بحث عن مخرج غير تقليدي عبر المقاومة واليونيتامس

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمر الأيام و الشهور و السنوات ، و يزداد معها تَعَقُّد المشهد السياسي في السودان ، و يصبح تحيطه بوادر غرق في لجة شديدة العمق و العكار ... فالعسكر في غيهم يعمهون ، و الفلول دون حياء يجتهدون في إعادة فتح صفحة بائسة في تاريخ السودان ، و قوى الثورة مشتتة و متنافرة كأن بين وحداتها ثأر غير قابل لأي درجة من درجات الصلح و التسامح. يحدث كل ذلك في مسرح لا يكاد يخلو فيه يوم من روح شابة ثائرة تصعد لبارئها تشكو سوء المنقلب ، و من دماء جرحى تسقي طرقات الخرطوم و الولايات ، و من عنف أمن لا يشبه السودان و أهله ، و لا يبرره قذف حجارة صغيرة إحتجاجاً علي إغلاق الشرطة للدروب، و من تزايد سيطرة ميليشيات خازوق جوبا علي مقدرات البلاد إدارة غبية لشؤون الوطن ، و تكثيفاً مقصوداً لكل ما هو كفيل بتمزيق الوطن عن جهل و عن قصد علي حدٍ سواء.
في ظل هذا المشهد السريالي المنذر بخطر عظيم ، أظن أن هناك حاجة للتفكير خارج الصندوق بحثاً عن حلول غير تقليدية سياسياً و دستورياً عَلَّنا نلحق بعربة الفرملة الأخيرة في قطار وطن منحدر بكلياته نحو أعماق المجهول.
الشتات الذي يخيم علينا يوحي بأننا غير قادرين علي التوحُّد ذاتياً ، لهذا لا بد من توافر جهة أو آلية محايدة يلتقي الجميع تحت مظلتها طواعية لترتب أمورنا و تقترح لنا الحلول ، و لا أظن أن في الوقت الحالي هناك أنسب من اليونيتامس بمظلتها الأممية المستقلة و المتحررة من أي شوائب إفريقية أو عربية ، شريطة أن تتلبس دور الوسيط المبادر ، و ليس دور المُسَهِّل المغلوب علي أمره. بهذا الفهم قد تتوافر مظلة أو خيمة يجتمع تحتها الكل دون حساسيات ، و دون حسابات مسبقة للربح و الخسارة الذاتية أو المؤسسية .
من ناحية أخرى لماذا لا نفكر في أسلوب حكم إنتقالي لم يسبقنا عليه أحد.. إن ثلاثية المجالس السيادية و التنفيذية و التشريعية التي لازمتنا في الديمقراطيات القصيرة الثلاث التي توارى فيها العسكر بشكل مؤقت ليعودوا لاحقاً أشرس مما كانوا عليه في مرة سابقة ،دعونا نتساءل هل هي فرض علينا كلما انتفضنا و أزحنا العسكر من طريقنا ؟ و لنسأل أنفسنا بأمانة ماذا استفاد السودان من كل مجالس السيادة التي تعاقبت منذ الإستقلال.. لقد كانت مجرد مواقع للوجاهة و للصرف دون مقابل، كما كانت في أحيان أخرى ، بعد ثورة ديسمبر و قبلها ، بؤر نزاع مع الجهاز التنفيذي .فحتى الفترات الديمقراطية لم تكن خالية من هذه النزعة التمددية بخاصة في دوائر المشاركات الخارجية التي طالما تنازع فيها الأزهري و المحجوب رحمهما الله ، كما كانت أكثر بروزاً عاماً في توريط السياديين للوزراء بتعهدات منبعها حماسات مؤقتة في خطابات جماهيرية، أو غلبة نظرات حزبية ضيقة لا تتناسب مع قومية الموقع السيادي.
عليه ، فإني أدعو لإعادة النظر في هذا الأمر ،بل أرى أنه ليس هناك حاجة لتكوين مجلس سيادي في الفترة الإنتقالية ، علي أن يُترك للشعب لاحقاً وضع دستور يحدد كيف يكون هيكل الحُكم بخاصة في جانبه السيادي .
حقل آخر نحتاج وضعه بصراحة في ميزان الواقع الذي نعيشه و يكبل خطانا، و هو المتعلق بالمجلس التشريعي ..ففكرة مجلس تشريعي بالتعيين و ليس بالإنتخاب الشعبي ، كما ورد في الوثيقة الدستورية التي نحرها البرهان و رهطه ، هي في حد ذاتها فكرة متخلفة و لا تسندها التجارب الديمقراطية. فكيف يكون هناك مُشَرِّعون غير منتخبين ، و بالتالي غير مفوضين شعبياً لإعادة تشكيل الدولة و رسم مستقبلها !!
بجانب هذه الإشكالية الدستورية ، فلنتذكر أننا لثلاث سنوات ماضية فشلنا بسبب خلافاتنا في تكوين المجلس التشريعي الذي نصَّت الوثيقة الدستورية علي إنشائه خلال ثلاثة أشهر .لم نكتفي بهذا العجز التنفيذي ، بل سمحنا لأنفسنا بالعبث ببعض أساسيات حياله منصوص عليها في الوثيقة الدستورية إذ تم تغيير بعض البنود الخاصة بالمجلس التشريعي في إتفاقية جوبا المعطوبة إرضاءً لأفراد أثبتت الأيام أنهم غير جديرين بما نالوا ، وغير أمينين علي الوطن و الثورة ، و أنهم مجرد عَبَدَة لنصوص ظالمة إحتوتها تلك الإتفاقية ، و ترجموها مناصب و مكاسب و ضربات قاصمة للثورة و الثوار عبر مشاركة و إنحياز مهين لإنقلاب الخامس و العشرين من اكتوبر المشؤوم..
أضف الي كل ذلك أنه حتى قوى الحرية و التغيير لا تنجو من لوم لقبولها بما حدث من تعطيل و عبث بالبنود الدستورية الخاصة بالمجلس التشريعي ، و تلكأت في تحديد عضويتها في المجلس التشريعي حتى طربق البرهان الأوضاع في رأسهم و رأس المدنيين جميعاً ، فالتفتوا إلى بعضهم يتلاومون بعد أن انسكب لبن الثورة أمامهم في الأرض .
عليه فإنى أرى أن ينسى الجميع فكرة تعيين مجلس تشريعي غير منتخب في الفترة الإنتقالية، فهي فكرة عابثة و أثبتت الأيام إستحالة الإتفاق علي عضويته و علي سلطاته ، إذ أن منتفعي إتفاقية جوبا قد اعلنوا مثلاً مقاومتهم لأي محاولة للمجلس التشريعي تستهدف تعديل إتفاقية جوبا ، كأنها نصوص مقدسة.

بناءً علي ما ورد أعلاه من دعوة للإستغناء عن المجلس السيادي و المجلس التشريعي خلال الفترة الإنتقالية ، أقترح أن يقتصر أمر حكم البلاد خلال الفترة الإنتقالية علي مجلس وزراء فقط ، علي أن يكون بسلطات سيادية و تنفيذية و تشريعية ، يرأسه رئيس وزراء كفء و محايد ، ترشحه لجان المقاومة ، و يختار وزراءه بحرية تامة . و يكون لمجلس الوزراء ، و ليس لرئيس الوزراء ، هيئة إستشارية عليا من متخصصين أكفاء ، و يكون لكل وزارة مجلس إستشاري تخصصي،علي أن لا يزيد عدد الوزارات عن عشرين ، و بجانبها مفوضيات تحددها الحاجات الإنتقالية كالإنتخابات و شؤون النازحين مثلاً ..و في مقترحات الدكتور فخر الدين عوض حسن المنشورة ما يعين علي تأطير تلك المستشاريات و المفوضيات .
فكرة مجلس الوزراء الجامع للصلاحيات السيادية و التنفيذية و التشريعية ، فكرة غير تقليدية ، فأمرنا كله غير تقليدي..دعونا نجربه و نكيفه كما نشاء و ليس كما يشاء الآخرون ، و نقننه بتشريعات ثورية ، عَلَّنا نخرج من ما نحن فيه من متاهة و إعادة تدوير لِمُجَرَّب ، أهلكنا أو كاد ، و في سبيله إلى تمزيق بلادنا شذر مزر ، إذا لم نسرع الخطى لإعادة ترتيب شؤوننا و دولتنا .
تبقى بالطبع أسئلة مشروعة حول التكييف القانوني و الدستوري لشكل الحكم الإنتقالي ثلاثي الأبعاد المقترح..و أظن هنا أن في العودة لدستور ٢٠٠٥م حل عملي ، فهو دستور شبه ديمقراطي أملته ظروف البلاد آنذاك ، و صاغته هيئات دستورية عليا، و لن يحتاج سوى تعديلات طفيفة تضع كامل السلطات السيادية و التنفيذية و التشريعية في مجلس الوزراء الإنتقالي ، و تحدد الفترة الإنتقالية بما لا يزيد عن ٣-٥ سنوات ، و تقنن المستشاريات و المفوضيات ليتم التناغم بينها تحاشياً للتضارب و لكل ما يعطل السير إلى الأمام.

أما كيف يتم إختيار رئيس الوزراء، فأقترح أن يوكل الأمر كلياً لمؤسسات ألمقاومة ترشحه لجانها و تنسيقياتها، إعترافاً بدورها و بشبابية الثورة و بالبذل الثوري الذي قاموا ، و لا يزالوا يقومون به ، و عرفاناً بتضحيات أرتال الشهداء من الشباب ذكوراً و إناثاً، و تثبيتاً لحق هؤلاء الفتية و الكنداكات في تشكيل مستقبل وطنهم ، فهم نصف الحاضر و كل المستقبل.
لكن تبرز هنا مشكلة عملية..فليس للمقاومة جسم واحد يمثلها ، و لا يلوح في الأفق القريب إمكانية التجمع حول راية واحدة و تحت قيادة موحَّدة. و حلاً لهذا الإشكال اقترح أن تقوم كل لجنة أو منسقية علي حدة ، و وفقاً لآلياتها الخاصة و طريقة عملها، بالتفاكر مع عضويتها بشكل ديمقراطي و من ثمَّ تتقدم كتابةً بثلاثة مرشحين لرئاسة مجلس الوزراء، مدعومة بسيرة ذاتية لكل واحد من المرشحين .
و هنا يأتي دور اليونيتامس كآلية دولية محايدة تكونت خصيصاً لمعاونة أهل السودان في عملية الإنتقال للحكم المدني الديمقراطي ، يأتي دورها في تلقي تلك الترشيحات ،و الوصول عبر تصنيفها و دراستها إلى أفضل الترشيحات لرئاسة مجلس الوزراء الإنتقالي الجديد . دخول اليونيتامس بالشكل المقترح يجعل العملية تحظى مسبقاً بقبول المجتمع الشبابي و السياسي السوداني ، و نتيجتها ستتوج ضمناً بمباركة المجتمع الدولي .
إكمال تحديد رئيس للوزراء عبر هذه الخطوات يلقي علي كاهل اليونيتامس عبء تكملة المشوار مع السلطة الإنقلابية القائمة لتقوم بإجراءات تسليم السلطة لرئيس الوزراء المدني المقترح ، إنهاءً لحكم العسكر ، و إستئنافاً لمسيرة الثورة في الإتجاه الصحيح بعد طول تعثر، و ذلك إستناداً علي ما إلتزم به البرهان علناً أمام العالم و ما نطق به من رغبة و إستعداد لتسليم السلطة لجهة متوافق عليها.
الخطوة التالية هي إختيار رئيس الوزراء لأعضاء مجلسه ، و لهيئته الإستشارية بحرية تامة، و عجلة غير مخلة . حتماً لن تجد الحكومة الجديدة الطريق ممهداً ، و لن يطلب منها حل كل مشاكل السودان ضربة لازب. إن عليها أن تعمل كحكومة إنتقالية ذات مهام محدودة و محددة .فهي مثلاً ، مع ضرورة بذل الجهد لإعادة التوطين في الإقتصاد العالمي ، عليها أن تُرَكِّز بشكل أكبر علي إقتصاديات المعيشة و الخدمات الاساسية..
كذلك يتوقع منها تكليف جهات محلية أو دولية متخصصة لإعداد دراسات جدوى تنموية لكل الولايات ، و تسعى قدر المستطاع ليتبناها الأصدقاء ، مستهدفة بذلك تقريب شُقَّة التنمية بين الأقاليم، عسى أن يسهم ذلك في تشجيع النازحين و المهجَّرين للعودة الطوعية لتنمية ولاياتهم و الإستفادة المباشرة من خيراتها .
بجانب ذلك، فإن إغلاق ملف لاهاي ، و تعليق إتفاقية جوبا للمراجعة ، و عدم التردد في إعادة هيكلة و توحيد القوى النظامية و تأمين السيطرة المدنية عليها ، و تسريع إجراءات العدالة و القصاص ، مع ضرورة الإعداد للإنتخابات عبر تنظيم التعداد السكاني و ضبط السجل المدني وتكوين لجنة الإنتخابات.و في إطار كل ذلك عليها الحرص علي التأكيد في كل الحركات و السكنات على أن الحكم قد أصبح مدنياً خالصاً ،و أنه حكم بالشعب و من أجل الشعب، عسى أن يسترد أهل السودان بعضاً من أنفاسهم بعد طول عناء و صبر ، و يعود الجيش للثكنات معززاً مكرماً ، و تتفرغ الاحزاب لإعداد أنفسها للإنتخابات ، و تشرق شمس الثورة من جديد في سماء الوطن العزيز.
و الله هو المستعان .

بروفيسور
مهدي أمين التوم
25 يوليو 2022 م

mahditom1941@yahoo.com

 

آراء