بابو نمر: الشيوعي يجي كارس من عطبرة ومن نزل بابنوسة هتف: “تسقط الإدارة الأهلية”

 


 

 


(في الذكرى الحادية والتسعين لميلاد المرحوم الأستاذ عبد الخالق محجوب، 1927-2018)
لا أعرف من استشعر خطر الحداثة على وظيفته السياسية مثل الناظر بابو نمر. فمن طرفه المتداولة أنه قال الشيوعي يركب القطر من عطبرة منقول بابنوسة كارس طوال السكة. فما نزل بقدمه في بابنوسة حتى هتف: "تسقط الإدارة الأهلية". عرف الناظر بالقاطرة أن ظهره انكشف ودخلت الرجل الغريبة داره ولها في وظيفته رأي سلبي في سياق مشروعها للدولة الحديث.


أكثر الدراسات فجاجة للحزب الشيوعي، الذي من وراء تلك الحداثة، تلك التي تقتصر على سياسات مركزه وخصوماته مثل ما جرى في 1949-1951 ما بين عوض عبد الرازق، سكرتير الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو)، التي صارت الحزب الشيوعي فيما بعد، وعبد الخالق محجوب. ولربما استوحت هذه الدراسات وحيها من أدب الحزب الشيوعي نفسه. فالكتاب الوحيد المعتمد في تاريخه إلى يومنا هو كتيب "ملامح من تاريخ الحزب الشيوعي" (1961). وهو باختصار تأرخة للانقسامات في الحزب. ولم يكن مأمولاً بالطبع أن يكتفي التأليف الشيوعي عن تاريخه على "لمحات". ولكن الحزب اعتقل المبادرة لكتابة ذلك التاريخ بقوله في "لمحات" نفسها إنها مجرد مقدمة يعقبها تأليف أكثر تشرف عليه اللجنة المركزية أسوة بتاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي. ولم يسفر من هذا التكليف للجنة المركزية شيء على بؤس الفكرة التي تحتكر بها مؤسسة كتابة تاريخها بنفسها. وبان عوار مثل هذا التاريخ في ما كان يكتب عن تاريخ الحزب السوفيتي الذي يعاد إنتاجه ليتطابق مع الخط المنتصر في الحزب. وحاول محمد سعيد القدال أن يكتب تاريخاً للحزب الشيوعي كمؤرخ ولكنني وجدت "لمحات" ناشباً في فصوله.


تاريخ الحزب الشيوعي لا يبدأ باللجنة المركزية لا ينتهي بها. ففي الحزب خصيصة غابت عنا في لجاج التأرخة للحزب من واقع الصراعات فيه. وهذه الخصيصة إنه حزب وحركة للنهضة الوطنية. وما أدى بالحزب إلى هذه الطبيعة المزدوجة أنه جاء إلى ساحة سياسية عقم فيها نازع الحداثة بعد تفرق الخريجين الذين طوتهم الأحزاب التقليدية تحت جناحها. فمثلاً لم يعد لأي من أقسام الخريجين حركة شبابية لأن الطائفة قد سبقتهم إلى تنظيم "شباب الختم" أو "شباب الإمام". وبقيت قضايا هذه المرحلة العمرية بلا منبر حتى نشأ "مؤتمر الشباب" من الحزب الشيوعي جمع شبابه إلى شباب آخرين.


بالطبع صراعات الحزب الشيوعي تاريخ لا زلنا لم نستنفده. ولكن بالاقتصار عليه تنحجب عنا لمسة الحزب النهضوية على أفراد وجماعات ربما لم يسمع بعضها بتلك الصراعات. فقد مسها الشرر منه للنهضة وخاضت فيها بما يلائمها.


أعرض اليوم للخطر الذي استشعره الناظر بابو من قاطرة الحداثة التي شقت طريقها إلى داره مضغنة على الإدارة الأهلية. فقد حملت هذه القاطرة إلى الغرب نفراً وأفكاراً شكلوا حياة في الغرب وحيوات فيه بصورة جذرية. ووجدت قبس القاطرة في غرب السودان هذا في كلمتين نشرتا مؤخراً بقلم كل من الدكتور السفير خالد فرح والشاعر عالم عباس. فكتب السفير ينعى رفيق صباه الطيب عبد الرحيم (1946-2018) من مدينة الرهد. وكتب عالم عباس ذاكراً مأمون ود الوكيل الذي كشف عالم عن دينه الاستثنائي له في صناعته شاعراً يشار له بالبنان. وكلا الطيب ومأمون شيوعيان بأثر من السكة الحديد التي كجنها بابو نمر كما سنرى.


كتب خالد فرح عن المرحوم الرفيق الطاهر الطيب (22 يوليو 2018)
يعود الطاهر الطيب بجذوره إلى بلدة " المغاوير" بريفي المتمَّة غرب مدينة شندي بولاية نهر النيل. وجاء أهله "جلابة" للرهد. وبعد أن أكمل الطاهر المدرسة الأولية في الخمسينات لحق بأعمامه وأقاربه الآخرين في الرهد. وانخرط معهم في التجارة مع ميل للاطلاع صار به غزير المعرفة طلقاً. وكان يختلف إلى نادي السكة الحديد فاحتك بمعارف عن السياسة والنقابة ساقته للانضمام، وهو في السابعة عشر من عمره، للحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر 1964. .


وصار من موقعه الجديد قائداً محلياً تولى سكرتارية نادي التضامن لدورات. وانعقدت عند دكانه لقاءات طلاب الجامعات في العطلات. وكانوا، بجانب النقاش حول الشأن العام مع موظفي في المدينة، يتداولون في برنامج عملهم الصيفي المعتاد. وظلوا يدينون لمجلس الطيب عبد الرحيم بتعلقهم ببعضهم البعض، وشغف جدل الصبا، وحس الخدمة لمدينتهم. فشق نعيه على خالد فرح ما قال " عليَّ أنا خاصة، وعلى أندادي وأبناء جيلي من أبناء مدينة الرهد أبو دكنة بصفة عامة".


وكان الطاهر تاجراً ذا فضل وصبر على زبائن علم أن الدهر أخنى عليهم. كان " يُجرّرْهم " سائر احتياجاتهم ومستلزمات أسرهم، ويصبر عليهم الشهور الطويلة للسداد. وكان له إنفاق لا تعرف شماله ما مدت يمينة لنساء أرامل، وأطفال يتامى، وغيرهم من جموع الفقراء والمساكين الذين كان يحنو عليهم، ويسد حاجاتهم، ومعلمين الله. وحين ادلهمت الدنيا "تنسَّكَ الطاهر منذ نحو عقدين من الآن، وسلك الطريقة القادرية على يد الشيخ " أحمد الشايقي " رحمه الله، بل ظلَّ يعتمر طاقية خضراء اللون، وصار مقدَّمَاً في الطريقة في أمان الله". وهذه سكة سالكة بين التصوف والشيوعية في السودان لم تلق بحثاً جدياً.


وفي المرة القادمة يحدثنا الشاعر عالم عباس عن مأمون ود الوكيل ممن حملتهم قاطرة الناظر بابو من عطبرة إلى فاشر السلطان علي دينار.


IbrahimA@missouri.edu

 

آراء