بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (1)

 


 

 


(1 من 11)

"حتى ولو بقي مائة رجل على قيد الحياة، لسوف لا – تحت أيَّة ظروف – نستكين إلى سيطرة الإنكليز."

من إعلان أربروث، المؤرَّخ العام 1320م، والذي يُعتبر وثيقة كلاسيكيَّة لإعلان استقلال إسكوتلندا، وهي مكتوبة باللغة اللاتينيَّة، وتؤكِّد الرسالة القوميَّة العظيمة إيّاها.


د. عمر مصطفى شركيان   
shurkiano@yahoo.co.uk


مقدِّمة

كثيراً ما نُظر إلى مكوِّنات المجتمع السُّوداني على اعتبارها لوحة فسيفسائيَّة عُرفت بتلوناتها الأثنية والدينية والثقافية المتعدِّدة.  وبرغم من الفرح الذي ينبغي أن يتلوَّن ويسود هذه المكوِّنات وجماليته، ظلَّ الخوف على تمازجها قائماً ومشروعاً، وأخذت الوحدة الوطنية في تصدع مستديم، وباتت الأوضاع السياسيَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة تنذر بالانزلاق إلى هاوية سحيقة، وذلك في ظل أنظمة احتكرت السلطة وهيمنت على الدولة، واستقوت بأثنية واحدة وديانة واحدة وثقافة أحادية.  إذ أنَّ أي منعطف في تأريخ بناء وتجديد بناء أي كيان أو أيَّة دولة، لا يمكن إنجازه على يد حزب واحد أو فئة واحدة أو أهل دين أو مذهب أو ملة واحدة، بل لا بد من كتلة تأريخيَّة يلتقي في فضائها الوطني الرحب، أفراد وفئات متعدِّدة المناشئ والمشارب والخبرات والتجارب والحساسيات، تجتمع على مشروع واحد مفتوح على التغيير، منفتح على النقد، يزداد حيويَّة بالتعدُّد ويحفظ التعدُّد، وبالحفاظ على المستوى اللازم من الوحدة، ويعزِّز الوحدة بإيلاف المختلف.  أفلم يكن الفنان المسرحي التونسي فاضل الجعايبي محقاً حين أشاد بالتعدد اللغوي في تونس؟  بلى!  فقد أكَّد الجعايبي أنَّ "هذه الأرض (تونس) قد أُحتلت 33 مرة في تأريخها المعروف، فلا بد لهذا التأريخ المتعدِّد أن يترك أثراً لغوياً، فاللغة أيضاً متعدِّدة على غرار التأريخ، وأرجو أن لا تترك هذه اللغة المتعدِّدة إطلاقاً، لأنَّ ذلك يعني إفقار التراث (...) ولا أريد أن يُحصر تراثنا اللغوي والثقافي في هُويَّة عربيَّة فحسب، فالثقافة والحضارة العربيتان هما جزء مهم من تراثنا المتعدد الثقافات، ولكنني أرفض أن يُعتبر التراث الأوحد."(2)
والحال هذه فيما تمس اللغة، إذ أثارت فقرة وردت في مقالة لحسين خوجلي رئيس تحرير صحيفة "ألوان" يوم الخميس 11 آب (أغسطس) 2011م جدلاً حول السياسة اللغوية في البلاد، وهل ستمضي في قمع الثقافات الأخرى لصالح الثقافة واللغة العربية أم في اتجاه التعايش وتأكيد التنوع.  وذكر حسين خوجلي في مقاله بعنوان "ولأمسيات رمضان أحرف": "أتمنى أن يأتي اليوم الذى تنقرض فيه رطانات الحلفاويين والدناقلة والمساليت والزغاوة والهدندوة وتسود لغة الضاد الموحدة، فلسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين.. هذه معركة ذات نطع وغبار أطلقها في الهواء الطلق لصالح الثقافة المركزية، نعم معركة فلقد سئمنا المقالات المسطحة التي لا تكسب الفكر عدواً ولا صديقاً.. نعم أتمنى سيادة العربية، ولعن الله أقواماً يحسدوننا على عطر الأماني."  وما أن ظهر هذا المقال في الصحيفة إيَّاها حتى تصدى له بعض الأقلام الجريئة بالحجة والمنطق، ومنهم الدكتور الطيب زين العابدين والأستاذ فيصل محمد صالح والأستاذ كمال الجزولي، فضلاً عن تعليقات بعض القراء في صحيفة "حريات" الإلكترونية.  بيد أنَّ الذي أثار فضولنا من بين هؤلاء الثلاثة هو الأستاذ كمال الجزولي.  فعقب مؤتمر عقده أبناء النُّوبة في كاودا العام 2002م شرع الأستاذ كمال الجزولي ينشر سلسة من المقالات في الصحف الإلكترونيَّة والسيارة بعنوان "جبال النوبا الإنجليزيَّة" فيها يمجِّد اللغة العربية "لغة الضاد"، ويعيب على أبناء النُّوبة اختيارهم اللغة الإنكليزيَّة وسيطاً للتعليم بدلاً من العربيَّة، وكأنَّ لسان حاله كان يقول يومذاك إنَّ لغة "إقرأ باسم الذي خلق" نخطئ لئن لم نذد عنها ما دمنا أحياءاً، أو فيما تبقى من أكنافها.  ومن الغلاة العتاة من أهل السُودان – سواء من العرب العاربة أم الكتبة المستعربة – من يقول لك إنَّ اللغة العربيَّة لمن أفصح لغات العالم لساناً، وأوضحها بياناً، وأعطرها لفظاً، وأمتنها سبكاً، وكأنَّهم تبحَّروا في لغات العالم كلها حتى توافرت لهم من أسباب البلاغة والحكم الرشيد، بحيث يستطيعون أن يطلقوا أحكامهم القاطعة على هذا النحو وبهذه السجية.  واللغة أيَّة لغة – مكتوبة أم غير مكتوبة - بوصفها مثوى الفكر أي فكر، حالها من حاله على مختلف المستويات وفي جميع المجالات.
مهما يكن من شأن الغلاة، فقد انبرى للأستاذ كمال الجزولي يومئذٍ فتية من أبناء النُّوبة يردون على مقالاته بالأسانيد والحجج والتبيان والتبيين، تلكم التي دفعتهم لاختيار هذا المنهاج، ونذكر منهم – على سبيل المثال – الدكتور محمد علي والأستاذ طالب حمدان تية.  وكما كتبنا من قبل، وأوضحنا في أكثر ما يكون الإيضاح، فإنَّ اللغة العربيَّة في السُّودان لا تُدرَّس كأيَّة لغة، بل كثقافة عربيَّة قاهرة ومستعلية على الثقافات السُّودانية الأخرى؛ ثانياً إنَّ اللغة العربية لمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الإسلاميَّة.  فمع بزوغ التطرف الديني الإسلاموي وانتشار التسيُّد اللغوي العربي يصبح الأثنان صنوين لاضطهاد الأديان الأخرى وثقافات سكان البلد الأصليين.  وقد ساد هذا النمط من الغلو والتزيُّد تحت شعارات قيم المشروع الإسلامي الذي ظلَّ يترنَّح بفعل بنيه لفترة من الزمان، وذلك في بلاد ما فتأ قادتها يتحدَّثون صباحاً ومساءاً عن حاكميَّة الشريعة وقيمها الأخلاقيَّة.  ومع ذلك، هم أبعد الناس عن المثل والقيم الأخلاقيَّة والعدالة والمساواة، حيث أنَّ العدل قيمة مطلقة لا تفرِّق بين المتخاصمين على أساس الدين أو القوميَة أو العرق أو ثقافة أو غير ذلك من الاعتبارات السياسيَّة والاجتماعيَّة التي يتخذها أولو الأمر والنهي في التعامل مع مواطنيهم في السُّودان.  فمن ذا الذي يرغب أن تكون عقيدته منبوذة لا مكان لها من الإعراب، وثقافته مسحوقة لا تجد مكاناً للازدهار وسط ثقافات الأمم الأخرى!
وفي واقع المظلوميَّة إيَّاها تعاني لغات النُّوبة والفور والزغاوة والمساليت والفونج، والجنوب حتى وقت قريب، والمحس والدناقلة والبجة وغيرهم من قوميات السُّودان المتعددة من التهميش التعسفي، ويسعى أصحابها سعياً دؤوباً حاثين السلطات الحكوميَة والتعليمية أن تنشلها من براثن الاهتمال والاستهتار واللامبالاة.  فما بالنا إذن نستسف مفهوم الآخر الذي يعترف بالخصوصية، ويبارك الاختلاف بما هما شرطا اجتماع برئ، ويكافح ضد سياسة التهميش والإقصاء والإلغاء.  فإساءة لغة الأغيار والاستهزاء بها، ومعاقبة التلامذة الذين بها يتحدثون بالجلد والزجر لا يسعف طلاب العلم في اكتساب المعلومات المعرفية، ولا يعين على استدراك الإستراتيجيَّة التعليميَّة، والخطأ الناجم عن جهل معطوف على قصور منهجي.  وفي الحق، فإنَّ للدرس الأخلاقي في هذا الشأن لأمر مستعظم، وذلك من باب النصر لسائر المهمَّشين بلا استثناء.  وينبغي الإنفاذ إلى اللغة من خلال درس تربوي يتوسل بالمحبة سبيلاً إلى المعرفة.  فأيَّة معرفة يستحيل أن تتحصل بالكره والنفور وانتفاء الرغبة بها، استحالة تحققها عن طريق العقاب أو القصاص.
هذه هي "متاهة الأعراب في ناطحات السراب"، كما عنون مؤنس الرزاز روايته؛ وهذه "العروبة" هي التي قطَّعت أوصال السُّودان، وأنتجت صدام حسين في العراق ليضرب الأكراد بالغازات السامة، وجعلت أمازيغ ليبيا يوجِّهون لكماتهم إلى نظام العقيد الليبي معمر القذافي، وحملت البرابرة في المغرب على أن يكتبوا اللغة الأمازيغيَّة بحرف تيفيناغ الفينيقي عوضاً عن الحرف العربي، ودفعت الأكراد في سوريا إلى الاعتراض على مسمى "الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة".  ومن هنا نقول نحن النُّوبة في السُّودان "لسنا عمالاً في مزرعة العروبة"!  ففي بعض أدبيات الأحزاب السياسيَّة السُّودانيَّة برامج تشي بشيء مرغوب في سودان مثالي يتخذ من الواقع (Reality) حقاً مشهوداً، بحيث يمكن أن يتحول هذا الواقع إلى الواقعيَّة (Realism).  وبالطبع، فإنَّ هذه الواقعيَّة هي إطار سياسي يمكن أن تتحقَّق إذا توافرت العزيمة السياسيَّة وتضافرت الجهود الحكوميَّة والمشاركة الحزبيَّة والشعبيَّة جمعاء من صناع القرار وأهل المعارضة وأصحاب الطوائف الدينيَّة والملل والنحل وزعماء القبائل والأكاديميين وغيرهم.  وكما أسلفنا الذكر فإنَّ هذه الأدبيات السياسيَّة السُّودانيَّة لكثيرة، وذلك لمن أراد أن يتمعَّن فيها، أو آثر أن يلم ببعض منها.  ومن هنا ينبغي أن نقر ونشيد بما جاء في "حول البرنامج" للحزب الشيوعي السُّوداني.  فماذا أتت به وثيقة "حول البرنامج"؟  جاء في الوثيقة أنَّه "لا بد من التشجيع الفعلي للنمو الحر لثقافات هذه المجموعات (القوميَّة)؛ ولن يكون هناك نمو فعلي في هذه الثقافات إلا إذا بعثت لغات ولهجات المجموعات، وعمدت الدولة الوطنية الديمقراطية بجدية التعليم (وفقاً للتجارب التربوية في هذا المضمار) وفي النهضة الثقافيَّة الشاملة."(3)
ومسألة التعددية هذه أصبحت تثير اهتمام دول أخرى غير السُّودان، إذ اعتزمت "حركة شباب 6 أبريل في مصر تقديم مشروع إلى وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي، للمطالبة بتدريس الديمقراطية وثقافة الاختلاف ضمن المناهج التربوية التي يتم تدريسها، سواء في الجامعات أو مرحلة التعليم قبل الجامعي، (وذلك) لرفع ثقافة احترام الآخرين المختلفين في الرأي عند جميع الشباب المصريين، إيذاناً ببدء حياة ديمقراطيَّة يحترم فيها الجميع أفكار الآخرين مهما كانت."(4)  فقد أوضح المنسق العام للحركة أحمد ماهر "أنَّ المشروع – الذي يتضمن أيضاً تدريس مبادئ تداول السلطة – يستقي مضمونه من العادات والتقاليد المصريَّة الأصيلة، مؤكداً أنَّ غياب ثقافة الديمقراطية وتقبل الآخر خلال عهد النظام السابق (نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك)، تسبَّب في مشكلات سياسيَّة ومجتمعيَّة كثيرة كان أبرزها افتقاد روح العمل الجماعي، وعدم إجادة الاستماع إلى الآخر أو الدفاع عن حقوقه؟"(5)  فإذا كانت هذه هي الحال عن مصر التي تحظى بتعددية أقل من تلك التي بها يمتناز السُّودان لغة وعقيدة وثقافة من الناحية البشرية، وتضاريساً من الناحية الجغرافيَّة.  أفلم يكن من الأجدر بنا أن نولي تعدُّدنا الديني والثقافي والعرقي اهتماماً أكثر وعناية أكبر!  فعندما يصبح في ثقافتنا احترام الآخر، نكون قد بلغنا جانب الحضارة.
ففي سبيل التعايش السلمي في السُّودان، لا بد من توسيع مهمة الطرح الإيجابي للمسألة السياسيَّة ومساءلة النخب السُّودانيَّة التي حكمت هذا البلد غير الأمين والأحزاب السياسيَّة التقليديَّة والطوائف الدينيَّة والمنظمات الوقفيَّة عما قدَّموه لتصحيح مسار هُويَّة الدولة الوطنيَّة التي انحرفت وانجرفت منذ العام 1956م، فتقادم الخطأ دوماً يجعل له مؤيِّدين ومنظِّرين يأتون من كل فج عميق بكل النظريَّات والافتعالات، مما يعني استمرار الطقس الاقصائي القومي على حساب الألوان القوميَّة الأخرى.  وفي خضم هذا الزخم السياسي والاثني والديني كان الإسلام السياسي هو الصوت العالي، ثم كان الإسلام عينه هو أحد السلالم الذي تسلَّقه الإسلاميُّون في الحركة الإسلاميَّة لبلوغ مرام الحكم، ومن ثمَّ لإدامته ردحاً من الزمان، مستعينين بأقصى درجات القهر والرعب.  وقد أصبح واقع السُّودانيين مثلما وصف الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته الاستباقيَّة العام 1984م حكم "الأخ الأكبر" الخيالي بأنَّه حذاء موضوع على الوجه الإنساني إلى ما لا نهاية، الذي – ويا له من مأساة – سبر أغوار حياة هذا الإنسان، وتحديداً حياته في المسرح السياسي والاجتماعي، ولسوف يستمر ليكون مصير الكادحين الذين يكدحون كدحاً حتى يغيِّروا ما بأنفسهم.
لكن هل من ثمة قادة أحزاب سياسيَّة ورجال دولة وزعماء طوائف دينيَّة وحكام بلد لا يعتبرون بالدروس ولا يتعظون بالمواعظ مثل أهل السُّودان!  فالقادة السُّودانيُّون لم يتعلَّموا شيئاً أبداً من تأريخ بلادهم وتجارب حكمهم.  يا تُرى ماذا نعني بهذا الحكم الغليظ في حق من حكموا هذا الشعب العظيم وما يزالون يحكمونهم ويحكِّمون في مصائرهم.  فالمطالب حين يطالب بها أصحابها وهي في الأمر بسيطة هيِّن الإعطاء، أو وعود سهلة يسير الوفاء قد تغدو كباراً في حال تماطل الآخر و"ركوب رأسه" عناداً واستكباراً، أو عنجهيَّة وخيلاءاً، أو الإعطاء على مضض ثم النكوص على العهد ولو بعد حين.  فمسألة الفيدراليَّة التي بات أهل الجنوب يطالبون بها عشيَّة استقلال السُّودان العام 1956م غدت حكماً ذاتياً بعد التوقيع على اتفاقية أديس أبابا العام 1972م، وذلك بعد 17 عاماً من الاحتراب الأهلي.  وبعد النكوص عن اتفاقية أديس أبابا العام 1983م وعودة العدائيات واستمرارها لأكثر من حقبتين ارتفع سقف المطالب الجنوبيّة من مجرد حكم ذاتي في الفترة الانتقاليَّة إلى حكومة شبه مستقلة، وحق تقرير المصير الذي جاء متضمناً في اتفاقيَّة السلام الشامل العام 2005م، وأفضى هذا الحق إلى انفصال جنوب السُّودان في تموز (يوليو) 2011م.  وبرغم من أنَّ الانتفاعيين من أبناء الجنوب قد تقبلوا أموال أهل الحكم في الخرطوم ومساعداتهم لتوليف قلوبهم، إلا أنَّ الإنسان العادي في الجنوب كان حازماً حاسماً في رفض الركوع إلى سلطة أهل الشمال في أي شكل من الأشكال، ولطالما بقيت ذكريات المذابح والاغتصاب وحرق القرى بائنة في مخيلته، وأمست تنتج اليأس والتعاسة في حياته اليوميَّة التي يحياها بشيء من الأسى كثير.  وآية ما نحن فيه قائلون عن الضغائن والموجدة هي الأغلبيّة الساحقة التي صوَّتت لصالح استقلال جنوب السُّودان في كانون الثاني (يناير) 2011م.  وما أن مضى الجنوب إلى سبيله لم يتركه أهل الشمال، ومثلهم كمثل الذي طلق زوجه ولم يهنأ بزواجها برجل آخر؛ فها هو الكاتب الشيخ سعد أحمد سعد يكتب محللاً المشهد السياسي في صحيفة يوميَّة قائلاً: "فالجنوب نال "استقلاله"، نقول ذلك جرياً على مألوف المصطلح برغم من أنَّ الجنوب كان يستعمر الشمال وليس العكس، وأيضاً نقول ذلك جرياً على المألوف من المصطلح الذي يسمى الاحتلال استعماراً، وهو استخراب واستدمار واستنزاف."(6)  ولا نود هنا أن نخوض فيما أتى به الكاتب الشيخ من بعد، ولا التعليق على بيتي الشعر اللذين استدل بهما لكم الشيخ مقاله، وما فيهما من فجاجة وإسفاف.
وبدون تزيَّد أو استكثار، يبدو أنَّ هذا الشيخ يمثل جهلاً فاقعاً، وإنَّه لمن الغلاة الغلاظ الذين سعوا أن تستمر الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان حتى يفنى آخر مواطن من أهل الجنوب أو يهلك آخر جندي في القوات المسلحة، ومن ثمَّ يرث أهل الشمال الذين هم في الحكم جالسون أرض الجنوب وثرواتها ما ظهرت منها وما بطنت، والتي في سبيلها يسيل لعابهم.  وبرغم من الشواهد من الحيف والجور اللذين لحقا بأهل الجنوب وغيرهم من المهمَّشين الآخرين، يصر شيخنا أنَّ الجنوب كان يستعمر الشمال؛ فبأي آلاء ربكم تحكمون!  فمثل هؤلاء الناس لا تعمى أبصارهم، بل قلوبهم التي في الصدور، كما قال عزَّ وجلَّ في محكم تنزيله: "فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (الحج: 22/46).  إنَّ أي إنسان عاقل له من الفطنة والحكمة قليل كان ينبغي أن يشيد باتفاقيَّة السلام الشامل، لأنَّها أوقفت المزيد من إراقة الدماء في أجزاء من السُّودان، حتى ولئن بدأ الاقتتال في غرب السُّودان (دارفور تحديداً)، لأنَّ استبقاء بعض الناس أحياءاً خير من قتلهم كلهم أجمعين أكتعين، حيث أنَّ "بعض الشر أهون من بعض"، وهو من قول طرفة بن العبد حين أمر النعمان بقتله:
أبا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا
حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
وفي الحق، ليس من شك في أنَّ اتفاقية السلام الشامل كانت حلولاً وسطية بين الفريقين – أي الحكومة السُّودانيَّة من طرف والحركة الشعبيَّة من طرف آخر – والنُّوبة كجزء أساس في الحركة الشعبيَّة اضطروا الاضطرار كله القبول بهذا الاتفاق حقناً للدماء، وريثما يعطوا السلام فرصة (To give peace a chance)، حتى يحاولوا نيل ما لم يتم تحقيقه بالبندقيَّة عبر التحاور.  ولكن فات على حكومة المؤتمر الوطني أنَّ أي انفجار للوضع الأمني قد يدفع برفع سقف مطالب النُّوبة السياسيَّة، وذلك عملاً بالتجارب السُّودانيَّة إياها كما ذكرناها لكم سلفاً، وإذا كان الأمر كذلك مع شعب جبال النُّوبة في ولاية جنوب كردفان فسوف تنطبق القاعدة إياها على شعب النيل الأزرق ودارفور.  إذ أنَّ حركة تحرير السُّودان بقيادة مني أركو مناوي وقعوا على اتفاقية سلام دارفور بالعاصمة النيجيريَّة – أبوجا – العام 2006م، وبات الاتفاق مداداً على ورق، بعد أن أفرغته الحكومة من محتواه وأمسى خاوياً على عروشه لا يسر أحد أطرافه.
وقبل أن نختتم هذه المقدِّمة يجمل بنا أن نذكر أنَّ بروتوكول حل النزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق في حقيقة الأمر لا ينفصل عن اتفاقية السلام الشامل للعام 2005م، ويشكل معه كلاً لا يتجزأ ومجموعاً لا ينفصم، ولئن أفضى كل واحد من هذه الجزيئات إلى سبل مختلفة ونهايات متباينة.  بيد أنَّ – وعكس ما يزعمه حملة المباخر والمطبلين من المؤرخين المحدثين – الحكومة نذرت نفسها أن لا يمر البروتوكول بيسر يسراً، ووضعت في سبيل ذلك المعضلات التي نغصت على النُّوبة عيشتهم وأوقعتهم في ربك شديد، وضربتهم بالحيرة من أمر هذا البروتوكول، وعمتهم باللخمة – أي شغلتهم بما ثقل عليهم، ومن ثم أضرّت بهم السنون العجاف بحثاً عن مخرج من كل هذا، ومع الإصرار على الحفاظ على تقاليدهم الرواسخ كالجبال، وهي عدم الركوع والاستكانة للذل والهوان أينما أتى.  وبرغم مما ذكرنا اتصفت الحركة الشعبية وتمسَّكت بقدر كبير من المهاودة والموادعة والملاينة والمطاوعة في وجه مواقف المؤتمر الوطني، الذي امتاز بالمجادلة والمشاكسة والمعاندة والملاحاة في أكثر من موقف، وبالاعتراضات والصراعات والصدامات والتصدُّعات والاستقفزازات وهلم توصيفاً في أكثر من مرة.  هذه المرواغة أعاقت الضوابط والروابط التي كانت من المفترض أن تحكم الاتفاق، وعرقلت سريان القوانين على الجميع، وذلك وفق تفكير ذرائعي ومسلك وصولي شائنين.
حين يرتبك الناس بما يحدث من خلفهم ومن حولهم يأتون بتفسيرات متناقضة عما يمكن أن يحدث حسبما يتراءى لهم، وكيفما تتداعى لهم الأشياء التي تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم.  هذه سمة من سمات أهل الحكم في الخرطوم، الذين ما فتأوا يزبدون بعبارات "إنَّنا مستهدفون من قبل دول الاستكبار بسبب استقلالية قرارنا الوطني"، و"السُّودان مستهدف"، و"الحكومة مستهدفة"، و"مكتسبات الأمة مستهدفة" وهلمجرَّاً.  فالإغراء الذاتي هو العامل الرائس في التلاعب بالتعاريف الخاصة بالحقيقة في مجتمع ديكتاتوري.  على أي، فالسودان قد ابتلي باستمرار حكام تستهويهم السلطة وحب البقاء في سدة الحكم، مهما كانت هذه السدة خاوية، أو واقفة على حافة الهاوية.  ومع ذلك، ظل أولئك وهؤلاء في السلطة منذ أن كانوا شباباً حتى شابوا عليها، وبات السُّودان يرزح تحت حكومة الكهول (Gerontocracy).  ويبدو أنَّ حكومة الإنقاذ تجدف في الهواء غير النقي بسرعة متسارعة نحو الهاوية.  والأدهى والأمر أنَّها تسوق الشعب السعب السُّوداني معها في هذا التسارع المأسوي، وقياس هذه السرعة يعتمد على من يقيسها ومن أي موقع.  وقد تعلمنا شباباً في دروس الفيزياء من نظريات علماء عظام مثل ألبرت أنشتاين (1879-1955م) أنَّ طول أي جسم متحرِّك ينبغي أن يتضاءل في اتجاه سيره، وحين يبلغ الجسم سرعة الضوء، يتلاشى طوله تماماً ويصل إلى درجة الصفر.  وأي أحد يتحرك مع الجسم – بمرجعيَّة الجسم ذاته الفنية – فلسوف لا يلاحظ هذا التغيُّر في الحجم، إلا المراقبين بمرجعيَّة مختلفة، الذين يقفون ناظرين على الجانب الآخر من الطريق، أو متحركين في الاتجاه المضاد، بقادرين على رؤية التقلص في طول الجسم.  وبتطبيق هذه النظرية الفيزيائيَّة على حال السُّودان في عهد الإنقاذ – قديمه وجديده – نرى أنَّ حكومة الإنقاذ قد بدأ يقل نفوذه وتتضاءل سيادة البلد؛ إذ ذهب جنوب السُّودان إلى سبيله، وما يزال النزاع المسلح في دارفور مستمراً، وعادت العدائيات في جنوب كردفان والنيل الأزرق، ولم يتم البت النهائي في قضية أبيي، وأخذ أهالي البجة وأقاصي شمال السُّودان يتململون.  كل هذا ما هو إلا دليلاً على صحة تطبيق النظرية إيَّاها على حال السُّودان في عهد الإنقاذ، ومع ذلك، نجد أنَّ قادة المؤتمر الوطني المسافرون مع هذا الجسم السقيم، الذي يوحي في أسوأ الأحوال، أنَّهم لا يرون هذه الحال، لأنَّ ليس التكحُّل في العينين كالكحل، ولا يراعون أوضاع البلد الذي كاد أن يختفي من الوجود، ولا يرتاعون مخافة لله، وأُشرِبوا – أي أُدخلوا – في نفوسهم الرياء والنفاق.

 

آراء