بروفيسور دفع الله الترابي

 


 

 

 

هو الأخ الأكبر لزعيم الحركة الإسلامية، دكتور حسن الترابي، وهو ذات الشخصية التي تبدو أنها تنأى عن العمل السياسي لمنظومة الإخوان المسلمين. هو أكاديمي فذ لا شك في ذلك ، لكن قضيتين حضرتهما، رأيت فيهما أنه قد ولغ في بركة الحركة، وشرب من مياهها الآسنة. ليس لأخيه "دكتور حسن الترابي"، ولا لزوجته الراحلة دكتورة "زكية عوض ساتي" من أثر تراه عليه، رغم أنهما من قيادات التنظيم الماسوني، بل لمشاركته من الخفاء للحركة الإسلامية، من دعم لبرنامجها، بالعمل الدؤوب، الذي لا يتخلله الكسل، فهو من وراء سلطة التنظيم، يرعاها من موقف بعيد، يحسبه الرائي أنه جسد أكاديمي يغرد في الأعالي و بعيد عن مفاتن السياسة وإغراء الحركة المتأسلمة. يعتبره البعض أنه بعيد يحلّق في سمائه، ولكنه يدعم كل عضوية التنظيم، بالعمل لا بالحديث. فهو عميد كلية الهندسة بجامعة الخرطوم (1963 - 1969). وهو قد شارك في تأسيس العديد من الكليات والمعاهد العالمية والمحلية المتخصصة.

(2)
كانت الحادثة الأولى عند زيارتي لسكرتيرة عميد كلية الهندسة. فقد توافق مع مقدم بروفيسور" دفع الله الترابي" من انتداب في دولة الكويت. طلبت لي السكرتيرة شاي أحمر، فقد جئت لمقابلة أحد أساتذة كلية الهندسة المتعاونين مع الإدارة الهندسية. كانت آلات الطباعة قبل ظهور الطابعات الكمبيوترية، عصية على إصلاح النصوص وتعديلها. اشتكت السكرتيرة من أعمال بروفيسور" دفع الله الترابي" الخاصة، مما يعطل عملها الأساسي. وجدت مخطوطة من عدة صفحات بيد "دفع الله " جاهزة للطباعة. أخذتني نظرة فضولية، فنظرت لأجد أمامي وثيقة المؤتمر الهندسي، تحوي حتى التوصيات!، وكانت مُعدة قبل أشهر من المؤتمر المذكور، وهو ضمن سلسلة من منظومة مؤتمرات الإنقاذ ( سلطة الحركة الإسلامية الانقلابية). التي اهتمت فيها بموضوعات السياسة لتسوّق مشروعها.

(3)
وصل كتاب من عميد كلية الطب إلى دكتور" عبدالنبي على أحمد". وقد كان يشغل مدير الإدارة الهندسية بجامعة الخرطوم، يحوي الكتاب شكوى من سقوط قطع من سقف المبنى الرئيس بكلية الطب، بلغت أحجام تتراوح بين ( 2200 – 3000 سم مكعب )، وهو المبنى الذي يشابه مبنى معمل استاك من الجهة غرب شارع القصر، وكان المبنيان قد نفذتها الإدارة الاستعمارية عام 1924، وذلك تخليدا للحاكم العام الذي اغتيل في القاهرة سير" لي استاك". وذكر الكتاب أن عميد كلية الطب اتفق مع مهندس قسم الصيانة التابع للإدارة الهندسية، على إعادة تأهيل سقف المبنى الرئيس لكلية الطب من الميزانية التي تبرع بتكلفتها خريجي الكلية في منظومة خيرية لدعم كلية الطب، وقد قام مهندس الصيانة باختيار مقاول لتأهيل نظام تصريف مياه الأمطار في سقف المبنى.
قام شخصي كنائب مدير الإدارة الهندسية، والسيد مدير الإدارة بزيارة كلية الطب، وقمنا بالصعود لسقف المبني ومراقبة الشقوق، وفحصها على الحوائط الحاملة من أعلى الحوائط، وقمنا بالتدقيق على ما تم تنفيذه من قبل المقاول. وكان ذلك منتصف العام 1995.
وكتبت تقريرا فنيا، سردت فيه البيانات وفق الوثائق، وعقود المقاولة، وراجعه مدير الإدارة الهندسية، وكان أستاذا مشاركا في الهندسة المدنية, وبما أن مهندس الصيانة يرأسه مدير الإدارة الهندسية، فإنه كان يتبع أمنيا للنظام، وتلك مخابئ السلطة الإخوانية للحفر في العمل المدني العام. واحتوى التقرير أن السقف لم يكن من الخرسانة المسلحة. فقد كانت قطع خرسانية سابقة التشييد، لتكون سقفا بعرض 14 مترا، لذلك فقد تمت صيانة خلال الستينات، وتم تشييد مقصّات حديدية ( جملونات)، تستند على الحائط الحامل، وتم سقف المقصّات الحديدية بألواح الزنك، التي تمهد لصرف مياه الأمطار إلى طرفي الحائط وعبرها من خلال مصارف الأمطار إلى الحديقة، جنوبا وشمالا. وقد تم الاتفاق مع المقاول بأن تؤول له ملكية المقصّات الحديدية وألواح الزنك، للمقاول لتقليل التكلفة، على أن يقوم المقاول بتنفيذ خافجي ( رمل+ أسمنت+ كُسار الطوب الأحمر). وكانت تلك الأسقف المعتادة لسقوف الخرسانة المسلحة ( عازل حراري + عازل مائي).
ولسوء الحظ فإن السقف الذي نُفذ عام 1924، لم يكن من الخرسانة المسلحة، إذ لم تدخل تقنية الخرسانة المسلحة في مباني السودان. مما شكّل ثقلا إضافيا على السقف، وزاد الأمر سوءا أن المقاول قد زاد نسبة الرمل المكوّن للخافجي، مما ساهم في تشقق الحوائط من أعلى. ورفعنا التقرير الفني لمدير الجامعة بصورة لنائب المدير ووكيل الجامعة.
وانتظرنا توجيهات السيد المدير، وخلال الانتظار تم اعتقال دكتور" عبدالنبي علي أحمد" مجددا، وتم ترحيله إلى كسلا. وقد كانت السلطة تعتقله لفترات متباعدة لأربع أو خمس أشهر، وقد تم احتجازه لمدة شهر في بيوت الأشباح، وذلك لأنه لم يحضر مؤتمرات السلطة، إذ دعته السلطة وكان خبيرا هندسيا، وكان قبلها يشغل حاكم دارفور أيام الديمقراطية الثالثة.
في غيبة دكتور "عبدالنبي علي أحمد" في السجن، تم تعيين دكتور "عبدالله خوجلي" مدير الإدارة بصفة مؤقتة. ورأت إدارة الجامعة تشكيل لجنة فنية، برئاسة بروفيسور" دفع الله الترابي "وعضوية دكتور "عبدالله خوجلي" وأحد مساعدي التدريس بهيئة بحوث البناء والطرق وشخصي أعضاء في اللجنة. وعند زيارتها لموقع كلية الطب، ورؤية الشقوق في أعلى الحوائط، ورؤية السقف، رأى بروفيسور" دفع الله الترابي"، ضرورة الكشف عن مواسير المياه في الحديقة، لأنه يعتقد أن تسرب المياه أثر على الأساسات الخاصة بالمبنى!، واعترضتُ أن الحديقة قائمة منذ عام 1924 ونحن الآن في عام 1995، فإن الأساسات الخاصة بالحوائط الحاملة قد اعتادت على التربة المشبّعة بالمياه، فكيف تؤثر بعد تنفيذ الصيانات؟ ورأيت ضرورة إجراء core test للخافجي الذي نفذه المقاول كي نكشف خلطة الخافجي. لكن رأيي لم يؤخذ به لأن أعضاء اللجنة ورئيسها مهندسين مدنيين، فهم أغلبية أعضاء اللجنة، لم يؤخذ رأيي في الحسبان. وظهر جليا أن اللجنة ترغب تبرئة مهندس الصيانة الذي ينتمي لجهاز الأمن، وأن رئاسة "دفع الله الترابي"، وهو الذي درّس دكتور" عبدالله خوجلي" عندما كان الأخير طالبا في كلية الهندسة. عموما لم تجتمع اللجنة حتى مغادرتي للوطن في 15 يناير 1996. جلست معه وضمتنا لجنة واحدة، وكان متيقظا لصياغة نص الاجتماعات، بدقة شديدة. كان لصياغته العربية وترجمته للألفاظ الهندسية، تجبرك أن تتعرف على شخصيته الفريدة وملكاته الفذة و العجيبة، فهو رئيس الهيئة العليا للترجمة والتعريب في السودان.

(4)
ذينك الحادثتين، أوضحا لي تماما منْ هو البروفيسور "دفع الله الترابي". كان له دورا خلف كواليس الجبهة القومية الإسلامية. يظهر في العلن كشخص أكاديمي، ليست له علاقة باهتمامات أخيه الأصغر دكتور حسن الترابي ولا سياسة تشغله، ولكن الفأل الحسن، يغدو سذاجة حين نُبسط أوراق الحركة الإسلامية، لتمحيص شخوصها، فنجد الدور المأساوي لمنْ نظن فيهم الخير كله.
مَلومُكُما يَجِلُّ عَنِ المَلامِ.. وَوَقعُ فَعالِهِ فَوقَ الكَلامِ
ذَراني وَالفَلاةُ بِلا دَليلٍ.. وَوَجهي وَالهَجيرَ بِلا لِثامِ
فَإِنّي أَستَريحُ بِذي وَهَذا.. وَأَتعَبُ بِالإِناخَةِ وَالمُقامِ


أبو الطيب المتنبي
**
عبدالله الشقليني
28 يوليو2020

alshiglini@gmail.com

///////////////////////////

 

آراء