برافو صغيرون، وننتظر بقية الوزراء
لولا عزيمة، وشجاعة، وثورية د. انتصار صغيرون لما أحسسنا بقبس من التغيير الحتمي لمرفق تابع للخدمة المدنية. ولما أدركنا أننا نطينا فوق جدول القبح. ولما عرفنا أن النضال لأجل دولة الحرية، والسلام، والعدل، قد أتى أول أكله، وأن تضحيات شهداء الثورة لم تضع سدى. فرغم أن صغيرون تعرضت لهجوم كثيف بفعل خبث الدجاج الاليكتروني أثناء ترشيحها لتكون وزيرة للآثار، إلا أنها أثبتت ايضا خطل زعم المتعجلين في معرفة كنهها، والذين شككوا في صلابة مواقفها الوطنية. فالقرارات الثورية التي حددت بها تثوير دور العلم العليا، وإعادتها إلى سابق مجدها، وجدت رضا عند كثير من المشككين في قدرة حكومة حمدوك لإصلاح الخدمة المدنية.
ولكون أن هذه القرارات قد صدرت بتوقيع الحكومة فإننا نجدد الآمال بأن يستكمل بقية الوزراء إصلاح هوية الكادر في كل المرافق العامة. فالوزارات مليئة بثعابين الأيديولوجيا القامعة الذين يقدمون مصلحة التنظيم عوضا من مصلحة الوطن. ومهما فكر بعض الوزراء في ترويض هذه الثعابين السامة بتصور حليم، أو حالم - بغرض عدم تجريف الخدمة المدنية - فإن الأيام بيننا لتثبت سذاجة التقدير. فالإسلاميون حددوا خياراتهم سلفا أنهم لن يرضوا إلا أن يكونوا مستبدين على الشعب، ومحطمين لأي إجماع له، سواء كانوا في القطاع العام، أو الخاص. بل إن الإسلامي لا يرى المخالف لأدلوجته سوى أنه عدو للإسلام، ويجب التآمر ضده، وقتله. وبيننا نصوصهم، وتجربتهم ضد كل المنتمين لأحزابنا الوطنية. وأي فهم لشخص خلاف هذا يوضح عدم معرفته بطبيعة تفكيرهم، ومدى قدرتهم على فعل السوء. فالإسلام السياسي ماكر، ونهاز، لكل فرصة تلوح لاكتساب مصلحته على حساب الجماعة، حتى لو أدى الأمر لتحطيم استقرار البلاد.
إننا نفهم أن هناك وزراء يخالفون نهج انتصار - أو موقفنا الراديكالي - إزاء الإزاحة العاجلة للتمكين الذي بني على باطل. ونقدر أن هناك من يخاف عاقبة التجريف الذي يكون على شاكلة اجتثاث البعث في العراق، والذي ألقى بظلاله السالبة على نسيج بلاد الرافدين. ونقدر أكثر حجة بعض الكتاب للتدرج في إخلاء الخدمة المدنية من ثعابينها حتى لا يخرجوا للشارع العام ليعضوا الشعب. وندرك منطق الذين يخافون من أن تقع حكومة حمدوك في الأخطاء الكئيبة التي وقع فيه الإسلاميون بأن دمروا كفاءة الدولة بعد إحالتهم الآلاف من المميزين مهنيا، ووطنيا، للصالح العام.
كل هذه الدفوعات التي تبين موضوعيتها بحذاقة نتعقلها جيدا، ونقدر مصادر حيثياتها. ولكن أصل المشكلة أن الناس ثاروا من أجل إصلاح شامل للدولة من ناحية، ولتحجيم عضوية المؤتمر الوطني العقائدية في الخدمة العامة من إفشال أهداف الثورة، من الناحية الأخرى. والحقيقة أنه ليس هناك طريق ثالث يتمثل في إجراء الإصلاح بواسطة المخربين أنفسهم والذين استخدموا ثالوث المال، والإعلام، والأمن، لتهديم البلاد. مرفوض بالطبع ذلك الإصلاح الذي يرضي الإسلاميين المسيطرين على الدولة على حساب ترضية السواد الأعظم الذي نشد ثورة كاملة، وليس ثورة هبوط ناعم. ونعلم هنا أن وضع الثقة في الإسلاميين بالاعتراف بالوضع الجديد مثل وضع الثقة في ثعلب داخل قفص دجاج.
ببساطة، الإجراء الذي اتخذته انتصار، وحَمَلت من ثم الحكومة على تبنيه، هو الأصح، ويعطينا الأمل أن بلادنا مقبلة على تغيير إصلاحي جذري يعيد الاعتبار للكفوئين، ومنحهم فرصا كانت مغلقة لتيار سياسي واحد، ونوع من الأكاديميين الذين يقللون من قيمة ربط العلم بالأخلاق، أو العلم بالمصلحة الوطنية العليا. وإجراء انتصار عادل، وضروري، وبناء، ما دام معظم قيادات التعليم العالي كانوا يمثلون تيارا سياسيا واحداً بينما ينبغي لهذا المحفل القومي أن يكون موجها بالكفاءات السودانية جميعها لخلق العدل في التوظيف، والذي كان مقصورا لمن يرضى عنه البشير أو رموز الحركة الإسلامية. وقد اكتشفنا من خلال قوائم الذين تم إعفاؤهم أن هذه الصروحات الأكاديمية كانت مجالا لنحر الكفاءة الأكاديمية، إذ إن كثيرا من رؤساء إدارات الجامعات ليسوا بالأهلية، والمناقب الأخلاقية، والكفاءة التي تؤهلهم لإدارة بعض هذه الجامعات، بل وجدنا أن ود الجاز كان رئيسا لإدارتي جامعتين. وهل تحدثنا عن إقصاء الكفاءات بعد هذا.؟
لقد شملت القائمة البديلة عددا كبيرا من الأكاديميين المشهود لهم بالكفاءة، ولكن خلت من وجود نساء أكاديميات مؤهلات على حسب معرفتنا بالمئات من اللائي يحملن درجة الأستاذية. وكنا قد توقعنا أن تأخذ انتصار في الحسبان مسألة الانتباه للجندرية في لب تعييناتها، خصوصا أن أدبيات الثورة دعت إلى إنهاء تسلطات العقل الذكوري في السيطرة على فرص التوظيف العام.
إن تخوفات المنادين بعدم تجريف الخدمة المدنية بالدرجة التي تطيح بالقيادات الضعيفة، والفاسدة، والتي تتبع لأيديولوجيا النظام السابق، لا تتماشى مع أهمية القرارات الثورية التي تضع البلاد في الاتجاه الصحيح للتطور، والاستقرار، والتقدم. بل إن إصلاح الخدمة المدنية التي يركز على مستوى الخطط، وتنفيذ برامجها، ويجهل خطورة كوادر الحركة الاسلامية المهيمنين على الدرجات العليا والوسطى في تنفيذ برامج الحكومة - والتي هي أصلا لا تعمل ضد تطلعاتهم الأيديولوجية - لن يجني الثمرة المشتهاة التي ينتظرها الثوار الذين دفعوا ثمنا غاليا حتى يجلس الوزراء الحاكمون الآن في سدة مكاتبهم.
إن د. حمدوك، وغالب وزرائه المحترمين، أتت بهم الثورية لا الكفاءة فقط، وما يزالون يملكون مساحات من الفعل - كما بذلت انتصار - لتنظيف الخدمة المدنية، والقطاع الخاص، من فلول النظام، وتمهيد المجال العادل للكفاءات السودانية لتحقيق أهداف الثورة. ولعل الحقيقة التي لا خلاف عليها أن الوثيقة الدستورية منحت المسؤولين المدنيين كامل الفرصة لتنفيذ سياستهم البديلة، والدليل الأكبر هو قرار الحكومة نفسه المتعلق بإدارات التعليم العالي. وبينما مجلس حمدوك يحوز على كامل الصلاحية فلا عذر لوزير بالتحاجج بعدم امتلاكه للصلاحية في إعفاء قيادات، وإبدالها، بقيادات ثورية مؤهلة، وسن القوانين الجديدة التي تتماشى مع دخولنا حيز الديموقراطية. فنجاح الوزراء في تصفية آثار الانقاذ المتعلقة بسياستها لن يحدث إلا بضرب جيوب الفساد في التعيين، وهو الذي قاد إلى تحطيم مقدرات الدولة. أما التركيز فقط على أمور تتعلق بإعادة هيكلة الوزارات دون تنظيفها فيعد حرثا في البحر، وتقنينا للتمكين الفاسد، ودعما للمتآمرين على أهداف الثورة، وخيبة أمل في الذين زكتهم الثورة لمواجهة الدولة العميقة للحركة الإسلامية.