من الآن فصاعداً. ويقيني أن هذا السناريو هو صاحب القدح المعلي في نهاية  اليوم، وقبل المليونيات الأخري المبرمجة لما تبقي من شهر يناير الجاري.

         ومن نافلة القول أنه سيكون عصياً علي القوي الرجعية المحلية والإقليمية المستنصرة بالكيان الصهيوني أن تستسيغ سوداناً بلا هيمنة عسكرية، وهي مرض مستوطن بالشرق الأوسط منذ انقلاب الضباط المصريين علي حكومتهم في 23 يوليو 1952. ولولا الربيع العربي الذي اجتاح المنطقة منذ بداية عام 2011 معلناً يقظة شعوب المنطقة وقيامها من نومة أهل الكهف، وتطلعها للحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتحول الاجتماعي والتقدم الاقتصادي، ومن بعده ثورة ديسمبر الماثلة أمامنا، لظن الكثيرون أن النظام الدكتاتوري العسكري فرض عين لا مفر منه. وما يفعله الشعب السوداني اليوم، ليس فقط الرفض والثورة علي نظام عسكري استبدادي، إنما طرح نوعي حضاري متكامل، عنوانه الشعار الكبسولة: حريه سلام وعداله، مدنية خيار الشعب، و....الثورة خيار الشعب. ومدنية تعني الاستبعاد التام للمكون العسكري من دست الحكم، بجيشه وجنجويده ومليشاته الحاملة للسلاح، ليتفرغ كجسم موحد ذي عقيدة قتالية واحدة للدفاع عن الوطن كما تفعل الجيوش في الدول الديمقراطية المتحضرة؛ واالثورة تعني تحقيق هذه الشعارات بسرعة وهمة ودون تلكؤ، وبعنفوان وحسم ثوري، وليس بالإجراءات البروقراطية السلحفائية الملساء التي برع فيها أرابيب النظام الإسلاموي الآفل وسدنته المتمكنين من أجهزة الدولة كافة. وهذا الطرح الثوري يعني اقتلاع النظام الإخواني من جذوره، واحلال الدولة المدنية الديمقراطية في مكانه.

         بيد أن طريق الثورة الراديكالية دائمًاً محفوف بالمخاطر والصراعات البينية، وباستيلاد مراكز القوي المتشاكسة، كما حدث في أم الثورات قاطبة – الثورة الفرنسية في 1789م، التي لم يستقر أمرها إلا بعد عشر سنوات علي يد نابليون بونا بارت الذي جعل من نفسه امبرطورا ووضع دستوراً لفرنسا مستنوحي من ثورتها ذات الشعار الثلاثي:

(حرية وإخاء ومساواة Liberty, Fraternity and Equality)

         ولقد تعثرت كذلك الثورة البلشفية العظمي 1917 التي أطاحت بالقيصر الروسي وطبقة الإقطاعيين، ونقلت الحكم للطبقة العاملة presumably، إذ تسيد المشهد المثقفون الشيوعيون المتحدثون باسم تلك الطبقة وحلفائها الفلاحين، وهم فلاديمير لينين وجوزيف ستالين وليو تروتسكي ورفاقهم، وتقزم دور السوفيتات (الشبيهه بلجان المقاومه عندنا اليوم) بعد الثورة مباشرة، وتربع الحزب الشيوعي علي سنام السلطة بالكرملين، منفرداً بها وقالبا ظهر المجن للجان السوفيتات الثوريه التي تقاسمت عبء النضال معه منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ وكان ذلك خللاً مركزياً صاحب النظام الجديد منذ ميلاده، ودفع ثمنه الباهظ بعد ما يقرب من القرن عندما انهار الاتحاد السوفيتي العظيم في ديسمبر 1991. وكان ذلك درساً بليغاً للثورات الشعبية التي تنجزها جبهات تحالفية من قوي متعددة ومتباينه يجمعها العداء للنظام الآفل والحلم بمجتمع جديد عادل، أن تتمسك بالمواثيق والتحالفات مع أصدقاء الخندق المشترك ولاتنقلب عليهم بعد أن تستطعم لذة السلطه.

           ومن حسن طالع ثورتنا السودانية أن كوادرها يسترشدون في عقلهم الباطن الجمعي بتجارب الشعوب المغلوبة علي أمرها، من النوع الذي ذكرناه، وبخلاصة الفكر الإنساني الذي تسلسل منذ فلاسفة التنوير – مونتسكيو وفولتير وجون لوك وجان جاك روسو، والأباء المؤسسين للولايات المتحدة قادة ثورتها ضد الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر - ثم بقادة ومفكري حركات التحرر ضد الاستعمار والعنصرية طوال القرن المنصرم – فرانتس فانون والمهاتما غاندي ونهرو ونلسون مانديلا ودزموند تيتو والدكتور اوغستينو نيتو واملكار كابرال والكماندر سامورا ميشيل وماو تسي تونج وهو تشي منه والجنرال قياب واحمد سوكارنو والدكتور جون قرنق دي مابيور. كما يسترشدون بتاريخ النضال الثوري السوداني منذ الثورة المهدية بقيادة الإمام محمد احمد 1881م،  وثورة 1924 بقيادة علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ، ومجمل تاريخ الحركة الوطنية منذ الحرب العالمية الثانية، ونضالات الحركة النقابية منذ مطلع القرن العشرين حتي سدد لها النميري ضربة قاضية علي إثر حركة 19 يوليو 1971، ثم جاء نظام البشير الإخوان الفاشي ليقضي علي ما تبقي منها، ويضع علي رأسها طبيب أسنان من عتاة كوادرهم الذي شوه الحركة النقابية وجعل منها ظلا باهتا لنظامهم اللصوصي القمعي الآحادي، الذي جعل من السودان كله حديقة خلفية لأطماع الإخوان المسلمين وكفلائهم الأجانب الطامعين دوماً في موارد السودان والذين تتحلب أشداقهم كلما ذكرت أراضي السودان البور المترامية الأطراف.

          وهنالك أدلة واضحة علي أن ثوار اليوم مسلحون بكل هذا الإرث النضالي والمعرفي المحلي والعالمي، إذ أنهم أجادوا تنظيم الحراك من الألف للياء، ولم يتركوا شاردة أو واردة إلا أعدوا لها العدة؛ وتراهم يطورون العمل الثوري ولوجستياته يوماً بعد يوم، مستفيدين من هنات الخصم ومعطيات التكنولوجيا الحديثة. وتراهم يجيدون الاختفاء والعمل السري بصورة تدهش الكوادر الشيوعية المعتقة، وتراهم يطبقون تعاليم كتاب الثورة السلمية مثل مارتن لوثر كنق وقادة الانتفاضة اليوغسلاغية 1990 بصورة حاذقة وخلاقة. ومن فرط تجويدهم للعمل السري أخذ معلقوا البرهان متوسطوا الذكاء يدعون أن الحركة الشبابية التي تنطلق في الشوارع تنقصها القيادة. بالله عليكم أيها (المحللون الاستراتيجيون) التنابلة، هل يكشفون لكم قادتهم لتزجوا بهم في سجونكم التي فاضت بالثوار  الذين يلتقطهم العسس بشكل عشوائي من الطرقات؟ ولو كان لديكم ذرة من عقل، من الذي ينظم هذه المواكب الضخمة، بتوقيت خواجاتي، وبانضباط منقطع النظير؟ من الذي يصدر الجداول التي يتم اتباعها في مدن السودان وقراه كافة بحرص ودقة ونجاعه؟ ومن الذي ينظم عمليات الكر والفر التي تستمر لأكثر من ست ساعات في كل مرة؟ هذه عبقرية تنظيمية لم يعهدها السودان ولا أي دولة أفريقية أو عربية من قبل. وهؤلاء المنظمون هم القادة الجدد لمسيرة الثورة بعد الهزيمة النهائية الوشيكة للثلاثي الشرير – البرهان وحميدتي وجبريل. إنهم فتية آمنوا بربهم وبشعبهم ووطنهم ووضعوا هدفهم في عنان السماء ، وهم بالغوه بلا أدني شك. ألا تري أيها الثلاثي الكارثي أن قمعكم لا يزيدهم إلا إصراراً علي هزيمتكم؟ وألا ترون أن الأعداد بالشوارع تتزايد من مليونية لأخرى؟ إن هذه الثورة لن تنتكس، ولن ترجع من منتصف الطريق، ولو كنت في مكانكم لغادرت البلاد علي جناح البرق، فلو أمسك بكم هؤلاء الثوار في آخر المطاف غالباً ما يتغاضون عن شعار (السلمية) لبضع لحظات يصفون فيها حسابهم مع الذين ذبحوا زملاءهم في فض الاعتصام وخلال المليونياتت  المعروفة. ثم بعد ذلك يستأنفون السلوك السلمي لإنجاز كل مطلوبات الثورة. فلا عذر لمن أنذر. ولا نامت أعين الجبناء.

النصر هعقد لواؤه لشعب السودان.

حرية      سلام       عدالة

مدنية خيار الشعب.


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء