(إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتي يغيّروا ما بأنفسهم.) صدق الله العظيم. إن شعب ثورة ديسمبر المجيدة في حالة انتظار سرمدي، كأنه بانتظار جودو، أو كأنه علي موعد مع النبي الخضر عليه السلام، بلا ضمانات أو خبر يقين. فنحن يارعاك الله: • بانتظار تسليم الذين تلطّخت أيديهم بدماء المدنيين الأبرياء وبجرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والاغتصاب بدارفور منذ 2003 - لمحكمة الجنايات الدولية؛ وكنا قد افترضنا أن ثورة ديسمبر قد تفجّرت ضد الظلم والظالمين ومن أجل تحقيق العدالة وجبر الكسور ورتق الفتوق ومحاسبة أولئك المجرمين، علي الأقل بإرسال المطلوبين من تلك المحكمة إلى مقرها في لاهاي بهولندا. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وقد مضت عامان علي انتصار هذه الثورة المتفرّدة اتى أطاحت بنظام الإخوان المجرمين المسؤولين عن تلك الفظائع. • وبانتظار استكمال هياكل المرحلة الانتقالية، خاصة المجلس التشريعي، بالإضافة لركائز العدالة الإنتقالية - كالمحكمة الدستورية المؤلفة من عناصر نظيفة بعيدة عن فاسدي ومفسدي العهد المباد؛ وبانتظار كافة هياكل وقوانين العدالة الانتقالية؛ وبانتظار تنظيف الجهاز القضائي والنيابة العامة والشرطة والأمن من العناصر الإخوانية، التى ما زالت تسيطر عليها جميعها، من الذؤابة حتى أخمص القدمين. • وبانتظار نهاية للضائقة المعيشية التى ما برحت حبالها تلتف حول الكادحين السودانيين وتزيد حياتهم جحيماً علي الجحيم الذي تجشّموه لثلاثة عقود حكم الإخوان المسلمين الجائر؛ فلم ينفعنا ما حدث في العاصمة الاتحادية من تغيير فوقي لحكومة البشير بأخرى يفترض فيها تمثيل الثورة، فإذا بها تتحول بعد "صفقة جوبا" إلي مجرد أداة لمواصلة السياسات الإخوانية المنصاعة لوصفة البنك الدولي، والخانعة لأبوية الأنظمة الإقليمية المشرئبه للتدخل واللعب بذيلها في عتمة الفوضي السودانية، كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن، والتى أصلاً لم ترحب بثورة ديسمبر، بل حسبتها مهدداً استراتيجياً لأنظمتها، فعملت علي تدعيم المكون العسكري علّه يصبح شيئاً كنظام السيسي، مطعّماً بما تسمي الشراذم الحاملة للسلاح التي سرعان ما وضعت يدها في يد و(جيب) ذلك المكون وسادته، علي حساب قوى الحرية والتغيير التي نظّمت وقادت الجماهير حتى النصر الأوّلي في 11 أبريل 2019، وما زالت تحرس ما تبقي من ثورة ديسمبر العبقريّة. • وبانتظار استرداد الأموال والأصول والمنقولات والأراضي المنهوبة عبر الثلاثين عاماً السابقة للثورة، والتى لم تضع لجنة تفكيك التمكين يدها إلا علي القدر اليسير منها، (مع احترام الشعب وتقديره لجهود هذه اللجنة المستبسلة الشجاعة المنبثقة عن روح ديسمبر، والتي تعتبر الفلتة الوحيدة الصائبة تماماً من الحكومة الانتقالية). • وبانتظار السلام الحقيقي الذي تشارك فيه الفصائل المقاتلة كافة، خاصة تلك التى لا زالت تقيم فعلياً على جزر محرّرة داخل حدود الوطن - فوق جبال النوبة وجبل مرة؛ ذلك السلام الذي يعيد النازحين المطرودين لحواكيرهم وقراهم من وحشة المعسكرات بالدول المجاورة منذ عقدين، والذي ينصف ضحايا الحروب بمناطق النزاع في دار فور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وليس السلام المجلوب بالرشي، والذي يكافئ بعض المعارضين الإسفيريين/الفندقيين المقيمن طوال السنوات الإثنتي عشر الماضية بلندن وطرابلس ليبيا والدوحة وأديس أبابا في لجاجة ومماحكة لزجة لا نهائية، مستهدفة توزيع الكيكة الخرطومية، وليس القضايا الجوهرية المتعلقة بالسلام الحقيقي؛ وفي هذه الأثناء، كانت جماهير الشعب السوداني بكل أرجاء البلاد تصطلي بنيران الكفاح السلمي العنيد الصبور المتئّد ضد النظام الإخواني القمعي الشرس، وتقدم آلاف الشهداء والغرقي والجرحي والمفقودين؛ بينما كان آخر شهيد لأولئك الملاججين الفندقيين هو الراحل خليل ابراهيم قائد (العدل والمساواة) الذى استشهد وحده في الميدان دون أي فرد من سريته قبل حوالي عقد من الزمان.
ولقد ذكرني هذا الإنتظار العبثي بمسرحية Waiting for Godott للكاتب الآيرلندي صامويل بيكيت التي درستنا إياها الراحلة الدكتورة الأمريكية ماريا بول Poole بآداب جامعة الخرطوم عام 1977، وهي عمل تراجيكوميدي من مسرح اللا معقول، حقق نجاحاً باهراً في خمسينات وستينات القرن المنصرم، وحاز كاتبه علي جائزة نوبل للأدب؛ وقد تبلورت فكرة المسرحية لدي بيكيت أثناء نضاله مع المقاومة الفرنسية وهو مختبئ في قبو (قيل داخل سجن مهجور) بباريس أثناء الاحتلال النازي عام 1940، إذ كان مطارداً من قبل الجستابو الألماني الفظ، شأنه شأن المثقفين التقدميين المناوئين للنازية، ثم كتبها بعد الحرب في أواخر الأربعينات. ولقد تشرّبت المسرحية بالأجواء الخانقة الكئيبة المحيطة بالكاتب آنئذ، وحالة القنوط واليأس لدي أهل فرنسا المحتلة، مع بصيص من الأمل الذي يذكر بأن اليأس لا يؤدي إلي شيء إيجابي، ومن الأفضل الإصرار والانتظار رغم غياب الضوء في آخر النفق. وتتألف المسرحية من فصلين فقط، وشخصيتين - فلاديمير "ديدي" وإستراقون "جوجو"، يتحاوران طوال الفصلين حواراً دائرياً لا يفضي لشيء، ويتقاذفان جملاً غير مفيدة ومعظمها غير مكتملة، ويتساءلان عن متي وكيف سيطلّ عليهم جودو - حتى يصلا مرتين لقرار قاطع بالانتحار من فرط الرتابة و(عدم الموضوع)، ولكنهما يقلعان عن تلك الفكرة - في الفصل الأول بدون سبب يذكر، وفي الثاني لأن الشجرة الشاحبة الوحيدة بالمشهد تكسرت فروعها ولم تستطع حمل جسميهما المشدودين بحزام إستراقون. ولقد ظلّا طوال المسرحية ينتظران جودو الذي لم يظهر حتي إسدال الستارة النهائية. وفجأة ظهر شخصان في المشهد الأول ظن إستراقون أن واحداً منهما ربما يكون جودو – رجل إسمه بوزو Pozzo يقود عبداً بحبل مربوط في عنقه، إسمه لاكي Lucky، ينوي بيعه. وكان لاكي متعلقاً بسيده الذي يجره بذلك الحبل ويضربه بالكرباج، إذ أصبح محبباً لديه رغم ذلك (ربما ماسوشياً)، ولا يقبل فيه لومة لائم. وخرجا فجأة من المسرح. وظهر غلام ظنه ديدي وجوجو "رسولاً" من جودو، ولكنه لم يشف غليلهما، ولم يقل شيئاً يذكر، وتوارى فجأة كسلفه. ثم عاد بوزو وعبده لاكي في الفصل الثاني، وكان بوزو هذه المرة كفيفاً تماماً، يقوده لاكي الذي أصبح هو الآخر أبكماً لا يسمع ولا يتكلم، وذهبا من حيث أتيا. وعموما، كانت بادرة الأمل الرمزية الوحيدة في الفصل الثاني أن الشجرة المحطوطبة التى استظل بها ديدي وجوجو في ذلك الطريق المقفر المهجور قد أينعت بعض الوريقات الخضر. ولقد صنّف النقاد تلك المسرحية الصادمة والغريبة من نوعها كإبداع شاعري يصب في إطار النضال ضد اليأس والقنوط، وفي إطار المقاومة للظروف القاهرة التي لا يجدي معها الاعتماد علي حل هلامي يهبط من السماء، بل علي مواصلة الصمود ومجابهة الظروف الموضوعية الماثلة، بالأدوات والأسلحة المناسبة، وأهمها الصبر والجلد الصوفي stoicism. ولقد تم عرض المسرحية في عدة أماكن بها ظروف قهر واضطهاد وحروب، ووجدت رواجاً منقطع النظير: مثل عرض سجن كونتين بالولايات المتحدة عام 1962 أمام المسجونين الذين تفهموها رغم غرابتها و"لا معقوليتها"، وأوجدت لديهم حالة أرسطوطاليسية تسمي "التنفيس" catharsis؛ ومثل العرض الذي قدمه في مدينة الكاب بجنوب افريقيا المخرج العبقري بنجي فرانسيس مستخدماً شخوصاً أفارقة سوداً لكل الأدوار، ومقدماً إياها لجمهور يعاني ويلات الفصل العنصري، فوجد فيها نفسه وتفهمها تماماً، وبذلك تم أيضاً استخدام الفن كآلية عابرة للفواصل الإثنية والعرقية. ونحن لا نحتاج لعمل أدبي معقد كهذا لنتسنبط حقيقة ما يواجهنا من أمل ضائع ما فتئنا نبحث عنه في الركام؛ وليس هنالك إبداع مسرحي أو درامي يعكس لنا الحالة تجريداً وفناً، ويثقفنا بتلافيف ما يحيط بنا من تربّص ومؤامرات رأسمالية طفيلية محلية وقوي رجعية إقليمية ودولية؛ (ولكنا علي كل حال لا ننسي إسهامات الجنس الشعري الذي أبدع فيه أبناء شعبنا قبل وأثناء الثورة، وحتي اليوم). فمعاناتنا واضحة وضوح الشمس، وتحتاج منا فقط للتلاحم بين ذات الثوار الذين فجّروا ثورة ديسمبر، ولتفعيل نفس الهياكل التي اضطلعت بتنظيمها: التجمع النقابي ولجان المقاومة بالأحياء، باعتبار أن الثورة ما زالت متأججة وفي عنفوانها ولم تبلغ أهدافها بعد؛ وإلغاء اتفاقية جوبا lock, stock and barrel وفي خلال العامين المنصرمين، كما قال الدكتور حيدر ابراهيم علي في مقاله الأخير، طفا للسطح الانتهازيون وسيطروا على أجواء الفعل السياسي والحكومي ببلادنا، مما ساعد في تنفيذ مخطط المكون العسكري المناوئ لقوي الحرية والتغيير والساعي لتحجيمها ولقلب ميزان القوي رأساً علي عقب، ذلك الميزان الذي فرضه الشارع الثائر حينما جعل الكلمة العليا لقوى الحرية والتغيير. ولقد تغيرت تلك (الرصّة) بفعل مؤتمر جوبا الكارثي الذي أتي لنا بست وزراء، علي سبيل المثال، يمثلون قبيلة واحدة (الزغاوة)، بلا رصيد نضالي أو مشاركة في الثورة أو خبرة سياسية أو إدارية، ولو حتى في اتحادات الطلاب، فتردي المستوى الاحترافي والوطني المتجرد للطاقم الحكومي القائد، وانقلبت فلسفة الحكم إلي محاصصة ركيكة ومتهافتة وبعيدة عن روح الثورة، وعدنا أدراجنا للقبلية والمناطقية – بعد أن كان ثوار ديسمبر يهتفون (كل البلد دار فور). وفي الحقيقة، فإن قيم الثورة وأخلاقياتها وروحها غريبة علي مثل تلك القوي الرجعية البعيدة عن نبض الشارع وعن معاناة الكادحين؛ وهذه القوي المعادية للشعب لن تأتينا إلا بالذين لا هم لهم سوي النصيب المشبع من كعكة الخرطوم. إن الكثيرين من أبناء شعبنا الذين التقيهم في مناسبات العزاء المتلاحقة يسألونني: (ما العمل ياأستاذ؟ إلي أين سيأخذنا رهطك الأقربون هؤلاء؟ أما زلنا بانتظار العبور؟) فأقول لهم مازحاً: (نحن بانتظار جودو!) ويضحكون كأني بهم قد استشفوا الإيماءات الدرامية والسياسية والميتافيزيقية المحتشدة في تلك العبارة. وأنا، مثلي مثل صديقي الدكتور حيدر، أجد صعوبة بالغة في الدفاع عن الوضع الراهن، رغم أني ظللت أناضل طوال الثلاثة عقود المنصرمة ضد نظام الإخوان المسلمين، ولقد سعدت أيما سعادة بذهاب نظامهم المأفون، واستبشرت خيراً بقوي الحرية والتغيير التى كانت تسيطر علي الأمور في بداية القصة؛ ولكن سرعان ما فتت الخلافات في عضدها، وانقسمت قيادة التجمع النقابي علي نفسها، وانسحب الحزب الشيوعي من "الرصة"؛ ونتيجة لذلك خفّت القوي الرجعية، بدعم إقليمي واضح المعالم، لتعبئة الفراغ الناجم، ولتمكين أحزاب لا تتعدي عضويتها أصابع اليدين، متأبطة المجموعات المندرجة من صفقة جوبا المتهالكة، ضاربين صفحاً عن مفاهيم ومبادئ ومتطلبات ثورة ديسمبر العظيمة. وطفقتُ أردّ علي السائلين بأن الوضع محفوف بالمزالق، وليس هنالك ضوء في آخر النفق، ويبدو أن بلادنا تواجه أزمات وحروباً وكوارث أكثر فظاعة مما شهدته طوال تاريخها؛ وربما يزول السودان من خريطة العالم، مثلما زالت يوغسلافيا في التسعينات وحلت مكانها تسع دويلات بينها ما طرق الحداد. ولا أري أي أمل لهذه الثورة إلا بعودة رموزها الأصليين لدفة القيادة، وهم: تجمع المهنيين ولجان المقاومة، والشيوعيون والتقدميون والوطنيون والثوار الحقيقيون، ومعهم القوي الحاملة للسلاح فعلياً، الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور. والسلام. حاشية: من المفارقات العجيبة أن أستاذتنا ماريا بول، بعد عام من شرحها "بانتظار جودو" لنا، وُجدت متوفية بمكتبها بشعبة الإنجليزي بآداب جامعة الخرطوم، تاركة أقراصاً وعلب عقاقير فارغة، ومذكرة طالبت فيها بدفنها في السودان الذي أحبته وأحبت شعبه. وكانت إدارة الجامعة قد أنهت خدماتها قبل ذلك ببضع أسابيع، وأصبحت ممزقة بين تليبة رغبة أبويها بالعودة لنيو يورك حيث يقيمان كإحدى الأسر الثرية، وبين الإقامة بالسودان، وقد عرضت عليها وظيفة بجامعة أهلية بأم درمان. وكانت تقول لنا إنها سئمت الحياة في أمريكا لأنها مجتمع مادي استهلاكي طاحن وظالم للمهمشين. وكان طليقها دكتور ديفيد بول تقدمياً إنجليزياً درسنا علي يده شيئاً من العلوم السياسية. ولقد تركت ماريا إبنتها بالتبني (هانا Hana) التى كانت قد أتت بها من أسمرا، إذ قالت لي وقتها: " ذهبت أطلب طفلة سودانية من لقطاء المايقوما، ولكنهم رفضوا طلبي لأني مسيحية، فشددت الرحال إلي the next best أي الإرتريين. ولقد شاهدت هانا في برنامج ما بالبي بي سي قبل فترة، وأحسب أنها في أربعيناتها الآن. وأتمني أن تكون بخير وعافية وسؤدد مقيم ونجاح مضطرد.)