برُوفايِلْ: عَبْد الله زَكَريَّا! (صَفحَةٌ مَجْهُولَةٌ مِن كِتَابِ الإِسْلامِ السِّياسِي)

 


 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشرت النسخة الأولى مِن هذه المقالة، أوَّل أمرها، في صحف ورقيَّة، ومواقع أسفيريَّة سودانيَّة وأجنبيَّة، من بينها "الدِّيموقراطي"، و"الميدان"، و"سودانايل"، و"الحوار المتمدِّن"، و"الرَّاكوبة"، في 13 مايو 2017م؛ وها نحن ننشر هذه النُّسخة الثَّانية منها؛ بمناسبة رحيل المفكِّر الاشتراكي الاسلامي عبد الله زكريا ادريس، مؤخَّراً، بالأحد 28 مايو 2023م، عن عمر يناهز 94 عاماً، عليه رحمة الله ورضوانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)
كان، وما زال، وسوف يظلُّ، ثمَّة رنينٌ آسرٌ، لزمن طويل، وغموضٌ شديد الخصوصيَّة،لاسم عبد الله زكريا، كلَّما جاء ذكر شخصيَّته، أو تطرَّق الحديث لوقائع السِّياسة السُّودانيَّة المعاصرة، وبالأخص المتَّصلة منها بالاسلام السِّياسي، أو بليبيا كبلد، أو بالقذافي كزعيم لطالما روَّجت الشَّائعات أن "الكتاب الأخضر"، بما يحويه من روابط تنظـيريَّة جمَّـة بيـن "الإسـلام" و"الإشتراكـيَّة"، ليس من تأليفه، بل من وضع عبد الله، لولا نفي الأخير هذه "الخزعبلة"، كما أسماها بنفسه، ضمن الحوار النَّادر والشَّائق معه، والذي نستند، فضلاً عن مصادر أخرى، إلى ما اجتزأنا منه، هنا، اتفقنا أو اختلفنا حوله، حيث استنطقته، مؤخَّراً، الصَّحفيَّة النَّابهة ثناء عابدين، مشيرة إلى أن ضيقاً شديداً كان ينتابها، والحقُّ معها، كلما اضطره شاغل ما لقطع استرساله (آخر لحظة؛ 29 ـ 30 أبريل 2017م).
لكن ما يدعو للاستغراب، حقَّاً، مع كلِّ ما يحيط بشخصيَّة الرَّجل من أهميَّة، أن استنطاقاته، سواء المقروء منها، أو المسموع، أو المرئيّ، تكاد، مقارنة بأضرابه، تُحسب على أصابع اليد الواحدة، ولذا فالقليلون جدَّاً مَن يمكنهم أن يفيدوا عنه بأكثر من حفنة كلمات متقاطعة! إذ لم يُتح للكثيرين، قبل ذلك، أن يعلموا، مثلاً، أنه من مواليد الفاشر التي درس المرحلة الأوليَّة بها، والوسطى بالدِّويم، والثَّانويَّة بحنتوب التي تعرَّف فيها على رفاق دربه مِمَّن صاروا، لاحقاً، من أبرز السِّياسيِّين الأكثر تأثيراً، ثم درس الجُّغرافيا بجامعة الخرطوم، قبل أن يلتحق بجامعة لندن.

(2)
في مقتبل عمره لم يكن لعبد الله أدنى اهتمام بالسِّياسة، حتَّى أواخر المرحلة الثَّانويَّة، حيث عرض عليه صديقه بابكر كرَّار، مؤسِّس "الحركة الإسلاميَّة/ لاحقاً/ حركة التَّحرُّر الإسلامي"، الانضمام إليها، وكانت تعمل من داخل "الجَّمعيَّة الدِّينيَّة" بمدرسة حنتوب الثَّانويَّة. لكنه رفض، في البداية، اعتقاداً منه أنها تنظيم تابع لجماعـة "الأخـوان المسـلمون" الذين ظلَّ عبد الله يعتبرهم "رجعيِّين"، و"استعماريِّين"، ولم يكن ليرغب في الانتماء إليهم البتَّة، لأنهم، كما يقول، يقرنون الاشتراكيَّة بالإلحاد ضربة لازب، بينما يرى هو أنها من صميم الإسلام.
غير أن بابكر كرَّار، الذي لمس في طبيعة عبد الله ميلاً اشتراكيَّاً إسلاميَّاً ثوريَّاً، بل وقد يكون حتَّى متطرفاً، واظـب على محاولة إقناعه بأن توجُّه الحركة يناسبه، فلا علاقة لها بجماعة "الأخوان". وبالفعل، عندما استبان عبد الله الأمر، واقتنع، انخرط في صفوفها، حيث كُلِّف، وهو، بعدُ، طالب في الجَّامعة، بمناقشة المندوبين الأخوانيَّين المصريَّين، عبد البديع صقر وعبد العزيز كامل، اللذين أرسلا من مكتب الإرشاد المصري بمطلبين، أوَّلهما دمج "الحركة الاسلاميَّة" "لاحقاً: التَّحرُّر الاسلامي" في تنظيم "الأخوان المسلمون" المصري، وثانيهما التَّصويت للوحدة مع مصـر في اسـتفتاء كان يُزمـع قيامـه آنذاك. فسـلخ عبد الله ساعات طوال، مِن صلاة المغرب حتَّى صلاة الصُّبح، كي يوضِّح لهما أن الحركة السُّودانيَّة تناهض الاتِّحاد مع مصر الإقطاعيَّة، كما ترى أن تنظيمهم المصري فاشل! فأخذ هذان، من فورهما، يُحذِّران الطلاب منه، كـ "دسيسة شيوعيَّة"!
قاد عبد الله وبابكـر تيَّاراً يعمـل على الارتفاع بالطـَّرح السِّياسي الإسلامي إلى مستوى الطَّرح الثَّوري الاشتراكي، حسب رؤيتهما، والنأي به عن أيديولوجيَّة "الأخوان" الرَّأسماليَّة الغربيَّة الخطرة، برأيهما، على الإسلام، والتي تؤسِّس لتحالف أخواني أوربي أمريكي، بينما الإسلام، من وجهة نظرهما، اشتراكي، بـل اعـتبرا نظامـه الاقتصادي "ما بعد ماركسيّ"!
ولم يوضِّح عبد الله سبب تغييرهما اسم "الحركة" إلى "الجَّماعة الإسلاميَّة"، لكنه روى أن بابكر كتب دستورها، وأنهما حملاه إلى اسماعيل العتباني لينشره في صحيفة "الرأي العام"، فإذا بمانشيت الصَّحيفة يصف "الجَّماعة"، في اليوم التَّالي، بأنها "شيوعيوإسـلام"، وهي التَّسمية التي سارت عليها لاحقاً!
وبعد "العدوان الثُّلاثي" على مصر عام 1956م، أعلن بابكر وعبد الله تحالفهما مع عبد النَّاصر، بينما كان "الأخوان" ضدَّه. أمَّـا التَّسمية الأخيرة لتنظيمهما بـ "الحزب الاشتراكي الإسـلامي" فيبرِّرها عبد الله بأنَّهما اصطدما، عقب ثورة أكتوبر 1964م، بشرط وزارة الدَّاخليَّة أن يحمل اسم التَّنظيم كلمة "حزب" حتَّى يُصدَّق له بإصدار صحيفة، فاضطرا لتغيير الاسم.
ثمَّ اطلعا، بعد عقـود من الزَّمن، على "الكتاب الأخضر"، فقرَّ لديهما أن أفكاره المؤسَّسة على العقيدة "الجَّماهيريَّة" مقتبسـة من القرآن الكريم (!) ومِن يومه صار عبد الله مُستشاراًً وشارحاًً للفكر "الجَّماهيري"، ومُؤيداً لشخص وفكر العقيد القذافي.
وقد استنبط من الفكر "الجَّماهيري الثَّوري"، برأيه، فكرة تأسيس "الجَّبهة الشَّعبيَّة الاشتراكيَّة السُّودانيَّة"، حيث تولى قيادتها حتَّى انتفاضة أبريل 1985م التي أسقطت نظام مايو، فأعلن، في مؤتمر صحفي، حلَّها كجبهة كفاح مُسلح، وإقامة تنظيم "حركة اللجان الثَّوريَّة السُّودانيَّة"، بعد وفاة بابكر، والتي تولى، أيضاً، قيادتها، وأنشأ لها فروعاً في مدن السُّودان المختلفة. كما أسَّس صحيفة "الثَّورة الشَّعبيَّة" وترأس أمانة تحريرها، حتَّى المُلتقى الأخير للحركة عام2018م، قبيل سقوط نظام البشير الاسلاموي في ثورة ديسمبر المجيدة.
ويقول عبد الله عن تأسيسه لـ "حركـة اللجـان الثَّوريَّة" فـي السُّـودان، إن الثَّورة الليبيَّة "ناصـريَّة"، وهـم "ناصــريُّون"، والقذافـي، برأي عبد الله، أدخل إضافـة مهمَّة، حيث لم يكتف بتنظيم "الاتِّحاد الاشتراكي" النَّاصري، وإنَّما طوَّر نظام "المؤتمرات الشَّعبيَّة"؛ فضلاً عن أن عبد الله لم ير فرقاً بين نهج "الجَّماعة الإسلاميَّة" وبين نهج "الكتاب الأخضر" الذي يعتبره مرشداً لتطبيق الاشتراكيَّة التي لم تطبَّق، بعدُ، بزعمه، ولا حتَّى في الاتِّحاد السُّوفييتي (!) لذا يقول إن هذا الكتاب سيبقى صالحاً إلى يوم القيامة (!) ليمثل مستقبل الإنسانيَّة (!)
أمَّا تطبيق نظام "المؤتمرات" في السُّودان، عام 1992م، فيقـول إنه لم يتوقَّع له النَّجاح، أو القبول الشَّعبي. ومع ذلك نجح، حسب تعبيره، بدرجة كبيرة، لولا تخوُّف التُّرابي، وشعوره بخطره على سلطـته، مِمَّا ألجأه لإرجاع الأحـزاب، وســنِّ قانـون "التَّـوالي". وأمـا شائعة أنه هو كاتب "الكتاب الأخضر" فتلك، في رأيه، "شوفينيَّة سودانيَّة" ربَّما تأتَّت من كونه شرح الكتاب في الصُّحف الليبيَّة، فأمـر القذافي قيادات الدَّولة هناك بالاطلاع على شرحه.
وكتب عنه صديقه ورفيق دربه المهندس حامد الياس أنه أدار، في الخرطوم، "مركز الدِّراسات الأفريقيَّة" بضاحية الرِّياض، و"المركز العالمى لدراسات وأبحاث الكتاب الاخضر"، كما وأنه ظلَّ، حتي أخر أيامه، وبرغم الدَّاء والإعياء، يصدر مؤلفات سياسيَّة واقتصاديَّة، ودراسات عن السُّودان وأفريقيا.
كان عبد الله شديد الحماس لمشروع "سلطة الشَّعب". وبعد أن اطلع على "الميثاق الثَّوري لسلطة الشَّعب" الذي أعلنته لجان المقاومة، أعدَّ مذكرة ضافية بتأييد حركة اللجان الثَّوريَّة للمشروع، وحرَّر دراسات وبحوث كبرنامج عمل ثوري جماهيري للفترة الانتقاليَّة وما بعدها، من أجل إعلان قيام وترسيخ سلطة الشَّعب، وأعدَّ كتابين ومجموعة بحوث للنَّشر، وأوراق برنامج عمل ثوري جماهيري، لصياغة البرامج والرُّؤى التي تستوعب العمل الجَّماهيري للمرحلة القادمة، وكان يسأل عن الثُّوار والمناضلين بالاسم، فرداًً فرداًً، ويطلب أرقام هواتفهم.
وكان، إلى اللحظات الأخيرة من حياته، يوصي بأن سلطة الشَّعب هي الحل لأزمة الوطن المنكوب بعد حالة الحرب. وكان يرى أن سبب الاحتراب والدَّمار هو الصِّراع على السُّلطة!

(3)
ويقول عبد الله إن علاقته، كمفكر، بالقذَّافي بدأت بتوليه مهمَّة نقل "الجَّبهة الوطنيَّة السُّودانيَّة" المعادية لنميري إلى طرابلس، فسافر إليها، في ديسمبر 1972م، تحت ظرف خلاف متفاقم بين النِّميري والقذَّافي بسبب إرسال الأخير طائرات دعم لعيدي أمين أرجعها النِّميري! وفي طرابلس اجـتمع مع القيادة الليبيَّة، حيث انفتحت الأبواب أمام "الجَّبهة الوطنيَّة"، وابتدأت علاقته الشَّخصيَّة مع القذافي وبقيَّة القادة الذين يؤكِّد أن صلته بهم ما تزال مستمرَّة، حتَّى بعد تشـتُّتهم حـول العـالم، رغم مقـتل القذافي!

(4)
ويقـول عبد الله عـن انقـلاب مايـو 1969م إن نميري كان صديقه منذ حنتوب الثَّانويَّة. وإنه زاره بمعسكر جبيت، في 14 ــ 15 مايو، حيث خططا للانقلاب، سويَّاً، من الألف إلى الياء، لكنهما حدَّدا تاريخه في ديسمبر، لأن انتخابات رئاسة الجُّمهوريَّة التي سيخوضها الأزهري والإمام الهادي كان محدَّداً لها يناير، وكان الاتِّحاديُّون يتسـلَّحون من مصـر، والأنصـار من إثيوبيا، فتجمَّعت نذر الحرب الأهليَّة!
وأمَّا عن اقتحام "الجَّبهـة الوطـنيَّة" الخرطوم، في 2 يوليو 1976م، بقـوَّات تدرَّبت في ليبيا، وأسـماهم إعلام النِّميري "مرتزقة"، فيؤكـد عبد الله أنَّهم سودانيُّون، وغالبيَّتهم مثقَّفون ومدرَّبون أنصار وكوادر "أخوان"، فكان من مصلحة النِّظام أن يسمِّيهم "مرتزقة"! لكن كانت هناك أخطاء، فثمَّة إجراءات لم تُستوف، وأن كان هو شخصيَّاً، لا يعـرف السَّبب، حتَّى الآن!

(5)
أمَّا بعـد، فإن عـبد الله زكريا، وبابكر كرَّار، وميرغني النَّصري، و"شيوعيُّوإسلام"، و"الحزب الاشتراكي الاسلامي"، صفحة مجهولة، تماماً، مِن كتاب "الاسلام السِّياسي" في السُّودان، وفي المنطقة، واستكمال هذه الصَّفحة، بصرف النَّظر عن الاتِّفاق أو الاختلاف معها، ضرورة تمليها مقتضيات التَّاريخ، والاجتماع، وسائر العلوم السِّياسيَّة، أمَّا بدونها، فسيبقى أيُّ درس على هذا الصَّعيد ناقصاً، ومن ثمَّ معيباً!

***
kgizouli@gmail.com

 

آراء