بادرْ حيثُ ما كنتَ واقتربْ خُطوة (أسئلةٌ إلى الله): إلى د. فراج الشيخ الفزاريّ 

 


 

 

بادرْ حيثُ ما كنتَ واقتربْ خُطوة

 (أسئلةٌ إلى الله)

Jeder soll von da, wo er ist, einen Schritt näher kommen.

Fragen an Gott

(Navid Kermaniنافيد كرماني (

إلى د. فراج الشيخ الفزاريّ

تقديم ومراجعة: حامد فضل الله \ برلين

مَدخل:

نافيد كرماني ألمانيّ من أصلٍ ايرانيّ، درسَ العلوم الاِسلامية والفلسفة، وهو كاتبٌ وروائيّ حرُّ، أصدر العديد من الكتب الهامّة وفازت أعماله الأكاديميّة والأدبية والثقافية بالعديد من الجوائز المرموقة، واشتهر بمقالاته النقديّة، البعيدة عن أنماط التفكير المعهودة.

خلفيّة الكتاب:

طلبَ والد الكاتب، وهو طريح الفراش في المستشفى، أن يتعهّد بعد رحيله بتعليم حفيدته (ابنة الكاتب) الإسلام. ويروي الكاتب مساءً بعد مساء، للحفيدة، ليس عن الدين الاِسلامي، فحسب، بل عن أديان الكتاب والأديان الوضعيّة، وتمطره الحفيدة المُراهقة ذات الاثني عشر عاماً بالأسئلة الحَرجة، والحاسمة بما فيه الكفاية، تسأل بجرأة متحدّية الأب، من خلال هذا الحوار، انبثق الكتاب، من الحجم الصغير والصادر عن دار هانزر في عام 2022.  ويضمّ 240 صفحة ويحتوي بالإضافة إلى المدخل والخاتمة على 20 فصلاً.

يواجه المراجع صعوبة في تلخيص هذا الكتاب، فالقارئ يجد نفسه في خضمّ الفلسفة والعلوم الطبيعيّة، فيزيا الكمّ والكيمياء، والأديان والفكر الصوفيّ والأدب المقارن والشعر، ولا تكاد تخلو صفحة واحدة من الاستشهاد بالآيات القرآنية، وكلّ صفحة من الكتاب معبّرة وعميقة ومدهشة، بما فيها من قَفَشاتٍ وسخرية من الذات أيضاً.

نستعرض هنا بإيجاز بعض الفقرات:

لدى كلّ دين بطبيعته، شيء غير مشروط، ويثير دائماً ادعاء الحقيقة. ولكن حقائق الله تختلف عن حقائق البشر؛ وهي تتجاوز منطقنا، كالطبيعة. ونظريّة النسبيّة، فضلاً عن ميكانيكا الكمّ، هي نظرية صحيحة، هي أكثر وضوحاً بألوان عديدة مثل الشعوب والشعوب نفسها. وإذا كانت هناك ديانات مختلفة، فذلك لأن الشعوب مختلفة، ويتحدّث الله مع كلّ فردٍ باللغة التي يفهمها. وباللغة، لا أقصد الكلمات فحسب، بل أعني الأفكار، الصور، الأصوات، و الأشكال أيضاً،

يقول ابن عربي الشيخ الأكبر للصوفية الاِسلاميّة "القرآن جديد في كلّ مرّة، ولكلّ من يرتله". وهذا بالطبع لا يعني أنّ بإمكان الجميع تفسير القرآن كما يريدون، وهذا لا يختلف عن العالِم، فالمؤمن يحتاج إلى الدّقة والفضول والصبر للوصول إلى المعرفة.

إنّه الإسلام الذي نشأتُ عليه، الإسلام الذي تربّى فيه أجدادكِ في أصفهان أيضاً، وإسلام أسلافنا ومعلمينا، إنّه دين العقل، والبراغماتية، والممارسة العمليّة، ودين الخير، والقرآن لا يُتبع بشكل أعمى، فالقارئ المتبصّر يسأل نفسه في كلّ آية: ماذا يقول العقل؟ وماذا يقول القلب؟  وماذا يقول القرآن ككل؟ وعندما تجمع جميع العبارات المتناقضة ظاهرياً معاً..

إنه إسلامٌ ساد لقرون عديدة، وقد شكّل الثقافة الإسلامية بشكل أعمق، من إسلام الكَتَبة. ولا يزال يحمله ملايين وملايين المسلمين في قلوبهم حتى اليوم. إنه إسلام أشهر شعرائنا، إسلام جلال الدين الرومي، الذي كشف الله له نفسه بالرقص، إسلام حافظ الشيرازي، الذي درسَ القرآن وأثنى في نفس الوقت نفسه على الاستمتاع والمحبة والنبيذ المحرّم بالفعل، وامتدح المتعة والحبّ، إنه إسلام شهرزاد، أكثر بطولات الأدب العالمي شجاعةً وذكاءً وخيالاً، البطلة الأشجع والألمع والأكثر إبداعاً في الأدب العالمي، والتي تقتبس على الأقل، كلمة أو جملة أو آية واحدة من القرآن في كلّ من ألف ليلةٍ وليلةٍ. إنه إسلام ابن عربي. ويقوم الكاتب بترجمة أبيات من قصيدةٍ مشهورةٍ:

 لقد كنتُ قبلَ اليوم أنكر صاحبي     إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

 وقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة      فمرعى لغزلان، ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طـائف            وألواح توراة ومصحف قرآن

أدينُ بدينِ الحبّ أنّى توجهت         ركائبهُ فالحبّ ديني وإيماني

جيّد اعتراضكِ وقولكِ، أنّ محمداً خاض الحروب أيضاً. حسناً، فمحمد ليس إلهاً لنا، ولهذا السبب لم يُطلق على ديننا اسمه. نحن لسنا محمديين، كما كان الأوروبيون يدعوننا حتى إلى وقت قريب، المسيح له مكانة مختلفة تماماً في المسيحية، بالنسبة للمسيحيين، يسوع هو الله، وبالتالي الكمال. من ناحية أخرى، أكّد محمد مراراً وتكراراً بأنّه غير معصوم، ولا يجب في الوقت نفسه، أن نحكم على رجل من القرن السابع وفقاً لمعايير القرن الحادي والعشرين، فهذا ليس عدلاً، وعليكٍ أن ترفضي كلّ المفكرين العظام، من أفلاطون إلى أوغسطين إلى كانط، لأنهم لم يعرفوا بعد حقوق الإنسان مثلنا. كانوا أبناء عصرهم! عليكِ أن تري محمّداً مثل كلّ أسلافه وكلّ في بيئتهِ الخاصة، و حتى آرائي التقدميّة، المعقولة تماماً، -على الأقل بالنسبة لكِ يا طفلتي- ستُعتبرُ في غضون سنوات متخلفة تماماً، وأصبحُ أنا نفسي وما أحمله من أفكار جزءاً من الماضي، وتصرخ الحفيدة في وجهه" يا أبتي إنكَ الآن بالفعل ".

سوف تسمعين أحكاماً مختلفةً وسلبيةً وحتى سيئة عن النبي محمد في أوروبا وربّما في صف تعليمك الديني الكاثوليكي.

 لقد اُعتبرَ الإسلام عدواً لعدّة قرون وما زال كذلك بالنسبة للكثيرين. لا أريد أن أكرر الحُجج المختلفة، فهناك ما يكفي من الكتب المؤيدة والمعارضة للنبي، وضدّ الأديان الأخرى. لقد كان لكلّ مؤسس دين ما، خصوصياته ونقاط قوّته وضعفه ومصاعبه، وإذا انتهى بكِ الأمر إلى الشعور بالانجذاب بشكلٍ خاصّ إلى المسيح لأنّه كان نبيّ الحبّ، فأنتِ مثل العديد من المسلمين، وخاصّة الصوفيين، لكن يظلّ محمد هو آخر نبيّ لهم.

 الكتاب الذي يريده الجدّ ليس مُسابقة يفترض أن يكون فيها الإسلام هو الأول، مثل هذه الكتب موجودة بكثرة، وبالطبع دائماً هناك الديانة المنتصرة.

يعود كرماني في أمسية أخرى إلى الأدب والفنّ، ويتحدّث عن فاوست رائعة الشاعر الكبير جوته، وعن ديوانه "الغربيّ الشرقيّ"* إن قراءات جوته المتّصلة في القرآن الكريم واطلاعه، على السيرة النبوية انعكست في قصائده، منها:

قصيدة تمائم

لله المشرقُ. لله المغرب

الأرضُ شمالاً، والأرضُ جنوباً.

تَرْقدُ آمنةً، ما بين يديه.

وهي مأخوذةٌ حرفياً من الآية رقم 115 من سورة البقرة:

ولله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيم

أو قصيدة:

في التنفس نعمتان:

نعمةُ الشهيق ونعمةُ الزفير

تلك تُضيقُ الصَدْرَ، وهذه تُنْعشه،

فما أعجب المزيج (الذي تتألفُ مِنه) الحياة .

اشكُرْ ربّكَ في الضراء (وعند العُسْر)،

واشكُرْ ربّكَ في السَّراء (وعنَد اليُسْر)..

ويقول الكاتب للحفيدة، بأنّ السورة القصيرة، التي أدينا بها صلاتنا الآن (سورة الاِخلاص) قام الشاعر فريدريش روكيرت، الذي عاش في القرن التاسع عشر، والذي اعتبر القرآن غير قابل للترجمة، بترجمتها بعبقرية فذّة:

1. Sprich: Gott ist Einer,   قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

2. Ein ewig reiner,      اللَّهُ الصَّمَدُ

3. Hat nicht gezeugt, und ihn gezeugt hat keiner,   لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ

4. Und nicht ihm gleich ist einer.     وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ


ويقول كرماني، بأنّ جميع الآيات القرآنية، التي جاءت في الكتاب، قام بترجمتها بنفسه، ومستنداً غالباً ما إلى كلّ من هارتموت بوبسين** وماكس هينينج وفريدريش روكيرت، ولكلّ منهم طريقته الخاصّة في الترجمة، ويقول بتواضع جمّ، ومن المؤكد أنّ ترجماتهم أفضل من ترجمتي.

وهناك كثير من الكلمات والجمل، التي جاءت في المتن أو توضيحات من الكاتب حول نصّه نذكرُ منها كأمثلة:

ــ الدين لا شيء يحدث في الجنة.

ــ الدهشة حول الأشياء هي بداية الدين، ولكن أيضا بداية العلم.

ــ لا عقيدة من دون معرفة.

ــ ما يقلقني هو الجهل الديني الذي ينتشر. لأنّه مثلما يمكن أن ينشأ الإيمان فقط في الحرية، فإن الحرية بدورها تفترض المعرفة مسبقاً وإذا كنت لا تعرف الدين على الإطلاق، فلستَ حراً في الابتعاد عنه أيضاً. في هذا الصدد، الحريّة ليست هدية، ولكنها مُهمة: أيّ أن تتعلم أن تنظر إلى ما وراء أفقك المحدود لعالمك الخاص.

ــ هذا الكتاب هو الأوّل منّي، الذي أتعامل فيه بالتفصيل مع العلوم الطبيعية، وأدرك كم من المؤلفين والفيزيائيين قبلي، فليس هناك تناقض بين الايمان والعلم الطبيعي، ولكلّ مناهجه المختلفة، لمعرفة لُغز الطبيعة، والعالم والخلق.

لعلنا نختتم بهذه الطرفة، التي (يسردها) الكاتب لحفيدته:

ــ جلال الدين الرومي، أعظم شاعر فارسي في القرن الثالث عشر، عاش معظم حياته في تركيا الحالية. لذلك يعتبره الأتراك أعظم شاعر تركي في القرن الثالث عشر. لكِ أن تتخيّلي فقط كيف تتنازع الدول اليوم على الشعراء بدلاً من النفط أو السلطة، لكان التنازع شبه مُمتع! بدلاً من ذلك، يتمّ اليوم اعتقال الشعراء، في تركيا وبل أكثر من ذلك في إيران.

كتاب كرماني الجديد، صغير الحجم، عظيم المحتوى، فهو فلسفي وأدبي، وجدالي. وتثقيفي وإرشادي وترفيهي في عين الوقت، وتكمن قوته في أنّ المؤلف لا يخلط بين منصبه ككاتب وبين موقع الواعظ. بل إنه يريد تفعيل القوى الإبداعية لدى الشباب من أجل فتح مستقبل حديث للإسلام يتوافق مع الظروف الديمقراطية وسيادة القانون.

ولذلك ليس من المدهش، أن الكتاب الصادر في يناير\ كانون الثاني 2022 حظيَ بعد بفترة وجيزة من صدوره، بمراجعات وقراءات عديدة، وتكتب مجلة " مراجعة نيويورك للكتب" عن الكتاب " هذا الكتاب سحر، وتحفة شعريّة، وشخصيّة، إنه مكسب حقيقي في المعرفة"، وعن الكاتب: "نافيد كرماني يجرؤ على الكتابة في الخفاء والثقة لا تغطي العجز. ولأنّ لغته وانفتاحه ومعرفته بثقافتين، فريدة ومشرقة وعميقة جداً، إنه من أكثر الأصوات الفكرية إثارة في ألمانيا".

هامش لابدّ منه:

لعل القوى المدنية السودانية، متمثلة في الأحزاب السياسية والمنظمات المهنيّة ولجان المقاومة الباسلة، أن ترتقي، في ضوء الظروف الحرجة التي يمرّ بها الوطن، إلى مستوى الوطنية والمسؤوليّة، ووفاءً لدم شهداء ثورة ديسمبر 2018، وانتفاضة 25 أكتوبر 2021، و الدماء لا تزال تسيل، أن تتمعن في عنوان الكتاب: "بادرْ حيثُ ما كنتَ واقترب خطوة"، كلمات قليلة بمضمون كبير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Navid Kermani, Jeder soll von da, wo er ist, einen Schritt näher kommen, Hanser Verlag, 1. Auflage 2022


* قام الراحل د. عبد الغفار مكاوي (مصر)، وهو من خريجي الجامعات الألمانية وأستاذ الفلسفة، بترجمة "الديوان الغربي الشرقي" للشاعر الألماني الكبير جوته، إلى العربية بعنوان "النور والفراشة، مع ترجمة النص الكامل للديوان الشرقي لـ جوته، وهي ترجمة رائعة، الناشر أبو للو ــ القاهرة 1997

** تعرفنا على هارتموت بوبسين أستاذ الدراسات الاِسلامية في جامعة ارلانغن، قبل سنوات طويلة، عندما شارك في برلين بدعوة من منظمتنا "منتدى حوار الشرق والغرب" عن تاريخ القرآن، وترجمته الجديدة الرائعة للقرآن الكريم، هي حصيلة جهود متواصلة، استمرت، 10 سنوات، الطبعة الأولي 2012، "دار بك" ميونخ،


hamidfadlalla1936@gmail.com

 

آراء