بداية الجرعات القاتلة

 


 

د. حسن بشير
13 June, 2012

 



بالتزامن مع ارتفاع سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه السوداني إلي 5530 ج وتوالي ارتفاع معدلات التضخم، تم الاتفاق  بين ولاية الخرطوم ونقابة الحافلات علي رفع تعرفة المواصلات بنسبة تتراوح بين 25 و 30% من قيمتها الحالية. مع ذلك (.. اشترط والي الخرطوم  عبد الرحمن الخضر لدي اجتماعه بالنقابة وإدارة شركة المواصلات أمس "الثلاثاء" علي عدم زيادة التعرفة مجددا في حالة الإعلان عن رفع الدعم عن المحروقات ..) الأهرام اليوم، الأربعاء 13 يونيو 2012م. تجدر الإشارة إلي أن الهيئة الفرعية لنقابة الحافلات كانت قد طالبت برفع التعرفة إلي 150%، "نفس المصدر".
للخبر أعلاه عدة دلالات منها ان نسبة ال 150% التي طالبت بها نقابة الحافلات تبدو منطقية جدا قياسا علي معدلات التضخم وتدحرج قيمة الجنيه السوداني الي درك سحيق، إذ أن أصحاب الحافلات  وبالرغم من ثبات أسعار الوقود، حتي اليوم، إلا أنهم لا يأكلون البنزين  والجازولين كما تفعل مركباتهم، وإنما يشترون السلع ويدفعون أسعار الخدمات في السوق  وهي في ارتفاع مستمر ويتم ربطها جميعا ، حتي في القطاع غير الرسمي بسعر الدولار. بالتالي فان النسبة المذكورة  تتسق مع مستويات الأسعار والموجة الجديدة المتوقعة من التضخم بعد رفع أسعار المحروقات.
لكن هناك دلالة أكثر أهمية وهي ان بداية الحقن بالجرعات القاتلة للمواطن السوداني قد تم تدشينها بهذا القرار، انطلاقا من ولاية الخرطوم، هذا من جهة ، أما من جهة أخري فقد تم الشروع في تأمين الفئات القوية في المجتمع ضد غلاء  الأسعار وتدهور قيمة الجنيه السوداني. هذا المؤشر مهم جدا للحكومة التي تنتظر الدعم من الفئات والطبقات المقتدرة والقوية لتأمين نفسها ضد اي احتجاجات محتملة أو مقاومة لقرار رفع أسعار المحروقات  الذي سيسدد الضربة القاضية للقوة الشرائية  والقدرة الاستهلاكية لما لا يقل عن 90% من الشعب السوداني الذي يعاني من شظف العيش والعجز عن الإنتاج لصغار المنتجين من مزارعين وحرفيين وأصحاب الأشغال الصغيرة والمتوسطة.هذا يعتبر مؤشر لآخرين لكي يرفعوا أسعار مبيعاتهم من منتجات وخدمات بهذه النسبة فاعلي.
أما الجهة "الاقوي" ممثلة في المنتمين الي الحكومة من أصحاب المرتبات والامتيازات  المرتفعة من دستوريين ومدراء شركات حكومية  وهيئات ونواب والعاملين في   المنظمات والتنظيمات والأجهزة الرسمية المدنية والعسكرية خاصة في مستوياتها العليا والمتوسطة، فهؤلاء موقفهم مؤمن كما أن عليهم يعتمد تأمين بقاء السلطة  واستمراريتها مهما ساءت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لعامة الشعب.
التساؤل المشروع هنا هو هل سيتم رفع المرتبات بنسبة ال 30% التي حدثت في تعرفة المواصلات ثم التدرج إلي أن تصل الزيادة الي نسبة ال 150% التي اشرنا إلي منطقيتها، وبأي شكل سيتم دعم صغار المنتجين والحرفيين لمواجهة تكاليف الحياة والإنتاج؟ إذا لم يحدث هذا ولا ذاك يصبح هذا تأكيدا علي فرضية الانحياز للاقوي والأقدر اقتصاديا ضد الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة.
جاءت الزيادة في تعرفة المواصلات لتؤكد ما ذهبت إليه الحكومة في التبشير بصدور القرار السياسي لرفع أسعار المحروقات وهو ما تمت التعبئة له علي ارفع المستويات وتم عقد الاجتماعات وإطلاق التصريحات التي لا تخلو من تلويح او تهديد مباشر لما ينتظر المعارضين للقرار الذي اعتبرته الحكومة الصواب والخيار الوحيد المنقذ من انهيار اقتصادي كامل، وما عدا ذلك فهم من النعام. بعد هذا تبقي تصريحات الجهات المنتسبة الي الحكومة بمعارضتها للقرار مجرد مسكنات للشارع وإيهام الناس بان هناك جهة حكومية ما تتضامن معهم وتشعر بمصيبتهم ولا يستثني من ذلك محاولات اتحاد أصحاب العمل برفع مذكرة لرئاسة الجمهورية حول "الأزمة الاقتصادية الراهنة"، بحسب ما أوردت صحيفة السوداني علي موقعها الالكتروني، الأربعاء، 13  يونيو 2012م. هذا تحصيل حاصل إذ كيف يمكن لرئاسة الجمهورية أن تلقي قرار صادر منها؟ وهل يمكن لقرار سياسي أن يصدر بدون موافقة رئاسة الجمهورية عليه، لاسيما قرار بمثل هذه الخطورة؟
في هذا السياق ستتحمل الحكومة، بجميع مكوناتها مسئولية قراراتها وعلي الذين يحملون السيد وزير المالية وزر السياسات المالية الخاطئة أو تبعات القرارات الخاصة بالسياسة الاقتصادية العامة، عليهم أن يكفوا عن هذه المهازل ، فوزارة المالية ليست حكومة قائمة بذاتها وإنما هي وزارة سيادية اتحادية، من أهم الوزارات في إي بلد من البلدان وهي المعبر الحقيقي عن السياسات الاقتصادية للنظام القائم وجميع قراراتها لا يمكن أن تكون سارية المفعول، إلا بعد الموافقة عليها وإجازتها من قبل جميع الهيئات والمؤسسات المخولة قانونيا والمناط بها رسم السياسات وتنفيذها. إذن كل ما يأتي به وزير المالية فهو شأن حكومي كامل وليس موضوعا شخصيا يهم هذا الشخص أو ذاك ، حتي عندما يتداخل العام بالخاص.
أخيرا رب قائل بان (الدعم يذهب للأغنياء وان هناك دعم سيصل إلي الفقراء) الذين تتزايد أعدادهم ساعة فساعة، ها هو النفي يأتي  بزيادة تعرفة المواصلات التي يبدو أن الأغنياء لا يستخدمونها، لكن رفع التعرفة لن يقف عند هذا الحد وإنما ستكون هناك اجتماعات وتفاهمات مستقبلية، ربما تلبي مطلب نقابة الحافلات برفع التعرفة إلي نسبة 150% أو تزيد. هذه أول الجرعات السامة التي بشر بها قرار رفع أسعار الوقود،وسيتواصل الحقن بجرعات أخري متواصلة، وأول الغيث قطرة (وزمرا بين ُفرادي وثنا)، وفي رواية أخري جرعة.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء