انهيار القيم … غزو الكونغرس كأنموذج! هل بناء الإنسان في نكسة؟
العالم تحت المجهر:
عندما نجوب بأنظارنا حول العالم يتراءى المشهد غريب، سريالي ومخيف، وحينما نمعن النظر نتأكد تمامًا أنه في حالة هلع وزعر وتصدع، ذلك في كل بقعة منه، شمالًا وجنوباً شرقًا وغربًا وحدث ولا حرج، فمن ناحية نرى كورونا قد قضت أو لنقل أوشكت أن تقضي على أخضر ويابس النفوس من جراء ثقل العوذ الاقتصادي الذي خلفته فيها، ومن ناحية أخرى لا تفتأ نظريات المؤامرة في أن تتكاثر وتتزاحم في العقول والنفوس وعلى كل المنافذ، ونحسب هنا وهناك ارتفاعا عاليا في معدلات العنف المفرط بكل أشكاله الأسريّ أو المجتمعيّ - شيء مهيب لم نعهده بهذه الكثافة والاسهاب مذ أن أبصرت أعيننا على الدنيا؛ وثمّة في بقاع متعددة تنبري الحروب بكل أشكالها، القبلية، العلنية، الوطنية والعصابية لتقضي على ما تبقى من أخضره ومن مثل عليا وقيم تُعنى بالإخاء والمودة واحترام إنسانية الآخر وفي النهاية ودون اكتراث نجد في كل بقعة من بقاعه الدمار الشامل والتصدع الغافل والهلاك الحافل إضافة إلى انحلال أخلاقي مستشري في كل الطبقات، سواء داخل الأسرة، في الاطار المصغر، أو داخل الوطن الواحد، في سياقه الكبير، والذي يتبدى فيما يصل إلينا في كل لمحة ونفس من مشاهد، مكائد وبلاوي عبر الواتس آب أو على ترهات وسائل التواصل اللااجتماعي، حقيقة نحن في غنى عنها لأنها لا تلتزم بأي قواعد للذوق السليم أو حتى بأعراف أخلاقية أو مساطر متعارف عليها عن المباح وغير المباح. وعلى صعيد آخر نجد الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة تظل مثالًا بارزًا لهذا التفلّت الأخلاقي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الديموقراطية حول العالم وربما جاء ليكون عبرة لمن اعتبر. ربما يسأل أو يتساءل أحدنا، كيف يسمح رئيس دولة عظمى لنفسه خلال مدّة حكمه التي شارفت على الأربع سنوات أن يملأ الدنيا عبر وسائل التواصل التي اتيحت له بالكذب والنفاق ونظريات المؤامرة دون اكتراث أو حتى همّة، ويعلن بكل صفاقة الحرب متخذًا أمثال على شاكلة "عليّ وعلى أعدائي – فرق تسد – كن بابوبيًا أكثر من البابا" كنهج ونبراس في الوصول إلى غاياته التي حتمتها نرجسيته المتفاقمة وعنجهيته الزائدة وأنانية مفرطة. والأدهى من ذلك أن كل السلطات التي تتواجد بهذا البلد، تشريعية، تنفيذية أو غيرها، والتي كان ينبغي عليها أن تُريه من أول وهلة البطاقة الحمراء في لعبة البوكر التي شرع فيها، لم تقف مرّة واحدة لتقل له "كفّ عن هذا يا فلان" وكانت تشاهد هذا الفيلم الشبه سريالي وكأنها كلها مغيبة حقًا وبعيدة كل البعد عن أرض الواقع! إن أحداث الكونغرس يا سادتي كانت بمثابة درس لكل العالم وتُرينا أن خطورة الرؤساء والخطباء و"الأسياد" حتى في سياق الدين، كشيوخ الكراهية، لها عواقب وخيمة لا يحمد عقباها. فعلينا بمكارم الأخلاق وعلينا بالتي هي أحسن.
الاستنفار لغزو الكونغرس!
إن النتيجة التي جنتها أمريكا من جراء فترة حكم هذا الرجل ما هي إلا انقسام مجتمعها إلى فريقين متناحرين، حلف ترامب وفريق مناهض له، هم الآخرون، ذلك يوحي الآتي: إمّا معي وإمّا عليّ! رغم كل القضايا الشائكة والمشاكل الذي عاشتها أمريكا في تاريخها الطويل، والذي التأمت فيه بعد من جروح، بيد أن بعضها قد خلف وحتى الآن فجوة عميقة، غائرة أكثر من قبل أي وقت آخر. فلقد أفلح ترامب في تفجير قنبلة داوية لانقسام بغيض داخل المجتمع الأمريكي ولا يزال يساهم في تدمير هذا المجتمع عندما يقول إن مشواره بدأ في التوّ والرحلة لا تزال طويلة، فنسأل السماء حسن العاقبة. لقد شاهدنا ومن أول وهلة كيف عمد الرئيس ترامب إلى وخذ ولكز جماهيره أن تغزو وتقتحم أعلى مراكز السياسة الأمريكية، سائلًا ومتوسلًا إيّاها أن تحدث انقلابا في نتيجة الانتخابات وذلك على مرأى ومسمع من العالم، من أجل أن يبقى القيصر قيصرًا إلى ما لا نهاية. لقد بثت قنوات التلفاز وقائع هذا الغزو لحظة بلحظة وكان ذلك أفظع حادث لم تشهده أمريكا في حياتها على الإطلاق، وأثر على نفوس العالم جمعا، ذلك للأسف في نفس اليوم الذي تمت فيه المصادقة على نتائج الانتخابات الأمريكية من مجلس الشيوخ لكن بعد لأي، حيث فاز جو بايدن ب ٣٠٦ صوت مقابل ٢٣٢ للرئيس المنصرف ترامب من المجمع الانتخابي. وصرح العديد من النواب الديموقراطيين وحتى الجمهوريين أن أمريكا شهدت في يوم السادس من شهر يناير محاولة انقلاب على حد قولهم "بتشجيع من مجرم البيت الأبيض، لكنها باءت بالفشل". لننظر إلى ميتش ماكونيل، زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ورغم أنه كان في خلال فترة حكم ترامب سندًا له بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، نجده قد وصف ما جرى ليلة السادس من يناير بأنها "لا تمت لأميركا بصلة". وكان ينبغي عليه أن يجرّم من حث على هذا الفعل لكنه للأسف لم يفعل، ولم يتجرّأ أيضًا أحدهم عندما أرسل قبل عدّة أشهر ترامب القوات الوطنية لمجابهة التظاهرات التي خرجت بسبب موت جورج فلويد التي تحمل اسم حملة "بلاك لايفس ماتر".
بناء الإنسان في مجتمع فاضل:
إن ما يحدث في العالم قاطبة يا سادتي، وهاكم بعض الأمثلة السريعة والتلقائية التي حدثت في الأيام الماضية على شاكلة بانوراما متواضعة، يضطرني أن أعود إلى طرح قضية المثالية وقضية بناء الإنسان في مجتمعاتنا. فلننظر إلى أحداث غزوة الكونغرس، انحراف الحاكم في البرازيل، أحداث حرب اليمن وسوريا وليبيا واقتتال أبناء الأمّة الواحدة، تدخل القوات التركية في أراضي ليست لها، انفجارات بيروت، الحرب بين السودان وأثيوبيا، تفلتات نظام الإنقاذ الإسلاموي بالسودان لمدة ثلاثين سنة ومن بعده استمرار الدولة العميقة بكل أعمدتها وأدواتها وآلياتها وحتى بعد سنتين من عمر الثورة، وقبل عدّة أيام ويا للأسف وقوع أحداث مخجلة بغيضة وتدخل في سياق المحرمات حسب الموروث والأعراف، ذلك أثناء ليلة رأس السنة بالعاصمة السودانية الخرطوم حيث قامت مجموعة من الصبية الغاشمين بالتحرش الجماعي والعلني على بعض الفتيات بصورة لم تشهد لها العاصمة السودانية من مثيل، كلها أمور تتعلق بالأخلاق وبالتالي ببناء الإنسان وتعكس أن بناء هذه النفس قد حدث فيها دون أدنى شك خللا وإلا لما تتابعت هذه الأمور وصارت من وطأة تواترها كأنها جزءا لا يتجزأ من واقعنا وهل هي عملية غسيل مخ، فعندما تتواتر وتتكرر هذه الأمور في كل ساعة ولحظة نعتقد بعد فترة وجيزة أنها القاعدة وليس الشاذ منها. لذلك فيمكن أن نعتبرها بصورة غير مباشرة عملية غسيل مخ وترسيخ أطر وعادات واستراتيجيات لم تعرفها عقولنا ونفوسنا من قبل، لكنها في طريقها أن تكون القاعدة فيها، بسبب التكرار والتردد المطرد. وفي هذا الصدد أذكّر بما أدلى به الرئيس المنتخب جو بايدن قبيل عدّة أيام عن الاستراتيجية التي يتتبعها ترامب في ترسيخ وتسويق مفاهيم المؤامرة وتعاليمه ومعلوماته عبر تكرار الأكاذيب قائلًا عنه: إنه يقول لابد أن يعيد ويكرر هذه الأكاذيب فسوف يأتي يوم من الأيام يصدقونها وتصير هي الحقيقة". وأفضل مثال في ترسيخ هذه الأكاذيب (سرقة الانتخابات) في خطاب ترامب الأخير، الذي مهد فيه لغزوة مريعة على شاكلة غزوة الكونغرس عبر جماعات متفلتة فقدت وعيها واتزانها منذ أن ظهر على المشهد السياسي، وشرعت في خضم ضغط الجماعة في القيام بأفعال لا يتجرأ الإنسان من عملها علنًا البتة.
كل ثقافة، حضارة أو منهج ونظام يرنو ويسعى جاهدًا إلى بناء إنسان بمقومات الإنسان المثاليّ، إنسان كنواة في مجتمع صالح يستطيع استيعاب وهضم وتطبيق رؤى خُططت من أجله ليحققها على أرض الواقع وأن يجتهد ويسعى في أن يرعاها ويسهر على فاعلية صلاحيتها وأن يضمن استمراريتها بين أفراده ليمهد بذلك إلى تعبيد الطريق لأجيال قادمة تنهل من نفس المعين. مما لا شكّ فيها أن قضية بناء الإنسان التي تحدثنا عنها في سياق المقال السابق (بناء الإنسان) لها علاقة وطيدة بطبيعة القيم السائدة في مجتمع ما أو التي يريد هذا المجتمع الناشئ أن يؤسسها لكي يبنى أعمدته عليها، وهاهنا ينشأ شيء على شاكلة الاستباق والتنافس الشريف من أجل الوصول إلى الضالة المثلى والهدف الأسمى، لتحقيق المصالح الفردية، الخاصة، التي تتدفق كلها في صحن الأسرة الكبيرة (المجتمع). وتعتبر الحرية في هذا السياق من أهم القيم المجتمعية التي تقوم ركائز الابداع والاختراع والتجديد عليها، والحرية هي قيمة سامية صارعت على مرّ العصور من أجلها الأجيال والثورات في طريق تحررها من الاستبداد والعبودية إذ تساعد المرء، هذه النواة المجتمعية، في أن يحيا ويعيش وينمو تحت ظلها وتحت عرائش ثقافة حرّة تنهل من معين الليبرالية وقيم أخرى سامية تدخل في بناء الإنسان الفاضل ومن ثمّ بناء أعمدة وطن معافى من مرض عضال اسمه الكراهية والبغضاء.
خاتمة:
ليست الدساتير ولا حتى الأحكام وحدها قادرة أن تغير من حال أمّة ما فضلًا عن أن تبنيها، وحتى لو خلقت دساتيرًا وأحاكماً وقوانين جديدة، في اعتقادي، فلن تكون في مضمونها مختلفة تمامًا عن سابقتها، وكثير من المؤسسات السياسية والحزبية رغم وطنيتها انحرفت بسبب ضعف الوعي لدى الفرد، المواطن، الإنسان، عندما عزل نفسه تمامًا من الشأن الوطني والعام وفرّط من ثمّ في حقوق المواطنة التي تكفل له إنسانيته ووطنيته كاملة، وبين هذا وذاك أذعن دون اكتراث أو حسبان للأنظمة الشمولية بكل آلياتها القمعية وللظلم والجور، وانسحب في نهاية المطاف في شراكته المرجوة من أجل بناء وطن معاف وأمّة فاضلة خلوقة إلى منفاه، ببساطة كأحد الرعية، أي المشاهدين دونما فعالية أو حراك، ليترك زمام المسؤولية كاملة ودون أي ضمانات على عاتق تلك الأنظمة التي لا تفتأ أن تتسع رقعة نفوذها لتضيّق عليه حيزه الذي يعيش فيه أو أغلب الظن المتنفس الذي تبقى له بعد تقهقره تجاه القوى الكاسحة التي تقودها الأنظمة الشمولية. من جهة أخرى وحتى الديموقراطيات التي تمخضت عن إخفاقات سياسية مهدت لانقلابات قبلتها وباركت مجيئها الأمم، وفي المقابل أن بعض الدول التي نعرفها نهضت بكل بجهد جهيد بفضل قيادة حكيمة انطلقت من أسس قيم المواطنة وبناء الإنسان.
(٭ نقلًا عن المدائن بوست دوت كوم)
//////////////////